في 13 سبتمبر 1940، شنّ الإيطاليون هجوما على مصر بقيادة غراسياني ، وبعد ثلاثة أيام وصلوا
وتوقفوا عند سيدي براني. وفي 9 ديسمبر ، ردت القوات البريطانية بهجوم مضاد
، بقيادة الجنرال ويفل وسرعان ما انهارت الجبهة الإيطالية ، ليأسروا 130
ألف جندي ايطالي ( بينهم بضع آلاف من المجندين الليبيين ) و400 دبابة
و1200 مدفع .
وسرعان ما تراجعت فلول الطليان. واحتل الإنجليز برقة ، ودخلوا مدينة بنغازي ليبقوا فيها 56 يوما ، قبل أن ينسحبوا في يوم 3 أبريل 1941 أمام الهجوم الكاسح الذي شنه الألمان بقيادة الجنرال رومل.
وبدورهم شن الطليان العائدون حملة انتقامية من كل من ظنوا أنه تعاون مع
الإنجليز. وكان مع الإنجليز وحدات من الجيش الليبي الذي أسس مؤخرا في مصر.
وعاد الجيش البريطاني ثانية ( 25 / 12 / 1941) إلى بنغازي ، لكنهم اضطروا خلال
شهر التراجع إلى الحدود الليبية المصرية أمام اندفاع الفيلق الأفريقي من
الجيش الألماني. وبدا استيلاؤه على مصر أمرا محتملا. لكنه توقف داخل
الحدود المصرية ، وبقيت المواجهة إلى أن استلم الجنرال مونتجمري قيادة
الجيش الثامن البريطاني وحصل على تعزيزات ، مكنته من الانتصار في معركة
العلمين الشهيرة ومن ثم التقدم في ليبيا ، ليدخل الإنجليز بنغازي يوم 20
نوفمبر 1942 ، ثم مواصلة الزحف إلى طرابلس التي دخلوها في 23 يناير سنة
1943.
تلك هي الخطوط العامة لمراحل الحرب ، لكنها لا تنقل
إلينا تفاصيل المعاناة والرعب الذي رافق تلك الأحداث. وقد حالفني الحظ في
العثور على وصف بقلم أحد أبناء طرابلس ، أقتطف منه هنا بعض الفقرات بشئ من
التصرف: ’’
وأمام نذر الهزيمة المؤكدة ، بدأ الطليان في تخريب منشآتهم العسكرية وتفكيك ونقل بعضها .. ’’ وشاهد الناس حالة الفزع والرعب .. الذي انتاب الطليان .. فأصبحوا يجوبون شوارع طرابلس ويتعلقون
بأي مركبة متجهة نحو الحدود التونسية ، لا فرق في ذلك بين العسكريين
والمدنيين وخاصة أعضاء الحزب الفاشستي .. فاستبشر الليبيون خيرا ..‘‘.
ويصور أحد أبناء الظهرة ، أجواء طرابلس إبان الحرب. إذ فقدت المدينة اتصالها
بأبنائها المهاجرين في تونس ومصر. وتوقفت المدارس وانقطع السكر وشح الدقيق
والدخان ، وامتلأت الليالي بأزيز الطائرات ولهيب القنابل .. حتى كانت ليلة
الشؤم ، ليلة الفراقيط .. ليلة صبت فيها بوارج الحلفاء نيرانها على
المدينة.
وعاشت المدينة أثناء الحرب في جو من الأكاذيب والتبريرات الإيطالية التي أصرت على أن النصر سيكون حليفها .. وفي النهاية غادرجنود إيطاليا طرابلس دون مقاومة. وجاء الإنجليز .. ثم عاد في إثرهم
أسرى الحرب من المجندين الليبيين ، أو " اليسرا " كما سماهم الناس
بالدارجة الليبية.
