ما أرعبه منظرا أن نرى مثلا أن جيش السودان الوطني يشتبك مع مليشيات دارفور بعد أن قضى عقودا من السنين وهو يحاول استنقاذ السودان الجنوبي من مخالب المشروع الانفصالي الذي لم يخفِ تعاونه ليس فقط مع اسرائيل بل مع ما يسمى «بجيش الدفاع الاسرائيلي» تدريبا وتمويلا لوجيستيا وحضورا عسكريا وميدانيا على مرأى ومسمع الحكومة المركزية في الخرطوم. وكل ما استطاعت فعله هو التوسل بواسطة الدوحة «ما غيرها!» الى اتفاق مع غارنغ الذي قتل في ما بعد بسبب ترجيحه للبقاء داخل السودان الموحد وكان هذا الاتفاق يقضي بطرح الاستفتاء على الجنوبيين بحيث يخيّرهم ما بين البقاء في دولة السودان أو تكون لهم دولتهم الانفصالية. ولم تفعل حكومة الخرطوم ازاء ذلك أي شيئ يذكر دون أن تركّز في أضعف الايمان على التمسك بجنوب السودان ولو لفظيا، وعندما اقترب الاستفتاء أخذت تتكلم عن نتائجه مسبقا وكأن الانفصال سيفوز بالأغلبية الساحقة وكأن رئيس الدولة المركزية عمر البشير الذي هتف له الوحدويون السودانيون والعرب وكأنه رمز لبقاء السودان موحدا وكان البشير حريصا على تطمين الانفصاليين الجنوبيين، بأن العلاقات ستبقى جيدة بينهما بعد الانفصال وظل يتصرف على أساس أن الانفصال واقع لا محالة. واذا كان لا بد من اكتناه السر عن سبب هذا الاستسلام لأطروحة الانفصال سلفا من جانب رمز الوحدة عمر البشير، فلا نجد جوابا سوى أن هذا الاستسلام لمقولة الانفصال هو مقايضة «السكوت» على عدم تسليم البشير لمحكمة الجنايات الدولية مقابل بقائه رئيسا للسودان ولو موقتا مع ابقاء سيف المحكمة مسلطا فوق رأسه اذا حاول أن يتصرف بسياستيه العربية والخارجية وكأنه متمسك بالثوابت الوطنية والقومية وعندئذ سوف يصيبه ما أصاب القذافي مع اختلاف الطبيعة الاثنية لليبيا مع الطبيعة الاثنية السكانية بين شمال وجنوب السودان مع اختلاف الصفقة بين حاكمي السودان وليبيا التي عقدت بين كل منهما وأساطين «لعبة الأمم المسكونة» صهيونيا ، أنّ القذافي قدم على طبق من ذهب كل ما أنجزه وأنفق عليه من محاولة صنع قنبلة نووية ليبية مقابل عدم التشهير به خلال السنوات التي أعقبت هذه الصفقة، بأنه راع للارهاب وأنه سيتعرض لغزو أجنبي محتمل اذا لم يسلم ما أنجزه للولايات المتحدة التي كان قد ذاق بعض ضرباتها في مطلع قيامه بما أطلق عليه اسم «ثورة الفاتح»، وهكذا تمكنت اسرائيل دون اطلاق رصاصة واحدة من جانبها من تحقيق انفصال جنوب السودان عن شماله وكسبت أيضا في توقيت يكاد يكون متزامنا مع انفصال السودان قيام حرب ضروس بين شرق ليبيا وغربها وتدمير مشاريع عملاقة لم يدفعها القذافي من «بيت أبيه» أبو منيار بل من أموال الشعب الليبي وثرواته الوطنية مبالغ اسطورية تحمّل الشعب الليبي أثقالها مقابل مشاريع اعتبرها القذافي عملاقة، وكأنه كان يعرف منذ اليوم الأول للثورة المضادة لثورته أن هذه المشاريع على أهميتها سوف تصبح أثرا بعد عين اذا وقعت حرب أهلية أو حصل غزو أجنبي. حتى أن ابنه سيف الاسلام صرح خلال بدء الاضطرابات الحالية في ليبيا أن كل شيء قد تم انجازه من قبل مُرشّح لأن يُسوّى بالأرض. وكان باستطاعة القذافي مع تزامن الاضطرابات في «جماهيريته العظمى» وقبل أن يبدأ الاجتياح الجوي لفضاء ليبيا الذي تقذف حِمَمه خلال مئات ألوف الطلعات الجوية قد سعى لتدمير كل مشاريع المجتمع المدني التي أنجزت دون أن يتحرك حتى لسان عربي واحد من مسؤولين كبار لاستنكار هذا الغزو، ولو من المنطلق القائل اذا كان يجوز عدم الإنتصار للنظام الليبي ولو بالكلمة درءا لأي تدخل مستقبلي ضد أي نظام آخر، فلا يجوز السكوت على تدمير بلد عربي ومقايضة خرابه ودماره وابادة المدنيين من مواطنيه مع القضاء على كتائب الجيش الليبي التي بدت حتى بعد دمار معظمها بأنها أسلحة تستطيع الصمود واصابة الهدف وأنها من النوع الذي لو خاض حربا ضد عدو حقيقي وخاصة العدو القومي الاسرائيلي لكانت في صمودها قتاليا خير عزاء يستطيع العرب الذين تتمزق قلوبهم حسرة على جيوشهم التي تضم فلذات أكبادهم ولكنهم يرون بأم أعينهم كيف يجري تدمير هذه الفرق من الجيش الليبي ليس من العدو القومي ويكون الطرف الآخر هو طرف ليبي أو العكس واذا كانت الحسرة القرآنية على الذين وصفتهم الآية وصفا دقيقا عندما قالت: «قل هل أدلكم على الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا» مع اضافة كلمة في آية أخرى تصف ما كان يصنعه قوم كانوا كما تقول الآية: «يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين» مع فارق ان مخربي بيوتهم بايديهم في لييبيا يختلفون عن الذين كانوا يخربون بيوتهم بأيديهم في الماضي ان الليبي «يُفضّل» عدم يقظة بل غفلة وسوء تدمير حكامهم الذين يخربون بيوتهم بأيديهم وايدي أخوانهم اللبيين الآخرين.
