اقل من شهرٌ
واحد من الآن لا يزيد ولا ينقص يفصلنا عن رفع راية استقلالنا... شهرٌ واحد فقط
وبلادُنا تودِّع وحدة الدماء والدموع ويغادرنا سرطان الوحدة الذي فتك بجسدنا
المتعب وأحال حياتنا إلى جحيم لا يُطاق على مدى عقود من الزمان ومنذ فجر الاستقلال
المنقوص في يناير 1956.
لكن هل يتعافى الجسد المتعب في التاسع
من يوليو أم أنه سيظل مثخناً ببعض النتوءات السرطانية الصغيرة التي ينبغي أن
نعجِّل ببترها قبل أن تتحول إلى مشكلة جنوب أخرى لا تقل فتكاً وتدميراً؟!
لعن الله قرنق وأنزل على سيدته أمريكا
بأسَه وغضبَه كما فعل بعادٍ وثمود... فقد أتى بما لم يسبقْه إليه أحد من شعوب
الأرض الأخرى حين جعل من حكم السودان جميعه شمالاً وجنوباً هدفه الأسمى وإستراتيجيته
العظمى واستعان بدول الإيقاد وبعصا أمريكا وجزرتها الكذوب ليحصل على نيفاشا التي
وضعت اللبنات الأولى لقيام مشروع السودان الجديد في السودان الشمالي سواء بالوحدة
أو الانفصال كما قال باقان فكانت النيل الأزرق وجنوب كردفان هما منصّة الانطلاق
بعد الانفصال لتحقيق هدف قرنق وبعد مصرعه هدف أولاده في الشمال والجنوب...
الرويبضة عرمان وعقار وعبد العزيز الحلو ثم باقان وزمرة أولاد أبيي لوكا ودينق
ألور وإدوارد لينو.
بقي شهرٌ واحد ينبغي أن نرفع فيه شعار
أن يكون استقلالنا نظيفاً كصحن الصيني نحرِّر فيه أرضنا جميعها ولا نترك ذرّة من
ترابها الطاهر لجيش المغول الجدد وعملاء الحركة المنضوين تحت ما يُسمى بقطاع
الشمال.
لا غرو أن تزور مندوبة أمريكا في مجلس
الأمن سوزان رايس الخرطوم بوجه متجهِّم وتحطّ طائرتُها في جوبا بوجه طلق وسرور
بالغ وتعانق سلفا كير بالأحضان بل بقُبلة حارّة تطبعُها على لحيته الكثَّة مما
صوَّرته صحافة الخرطوم!!
هذه الأيام تذكِّرني بآخر محطات
نيفاشا حين كثّفت أمريكا من ضغوطها على الخرطوم حتى تستجيب لمطلوبات نيفاشا التي
ظللنا نحصد زقّومها المُر الذي يغلي هذه الأيام في بطوننا كغلي الحميم في جنوب
كردفان والنيل الأزرق وأبيي... وقتها كانت أمريكا تسوق أعضاء مجلس الأمن كالضأن
وتجمعهم في نيروبي على مرمى حجر من نيفاشا مستخدمة عصاها الغليظة التي كانت تهشّ
بها على مفاوضينا وتُجبرُهم على الإذعان لإرادتها.
أمريكا تعلم أن هذه أيام حصاد دولة الجنوب
المستقلة مع مناطق الجنوب الجديد ولم يبقَ غير شهر واحد ولذلك تكثف رايس من
تهديدها ووعيدها وتجمع مجلس الأمن من أجل توقيع عقوبات جديدة حتى بدون أن ترفع في
وجوهنا تلك الجزرة التي خدعتنا بها قُبيل نيفاشا ويبدو أن أمريكا تعوِّل على أن
الصين هذه المرة لن تجرؤ على مقاومة أمريكا بعد أن منّوها ببترول الجنوب بالرغم من
أن الشمال بإمكاناته لا يقارَن بالجنوب المهدَّد بالصوملة والفشل..
ما يطمئنني شيئاً ما هذه المرة أن
الحكومة تعلم أن تفريطها في أرض الشمال قُبيل ذهاب الجنوب سيحمِّلها لعنات التاريخ
ويجعلها ترتكب أكبر خطيئة في حق السودان الشمالي وشعبه ويُفقدها المشروعية ويُحيل
اسمها إلى «ثورة الخيانة» بدلاً من «ثورة الإنقاذ الوطني»!!
لا خيار أمام الحكومة سوى أن تضع شعب
السودان أمام مسؤوليته التاريخية وأن تخاطبه بالحقيقة وتستنفره فوالله ما خذلها
شباب السودان ودبّابوه وهم يذودون عن حياض السودان قديماً شمالَه وجنوبَه فكيف وقد
باتت الحرب دفاعاً عن السودان الشمالي المسلم؟!
إن على الحكومة أن تعلم أنها مطلوبٌ
منها أن تكفِّر عن كل بلاوى نيفاشا وعن انسحاب جيشها بالكامل من جنوب السودان في وقتٍ
سمحت فيه للجيش الشعبي بالبقاء في الشمال ولا خيار لها وقد بقي شهرٌ واحد للانفصال
غير أن تُخرج القوات الأجنبية المسمّاة بالجيش الشعبي من النيل الأزرق وجنوب
كردفان.. وأن ترفض إخراج القوات المسلحة من أبيي.. كيف بربكم يجوز أن نُخرج القوات
المسلحة من أرضنا كما لو كانت تحتل أرضاً أجنبية؟!
وصيَّتي الأخيرة في هذا المقال أن
تركِّز الحكومة على ضرب رأس الأفعى فلو هُدِّدت جوبا أو حُرِّرت لجاءتنا أمريكا
جاثية على ركبتيها مستجيبة لكل ما نطلب فهلاّ استخدمنا اللغة التي لا تفهم أمريكا
غيرها وهلاّ وظّفنا الكروت المتاحة بما في ذلك عدم الاعتراف بدولة الجنوب وقذف بعض
الحجارة في بيت زجاج الجنوب!!