ليست
هذه المقالة للثائرين من أهل سوريا الذين يعرفون لماذا ثاروا، ولكن لغيرهم
من الناس الذين يسألونهم: لماذا ثرتم؟ فلا تضيّعوا وقتكم بقراءتها، ولكن
أَقْرؤوها أولئك السائلين.
لقد كان أول ما هتف به شبابُ ثورة الغضب: "حرية، حرية" و"الشعب السوري لا يُذَل".
لن
يعرف شعبٌ عربي أبداً ما معنى هذا الهُتاف لأن أيّ شعب عربي لم يفقد حريته
ولم يفقد كرامته كما فقدها الشعب السوري، ولا حتى الشعب الفلسطيني، وأقسم
بالله على ذلك؛ أقسم بالله إن الفلسطيني عاش تحت الاحتلال اليهودي الصهيوني أكثرَ حرية وأوفرَ كرامة من السوري الذي عاش تحت الاحتلال البعثي الأسدي.
الفلسطيني
يمكن أن يُعتقَل وأن يعذَّب، لكنْ يستطيع محاموه أن يدافعوا عنه أمام
المحاكم (ضمن القانون الإسرائيلي الجائر، ولكنه قانون).
على الأقل يعرف أهله أين هو
على الأقل يعرفون أنه حُكم عليه بالسجن عاماً أو ألف عام
على الأقل يعرفون أحيٌّ هو أو ميت
على الأقل يستطيعون أن يزوروه في أوقات محددة
على الأقل يمكنه هو نفسه أن يسأل فيمَ اعتُقل وفيمَ حوكم أو سُجن.
أما
في سوريا فلا يعرف المعتقَل في أي شيء اعتُقل، ولو سأل فإن الجواب الأقرب
أن يقال له "لك لسان يسأل يا..." أو أن يتلقى ضربة بالبسطار على رأسه،
وربما قُتل من بعد، ولن يعرف في أي شيء قُتل.
أما
أهله فلن يعرفوا أبداً أين اختفى، ولو سألوا عنه فليس بعيداً أن يلحقوا
به، لأن السؤال عن المعتقَل جريمةٌ أكبر من جريمة المعتقَل التي لا يعرفها
أحد!
في سوريا كل الناس عبيد؛ إنهم ليسوا أكثر من دجاج في قفص!
كان
لواحد من أصدقائي منذ سنوات متجر لبيع الدجاج الحيّ، فإذا زرته وجدت أمامه
أقفاصاً فيها دجاج، يفتح أحدها ويمد يده فيقبض على دجاجة ويسحبها خارجاً
للذبح، وبالطبع لم أسمع يوماً أيَّ دجاجة من الدجاجات في القفص تحتجّ بكلمة
اعتراض.
الشعب
السوري ما يزال يعيش في قفص مشابه منذ أربعين عاماً، إي والله. لو كنتَ
مواطناً سورياً تحت حكم الأسد -عافاك الله- فإن عناصر الأمن يمكنهم أن
يقتحموا بيتك في أي وقت من ليل أو نهار، ويجرّوك أو يجرّوا ولدك أو زوجتك
إلى حيث يريدون.
لا
يحق لك أن تعترض ولا يحق لأحد من أهل بيتك أن يسأل، ولن يعرف مَن بقي في
البيت أبداً من الذي اعتَقَل، ولن يعرف أبداً إلى أين ذهب الذي اعتُقِل.
وكنت
أزور صاحبي في متجره ذات يوم، فوصلت العربة التي تنقل الدجاج من المزرعة
وقد تكدست فيها الأقفاص وتكوّمت الدجاجات في الأقفاص أكواماً، فلما جاء
سائق العربة يسلّمه "البضاعة" راح يمد يده إلى الأقفاص ويفحص الدجاجات،
فكلما وجد واحدة منها ميتة سحبها فألقاها في حاوية القمامة، ثم عَدَّ
الباقيات وأخذ توقيعاً بالاستلام.
وسألته
عن السر، فقال إن حشر الدجاجات في الأقفاص ورحلتها الطويلة من المزارع إلى
المتاجر يندر أن تمرّ بسلام، ولا بد أن تَنْفُق بعض الدجاجات على الطريق
بسبب سوء ظروف النقل والتخزين!
هل
تصدقون أن أجهزة الأمن عاملت شعب سوريا كله وطوال عقود كما يعامل بائع
الدجاج دجاجاته، فإذا صار المرء في قبضتها لم يبقَ فرقٌ بين موته وحياته،
ولا يسأل أحدٌ أحداً كيف مات مَن مات من المعتقَلين وكيف عاش مَن عاش؟
الله يقول عن نفسه: "لا يُسأَل عمّا يفعل"، جَلَّ جلالُ الله، وأجهزة
الأمن في بلادنا أرادت أن تشارك الله في صفاته فصارت لا تُسأَل عما تفعل،
فالناس ملك لها تتصرف فيهم كما تشاء، تنتزع ممن تشاء منهم حريته ولا يسألها
أحد، وكرامته فلا يحاسبها أحد، وحياته فلا يعاقبها أحد.
الكبار
والصغار والرجال والنساء، والعرب والكرد والمسلمون والمسيحيون، كل واحد
حمل هويةً سوريةً فكأنما حمل صكّ عبودية، وصار الكل مماليك وأجهزة الأمن هم
المالكون، ويا ليتهم يتصرفون في مماليكهم كما يتصرف راعي البهائم في
البهائم، بل هم أذل وأهون، وهم أدنى قيمة من البهائم والحيوانات.
وتسألون الشعب السوري -بعدُ- فيمَ ثار؟
وتستكثرون على الشعب السوري -بعدُ- أن يضحي بألف شهيد ليفتدي نفسه من العبودية؟
لو علمتم ما يعلم أهل سوريا لرضيتم أن تضحوا بمليون شهيد لتتخلصوا من حياة العبيد!
ملاحظة:
اجتمعت قبل يومين بجار بعيد فسألني عما يجري في سوريا، وحينما أفضت في
الحديث بدا عليه الاستغراب، وما لبث يسألني كل هُنَيهة وأخرى: كل هذا يحصل
في سوريا؟ وأنا أجيب بالإيجاب.
ثم
سأل أخيراً باستغراب: وكيف سكتّم كل هذه السنين؟ في تلك اللحظة أدركت كم
قصّرنا في كشف جرائم النظام السوري بحق شعبه، وعندئذ قررت أن أكتب هذه
الكلمات.