الانفراد السوري ان حدث سيكون الاخطر ...
يتيح لاسرائيل محاصرة المفاوض الفلسطيني وقضم المزيد من أراضي الضفة
لا احد في المنطقة يفسر الضجة التي اثارتها الوساطة التركية بين سورية وبين اسرائيل لمبادلة الجولان كاملا مقابل سلام كامل بانها عرض اسرائيلي جاد، خصوصا في ضوء الاستنكاف الامريكي عن دعم هذه الوساطة، غير ان مجرد التلويح بتنشيط مسار السلام السوري ـ الاسرائيلي انما يعيد تسليط الاضواء علي مضاعفات ومخاطر أي انفراد عربي بالصلح مع اسرائيل علي القضية الفلسطينية قبل ان يحصل عرب فلسطين علي الحد الادني من حقوقهم الوطنية التي تمنحها الشرعية الدولية لهم.
وقد ادرك الجانبان السوري والفلسطيني قبل غيرهما ان المبادرة الاسرائيلية لا تعدو كونها من جهة تكتيكا يستهدف دق اسفين بين دمشق وبين طهران في سياق الجهود الامريكية ـ الاسرائيلية المعلنة للفصل بين العاصمتين تمهيدا للانفراد بكل منهما علي حدة، ومن جهة اخري وسيلة لزيادة الضغوط علي الرئاسة الفلسطينية لابتزاز تنازلات منها تقربها من التطابق الامريكي ـ الاسرائيلي في تفسير رؤية الرئيس جورج دبليو بوش لحل الدولتين، ومن جهة ثالثة مناورة لاغراء سورية بتقليص دعمها لحماس وحزب الله اللبناني، ومن جهة رابعة لاستخدام تحريك المسار السوري كغطاء للفشل علي المسار الفلسطيني.
وسورية نفسها واعية لمخاطر تكرارها للانفراد المصري ثم الاردني بالصلح مع اسرائيل علي القضية الفلسطينية. ففي الرابع والعشرين من الشهر الماضي، عشية زيارة الوسيط التركي رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان لدمشق، نسبت وكالة الانباء الرسمية سانا الي وزير الخارجية وليد المعلم قوله ان اسرائيل اذا كانت ملتزمة بالانسحاب الي خط الرابع من حزيران (يونيو) 1967 وكانت جادة ومستعدة لصنع السلام عندئذ لا يوجد ما يمنع استئناف المحادثات معها بشرط الا تؤثر (هذه المحادثات) سلبا علي المسار الفلسطيني . والقيادة الفلسطينية بدورها بدت مدركة ايضا للمناورة الاسرائيلية القديمة الجديدة لضرب مسارات السلام العربية الثنائية ببعضها.
غير ان وعي الجانبين لتجنب الوقوع في فخ المناورة الاسرائيلية الجديدة لضرب المسارين ببعضهما لا يعني باي حال ان احتمال التضارب بينهما لن يظل قائما. ان اعادة الجولان العربي السوري المحتل الي اهله تبدو حتمية تاريخية ومسألة وقت فقط لعدة اسباب اهمها ان فلسطين هي المستهدفة اصلا بالمشروع الصهيوني الذي لن يتوسع عربيا الا بعد ترسيخ احتلاله الاستيطاني لفلسطين واحلال مستوطنيه اغلبية محل الاغلبية العربية فيها، ثم ان الهدف الاسرائيلي المعلن لعدوان عام 1967 الذي قاد الي احتلال اراضي اربع دول عربية كان مبادلة هذه الاراضي المحتلة بالسلام مع دول الطوق العربية لتحييدها في الصراع علي فلسطين وللانفراد بعرب فلسطين، وقد تحقق الهدف الاسرائيلي في مصر والاردن وبقيت سورية ولبنان.
وليس سرا ان سورية تأمل في جبهة سلام سورية لبنانية فلسطينية توفر في الاقل التنسيق بين المسارات الثلاثة لتعزيز مواقف مفاوضيها ان لم تستطع التغلب علي الاصرار الاسرائيلي علي ثنائية المسارات وفك أي ارتباط محتمل فيما بينها، غير ان هذا الامل السوري جوبه ولا يزال بالسد المنيع لـ القرار الفلسطيني المستقل الذي اضعف المفاوض في الجانبين وكان سببا في التوتر الفلسطيني ـ السوري المتواصل الذي انفجر دما محرما اكثر من مرة وما زال عاملا حاسما في الاستقطاب الفلسطيني حد الانقسام.