ومع ذلك ورغم الخدمات الجلّى التي قدمها نظام العقيد سواء عن قصد أو غير قصد للعدو القومي الذي كان ينوي استعداده لمحاربته ولدرجة أنه أوعز فيها للجماهير الليبية في بداية الثورة أن تهتف قائلة: «يا دايان جاك معمر»! علما أن امكانات معمّر في ذلك الوقت كانت مجرد أمنيات اذا صدقناها وكان لها بعض المنطق بسبب الربط الظاهري بين ليبيا ومصر وربط ثورة القذافي بثورة عبد الناصر مما جعل الرأي العام الليبي يعتقد فعلا رغم الطابع غير الجدي وأحيانا الهزلي لقرارات معمر وتصرفاته ـ أن سعيه المحموم للوحدة تارة مع مصر وطورا مع تونس وأطوارا مع الدول المغاربية الواحدة بعد الأخرى ـ الى ان ينتهي الأمر بالتوجه نحو عمق أفريقيا مقدما بذلك خدمة للاستراتجية المعادية التي تريد أن تحول من يزعمون أنهم ثوريون وممانعون أو هاربون من أنفسهم وبني قومهم ومستعدون أن يجعلوا أمانتهم للقومية العربية التي زعموا أنهم تسلموها بناء لعبارة قالها عبد الناصر خلال زيارته لليبيا في سنوات الثورة الأولى بحيث تصبح مجرّد ذكرى من الذكريات. وقد نسي القذافي خلال معظم الأربعة عقود التي قاد فيها ما أسماه «ثورة الفاتح» حميمية ولائه لعبد الناصر وثورته ولم يتذكرها الا منذ أيام عندما أراد أن يخطب متوجها بكلامه هذه المرة الى الأمة العربية فضلا عن الشعب الليبي بعد أيام من الذكرى التاسعة والخمسين لثورة 23 يوليو فيكون خطابه «بكائية» على حسني مبارك ولوما موجها للثوار المصريين الجدد من شباب 25 يناير فبدلا من أن يبكي على حسني مبارك وقبله عل زين العابدين بن علي لكان أجدر به أن يقوم بمظاهرة يقودها بنفسه معلنا تحيته لشباب مصر الذي أعاد الاعتبار لكرامة الأمة مظهرا ولاءه لثورة 23 يوليو 1952 ولكان جعل الذين ثاروا عليه في ليبيا معزولين لأنهم ارتكبوا خطأ لا يقل فظاعة عن خطئه هو بالذات عندما استعانوا علنا وجهارا ونهارا بأربعين دولة أطلسية لتعينهم على تدمير بلدهم تحت عنوان حماية المدنيين من غارات القذافي عليهما وهنا لا بد من أن يردد القذافي مخاطبا نفسه مبديا ندمه قائلا لنفسه: «وما تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور»!