وفي البداية سرت موجة من الفرح والتوقع بين الناس عندما دخلت إيطاليا الحرب ، على امل أن تقود إلى تغيير ما أو
على الأقل تخفيف قبضة الطليان على البلاد. ومبكرا قامت طائرات فرنسية بشن
غارة على ميناء طرابلس. واضطر المقيمون بوسط المدينة إلى الخروج إلى
البساتين في الضواحي وإلى القرى المجاورة لطرابلس. وكانت المرحلة التالية
هجوم إيطاليا على مصر وكان أن توقف زحف الجيش الإيطالي بقيادة السفاح
غراسياني عند سيدي براني ، ثم أسره عندما قام الجيش الإنجليزي بشن هجوم
مضاد. وتقدم الإنجليز إلى العقيلة. ولجأ معظم مستوطني برقة إلأى طرابلس
التي أمست مكتظة.
وتواصلت الغارات الجوية الإنجليزية على المدينة وسقطت إحدى الطائرات المهاجمة على محلة كوشة الصفار بالمدينة
القديمة وهدمت عددا من البيوت وراح ضحية الحادث عدد كبير من القتلى والجرحى. وهكذا ازدادت الهجرة إلى خارج المدينة ، وأقام الكثيرون في أكواخ بالضواحي. ونقصت السلع والمواد الغذائية ونضبت النقود بتوقف الأعمال.
ويصف الأسطى جوانب من الحياة الصعبة والخطرة آنذاك. من ذلك أنه كان يمتلك
مذياعا. وكان المذياع آنذاك يحتاج لترخيص ودفع رسوم سنوية لإدارة البريد ،
وإلا تعرض للمصادرة. وقام بتهريب مذياعه إلى بني وليد حيث لجأت أسرته
ليسمع الأخبار من لندن والقاهرة ، ثم يخبئ الجهاز تحت السرير .. وكان
الطليان قد نصبوا مكبر صوت في ميدان السوق ببني وليد لإذاعة بياناتهم
الدعائية. ثم حمل مذياعه إلى العزيزية‘‘.
نزلت القوات الألمانية في العقيلة وتقدمت حتى العلمين داخل الحدود المصرية ، وارتفعت
معنويات الطليان. وأعيد فتح المدارس في طرابلس. لكن الدراسة لم تستمر سوى
شهرين ، نظرا لبدء الهجوم الإنجليزي بقيادة مونتجمري. وواصل الإنجليز
تقدمهم نحو طرابلس ، ’’ ووقفت أشهد أرتال دباباتهم وهي تتقدم .. وهكذا
شهدت بأم عيني دخول الطليان إلى طرابلس .. وأن أشهد خروجهم منها في 23
يناير 1943 .. ولا يستطيع القلم أن يصف مشاعر الارتياح التي عمت الأهالي
بالخلاص من الطليان .. حتى أنهم نسوا كوارث الحرب .. وطاف جنود الجيش
الثامن الإنجليزي ، وكانوا نيوزلنديين .. بالشوارع .. وتجاوزت عمليات
النهب حدودها .. واستمر الحال على ذلك لمدة تزيد عن شهر .. وتعطلت
المواصلات نهائيا واقتصرت على الدواب .. وخيم شبح المجاعة. لكن مقاومة
الألمان والطليان لم تطل ، وانسحبوا إلى صقلية .. فشعر الناس بالأمان
وبدأوا العودة إلى طرابلس .. ثم انتشرت حمى التيفود وحصدت الأرواح‘‘.
ووصلت الدبابات الإنجليزية ونصبوا الخيام وأقاموا معسكراتهم .. وحرصوا على كسب ود
الليبيين وسرعان ما ’’ ربط أفراد القوات الإنجليزية علاقة مع الأطفال قامت
على مقايضة البيض .. بالشاهي والسكر والأرز والدقيق‘‘ كما يقول الجنزوري.
وسرعان ما تحولت المقايضة إلى تجارة مزدهرة شملت الملابس والأحذية
والبطاطين وعلب الدخان. وعاد النازحون الذين لجئوا إلى القرى المحيطة
أثناء الحرب ، إلى بيوتهم. لكن الحرب هي الحرب ، فانتشرت البطالة
وارتفعت الأسعار .. وازداد التسول والسرقة والدعارة