كانت الترجمة العملية للقرار الفلسطيني المستقل هي اتفاقيات اوسلو السرية التي فاجأت الوفد الفلسطيني المفاوض العلني في واشنطن والاردن قبل ان تفاجئ سورية وكانت نسخة فلسطينية مناسبة تماما للقرار الاسرائيلي ب ثنائية مسارات التفاوض. والمفارقة الاحدث ان استقلالية هذا القرار تتناقض، نظريا في الاقل، مع مبادرة السلام العربية التي اجمعت عليها جامعة الدول العربية، هذه المبادرة التي نجحت في الاجماع علي استراتيجية السلام لكنها فشلت في الاجماع علي التفاوض الموحد عليها ناهيك عما يقتضيه المنطق من تأليف وفد واحد للتفاوض عليها، اذ ما زال اصحابها اسري قراراتهم الوطنية المستقلة ومرتهنين للشرط الاسرائيلي المسبق بثنائية التفاوض.
ان الاحتمال الواقعي لسلام سوري اسرائيلي منفرد يجب ان يشعل ضوءا احمر في دوائر صنع القرار الوطني الفلسطيني لانه سيكون اخطر من الانفراد المصري والاردني. فابرام معاهدة سورية ـ اسرائيلية سيليه بالتأكيد ابرام معاهدة مماثلة مع لبنان لتجد أي تسوية فلسطينية اسرائيلية نفسها محاصرة ومعزولة تماما بين مطرقة الاحتلال وسندان الالتزامات العربية المنبثقة عن معاهدات السلام كما اثبتت تجربة حوالي ثلاثين عاما من المعاهدة الاسرائيلية مع مصر وقرابة خمسة عشر عاما من المعاهدة مع الاردن.
ان تزامن التلويح بتحريك المسار السوري، مع خيبة الامل المعلنة للرئاسة الفلسطينية من نتائج قمة بوش ـ عباس في الرابع والعشرين من الشهر المنصرم، ينبغي ان يدفع المفاوض الفلسطيني الي وقفة غير تكتيكية لاجراء مراجعة كاملة وشاملة وجذرية لاستراتيجية التفاوض الفلسطيني وحصادها المر منذ عام 1991.
كما ان الاشارات المتكررة خلال الاشهر الماضية من الرئاسة الفلسطينية الي بدء الشعب الفلسطيني في البحث عن بدائل ينبغي ان تتجاوز كونها مجرد رسائل تحذير الي المجتمع الدولي المعني بتحقيق تسوية سياسية للصراع العربي ـ الاسرائيلي انطلاقا من العقدة الفلسطينية لهذا الصراع لكي تبدأ الرئاسة الفلسطينية في البحث فعلا وحقا عن بدائل للعملية السياسية التي انطلقت من مدريد عام 1991 بعد ان اثبتت عملية الانعاش الاخيرة التي اجريت لها في انابوليس اواخر العام المنصرم ان النفخ في الميت لم يعد مجديا. غير ان البديل الوحيد الذي ما زالت الرئاسة تبني آمالا عليه هو مؤتمر موسكو الدولي في حزيران (يونيو) المقبل اذ نقلت الاسوشيتدبرس عن عباس قوله في العاصمة الروسية اثناء زيارته الاخيرة لها ان هذا المؤتمر يجب ان ينقذ عملية السلام ، متجاهلا ان المسار السوري سيكون علي الارجح محور هذا المؤتمر ليضاف الجهد الروسي الي الوساطة التركية في العمل من اجل استئناف المحادثات السورية الاسرائيلية بعد ثماني سنوات من انقطاعها في شيبردزتاون بولاية فرجينيا الغربية الامريكية.