وهذا ينقلنا لمعرفة ما حل بثور 25 يناير الرائعة بمصر وكان على العرب جميعا أن يُشمّروا عن سواعدهم لحمايتها بكل وسيلة ـ وكان يجب لو كان فيهم من يدرك روعة المكسب الذي تحقق بزوال النظام البائد ـ أنه لا يتخلى عن ثورة 25 يناير الا اذا أصيب الثوار «بعمى الألوان» عندما انساقوا الى محاولة تقبل رياح الفتنة والتفرقة بين الجيش والشعب وهو أمر لم يحدث في تاريخ مصر حتى عند وجود الانكليز خلال عقود. فقد كانت هناك معادلة واضحة في ضمائر ووجدان المصريين أن الجيش المصري لا يمكن أن يكون ضد الشعب، ولكن بعض المغفلين قد فهموا ببغائيا أن كلمة جيش أو عسكر تعني الديكتاتورية حتى ولو كانت قائمة لحماية الثورة والمدنيين من «سرّاقها» السياسيين المحترفين والذين يريدون أن يخرّبوها عبر تأييدهم السطحي الظاهري لها حفظا لماء وجوههم مع استعدادهم لضربها من داخلها في أول فرصة متاحة لهم حتى ولو كانت عملا معاديا يقوم به العدو. واذا لم يكن الشيطان قد نفخ في صدورهم برياح الفتنة فان العدو نفسه قد راهن على امكانية أن يطلق الشعب عبر تصور المجلس العسكري الذي لم يألُ جهدا في حماية الثوار وعدم اقدامه على قمعهم منذ بدء تحركهم واستجابته اليهم وكأنهم رغم مكانتهم وتجربتهم قد جعلوا أنفسهم بتصرف الشباب وترتيب قرارتهم وتقديمها للشعب بصورة محترمة وكأنّ المجلس العسكري هو «المحكوم» المطيع والمؤمن باخلاص بضرورة حمايتهم قد قوبل بنسيان هؤلاء الشباب أن المحاولات الفتنوية التي تمتد خيوطها قادمة من أروقة تل أبيب والقدس المحتلة مرورا بالسفارة الاسرائيلية التي يخفق علمها في مواجهة وجدان الشباب في قلب مصر وليس بعيدا عن ميدان التحرير لكي يحقق بسهولة احدى امنيات اسرائيل التي يعادل مفعولها في خدمة الكيان الصهيوني مفعول قنبلة فراغية تلقى على مدينة أو عاصمة عربية علما بأن المجلس العسكري حقق بالتنسيق مع شباب مصر الثوار خلال ستة أشهر فقط، أمورا هامة حتى على الصعيد الخارجي عندما أظهرت مصر حرصها وتصميمها على التمسك بالثوابت الوطنية والقومية درجة الاثبات بالوقائع على الأرض حرصها على استقلالية القرار مع ابقاء علاقاتها مفتوحة مع العالم الخارجي ولو شكليا لكي تتجنب عزل الثورة مع احتفاظها الثابت والصخري بالمبادئ التي يطمح اليها الشعب المصري المتعطش للكرامة ولرفع المعنويات «بعد الدهر» الذي جثم فيه نظام مبارك وقبله السادات على صدور أبنائها وأول ما فعله المجلس العسكري هو العمل على تحرير الارادة السياسية المصرية من الوقوع تحت وهم وتهاويل اتفاقات كامب ديفيد ترفض أن تستسلم لقيود هذا الاتفاق الذي يجب وضع حد لتطاوله على السيادة المصرية خاصة من جانب المنحرفين الداخليين بمن فيهم الذين يحملون رايات الأصولية المنحرفة وليس رايات الأصولية السليمة المعافاة حيث يراد استبدال العدو الذي ارتكب مجازر غزة واجتاح لبنان وارتكب المجازر بعدو وهمي هو في الواقع دولة صاعدة تقف معنا في مواجهة العدو العنصري، كما أن هذا المجلس العنصري أهدى الى الشباب المصري والأمة العربية أمينا عاما جديدا للجامعة العربية يتمسك بالثوابت القومية. ولأول مرة يرفع الحظر عن مرور قطعات بحرية لدولة جارة صديقة تشاركنا استراتيجية رفض الاستسلام للمشروع الاسرائيلي الشرق أوسطي. والجيش المصري الذي كان من حظ مصر والعرب أن يظل محتفظا بعقيدته الوطنية القومية القتالية محددا هوية العدو القومي الذي تاه الكثيرون من أدعياء الوطنية والقومية عن سلوك طريقه اللاحب القويم .
ولا بد أن تخرج الجماهير العربية مع القوى الحية في شوارع مدن وعواصم الدول العربية من باب المندب الى خليج العقبة ومن المحيط الى الخليج صارخة بنداء واحد قوي ومدو بقطع الطريق على القوى التي تريد تفتيت الجيوش العربية بيد أبنائها بدلا من أن تسعى الحكومات لتأمين توازن القوى في وجه العدو الذي يريد جعل حجم القوى العربية مجتمعة أقل من حجم القوى التي تتمثل بجيش العدو ومعداته المتقدمة بل تريد لعبة الأمم أن تجعل اسرائيل متفوقة على جميع الدول العربية بجيوشها وتقنياتها الحديثة.
ولقد وصل الأمر درجة رؤية الجيوش العربية تكاد تنزف في الداخل وفي الساحات وفي الميادين في موجهة المؤامرات الداخلية بدلاً من مواجهة العدو على الحدود وشبكات مخابراته السراطانية في الداخل