إبراهيم عمر - الجزيرة توك - غزة
ثماني سنوات مرت على الجريمة الإسرائيلية التي شاهدها الملايين حول العالم لطفل لم يبلغ الثانية عشرة من عمره، يحتمي في حضن والده الذي يحتمي بدوره ببرميل صغير بالقرب من مستوطنة إسرائيلية وسط غزة، فيما الجنود الإسرائيليين المتحصنين في برج للمراقبة يطلقون رصاص بنادقهم عليهما بشكل مركز وكثيف، وسط صراخ واستغاثة من الطفل ووالده، اختلطا بصوت الرصاص, قبل أن يخفت صوتهما ويسقط الطفل صريعا بعد إصابته بعدة رصاصات ويصاب الوالد بحالة من الهستيريا، ليكتمل المشهد الدرامي، الذي ما كان لأحد أن يعرف عنه شيئا لولا تمكن عدسة المصور الفلسطيني طلال أبو رحمة من تصويره كاملا, ليساهم ذلك في إثارة الفلسطينيين الذين كانوا قد أشعلوا لتوهم الانتفاضة الثانية عقب الزيارة الشهيرة لأرييل شارون للمسجد الأقصى.. منذ ذلك الحين أصبح الطفل "محمد الدرة" رمزا يعبر عن مدى القسوة والعنف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، واعتبر الكثيرون مشهد مقتله بهذه الطريقة أحد أهم أسباب اشتعال الانتفاضة وبقائها حية، بعد أن راهن الإسرائيليون على أن ما جرى عقب زيارة شارون للأقصى لا يمثل سوى "هبّة" صغيرة ستنتهي سريعا كما حصل في مرات سابقة، إلا أن تلك الهبة استمرت وتصاعدت مخلّفة الكثير من الأحداث التي غيرت وجه المنطقة.
حينما سرت صور استشهاد الدرة كالنار في الهشيم وشاهدها ملايين البشر حول العالم، وخرجت على أثرها مظاهرات حاشدة في العديد من الدول العربية وغير العربية، لم تجد إسرائيل بدا من الاعتراف بها والتعبير عن الأسف لمقتل الأبرياء، مع التأكيد على أنها ستفتح تحقيقا داخليا حول الحادث، إلا أنه ومع مرور الوقت ظهر جليا أن "هزيمة إعلامية نكراء" لحقت بالدولة العبرية، وصُنف هذا المشهد على انه الأكثر إضرارا لوجه إسرائيل منذ قيامها، لذا بدأت سلسلة من الإجراءات المنظمة لإزالة تلك الصورة السوداء بكافة الطرق، ولا زالت تناضل إلى اليوم من اجل التأكيد على أنها لم تقتل الدرة، وان من قتله هم المقاومين الفلسطينيين، بل إن بعض المدافعين عنها ذهب إلى القول بأن محمد الدرة لم يمت، ولا زال يعيش حتى يومنا هذا في غزة!.
طوال الأعوام الثمانية المنصرمة والأبواق الإعلامية الإسرائيلية لم تصمت للحظة، وتردد باستمرار في الغرب بأن جيشها لم يقتل ذلك الطفل الفلسطيني، وأنشأت إسرائيل من اجل هذا الغرض الكثير من الأبواق الإعلامية، في وقت شنت حرب شرسة على "قناة فرانس 2" الفرنسية التي التقط مصورها الفلسطيني الصور، ولوحق مدير مكتبها في القدس شارل انديرلان، بل وتلقى تهديدات بالقتل على يد متطرفين إسرائيليين، إلى أن طرحت القضية أخيرا للنقاش أمام محكمة إسرائيلية. وطالب مكتب المحاماة الإسرائيلي القومي المتطرف "شورات هادين" المحكمة العليا الإسرائيلية بسحب بطاقات اعتماد مراسلي القناة، الذين اتهمهم بفبركة صور مقتل الدرة، بينما أكد انديرلان، أن المحاكمة "تندرج ضمن حملة مغرضة مستمرة منذ ثماني سنوات بسبب تأثير تلك الصور، وهي حملة غايتها نزع الشرعية عن عمل الصحافيين".
وذكر محامي القناة أن "أي محكمة إسرائيلية أو أجنبية لم تخلص إلى يومنا هذا إلى أن صور التحقيق مفبركة بل على العكس تم الحكم على المدعين "بتهمة التشهير" أربع مرات أمام محاكم فرنسية، وما زالت إحدى الدعاوى في الاستئناف".
وفي المقابل قال مدير مكتب المحاماة "شورات هادين" إن صور التحقيق التي "التقطها مصور فلسطيني وإطلاق النار الذي قتل فيه الطفل محمد الدرة في أحضان والده، مركبة بدون أدنى شك، وأنجزت بهدف خدمة غايات دعائية فلسطينية".
وقالت محامية المكتب إن هذا "التركيب الحق ضررا هائلا بصورة إسرائيل في العالم"، مضيفة "إن رئيس المكتب الصحفي الحكومي الإسرائيلي دانيال سيمان يؤيد موقفها، الأمر الذي أعرب عنه في رسالة وجهها إلى مكتبها في تشرين الثاني/أكتوبر".
ولعل قراءة صغيرة لبعض ما تروجه الأبواق الإسرائيلية كافيا للوصول إلى استنتاج واضح، مفاده أن كل ما تريده إسرائيل هو تبرئة ساحتها فقط، مع أنها تدين نفسها بنفسها وتخلق من حججها براهين جديدة على أنها متورطة تماما في هذه الجريمة.
فالحجج الإسرائيلية تنوعت بين الاعتراف في البداية بالمسؤولية، إلى القول بأن محمد الدرة قتل بسلاح الفلسطينيين الذين كانوا يشتبكون مع الجيش الإسرائيلي، إلى التأكيد بأن ما جرى كان "تمثيلية" هدفها إحراج إسرائيل وتلطيخ صورتها (إلا أن الطفل ووالده لم يتوقعا أن يصل الأمر لهذا الحد)، إلى القيام بعد ذلك بإزالة مسرح الجريمة تماما لقطع الطريق على أي تحقيق ميداني في الحادث، وأخيرا إلى الترويج بأن محمد الدرة ما زال على قيد الحياة، وانه شوهد "يشتري البندورة" من أحد أسواق غزة! بعد هذه الحجج تريد إسرائيل القول بأنها بريئة من دم الطفل محمد الدرة، وهي التي قتلت ما يزيد عن 1000 طفل فلسطيني منذ قتلها للدرة، وكثير منهم بوحشية اكبر من تلك التي شاهدها العالم عبر شاشات التلفاز، فأي استخفاف واستهانة بعقول البشر هذا الذي تمارسه من تدعي بأنها "واحة الديمقراطية والتقدم في الشرق الأوسط" ؟!