وقد اصبح من الأجدي للرئاسة الفلسطينية ان تبني حساباتها السياسية علي اساس ان رحم ادارة بوش عقيمة بحيث لن تنجب قبل انتهاء ولايتها في كانون الثاني (يناير) المقبل حتي اعلان مبادئ جديد اعلن الرئيس عباس صراحة انه ليس بحاجة الي مثله ليحل محل اعلان المبادئ الذي وقعه في واشنطن عام 1993، اذ لم يعد هناك ما يسوغ تأجيل عدم مصارحة الشعب الفلسطيني بان طريق المفاوضات الحالية محكوم عليه بان يظل مسدودا الي حين وصول ادارة جديدة في واشنطن، وهذا هو الاستنتاج الذي توصلت اليه القيادة السورية وصارحت شعبها به وبنت حساباتها السياسية علي اساسه. وحتي يشغل رئيس جديد مقعده في البيت الابيض الامريكي ثم يأخذ وقته المألوف لترسيخ ادارته قبل ان يقدم علي مبادرات حاسمة في السياسة الخارجية يوفر مهلة سنتين في الاقل لكل من المفاوضين الفلسطيني والسوري لاجراء مراجعة معمقة للعلاقات الثنائية، المتفقة علي السلام كخيار استراتيجي، تعيد النظر في ايجابيات وسلبيات السير في مسارين منفصلين مستقلين للتفاوض مع دولة الاحتلال الاسرائيلي وفي جدوي أي محاولة جادة لمواجهتها بجبهة تفاوضية فلسطينية سورية لبنانية، اكثر تنسيقا ان لم تكن موحدة، تكون محورا لجبهة سلام عربية مساندة يتوفر الاساس السياسي لها فعلا ممثلا في مبادرة السلام العربية، ولاستغلال المهلة الزمنية التي تتيحها الفترة الانتقالية بين ادارتين في الولايات المتحدة في حشد الدعم العربي والدولي لمثل هذه المقاربة لتسوية الصراع.
فقد حان الوقت للتوقف العربي عن سباق المسارات وفق الشروط الاسرائيلية لهذا السباق الذي كان الاطار المنطقي للتفاوض الثنائي ولمعاهدات السلام المنفردة التي اسقطت الخيار العسكري العربي النظامي الذي طالما بني عرب فلسطين امالهم عليه وحولت اصحابها الي وسطاء في الصراع وعمقت الانقسام العربي وجعلت الموقف العربي اضعف حد العجز حتي في المواجهة السياسية والتفاوضية وحد ان ينساق هذا الموقف الي التصنيف الامريكي ـ الاسرائيلي لظاهرة المقاومة باعتبارها ارهابا ، فهذا استحقاق عربي طال انتظاره اكثر من اللازم.
اذكر لقاء عام 1987 في نادي الصحافة بواشنطن مع وزير الخارجية الامريكي الاسبق سايروس فانس في عهد الرئيس جيمي كارتر سألته فيه: لماذا لا تؤيد بلاده قيام دولة فلسطينية؟ فاجاب بان العرب لا يتفقون علي الحرب ولا يتفقون علي السلام وانهم لم يتفقوا علي قيام دولة فلسطينية وان الرئيس العربي الوحيد الذي عرض علي واشنطن قيامها حتي ذلك الحين كان الرئيس الجزائري الاسبق الشاذلي بن جديد، وان أي ادارة امريكية لا تستطيع تجاهل أي اجماع عربي علي اية قضية. ويبدو ان الانقسام العربي ما زال حتي الان ثابتا يبني عليه كل اعداء الأمة حساباتهم، انقسام يتعمق ويستمر باسم القرار الوطني المستقل الذي لا يدافع عن استقلاله امام الهيمنة الاجنبية لكن حساسيته مفرطة في تجنب حتي التنسيق مع الاشقاء، وقد حان الوقت لكي يتوحد العرب عند حد ادني من التضامن الرسمي حول السلام بعد ان عجزوا عن التوحد حول الحرب.
لطالما وصف الواقعيون العرب المتعاهدون علي الصلح مع اسرائيل المعارضين لهم، خصوصا بين عرب فلسطين، بالعدمية والانفصال عن الواقع الاقليمي والدولي. لكن ما آلت اليه عملية السلام الفلسطينية الاسرائيلية، التي حاصرت القيادة الفلسطينية حتي تورطت فيها، يثبت بما لا يدع مجالا لاي شك بان الانفراد العربي بالسلام او الاجماع العربي عليه قبل ان يضمن عرب فلسطين الحد الادني الذي تمنحه لهم الشرعية الدولية من حقوقهم الوطنية هو خطأ ما كان له ان يتم، لانه في احسن الاحوال حقق سلاما منفردا باردا رسميا تحول الي مظلة لمواصلة تصفية القضية الفلسطينية بالحقائق التي يواصل الاحتلال خلقها فوق الارض الفلسطينية المحتلة، بينما يظل هذا السلام مهددا باستمرار بالحروب العدوانية الاسرائيلية التي تستهدف فرض معاهدات منفردة مماثلة علي من لم يوقعها بعد، وبالمقاومة والممانعة لذلك، ويظل بالتالي محاصرا بالرفض الشعبي الوطني والقومي له.
لقد انتقدت سورية الانفراد المصري والاردني والفلسطيني لكنها الان تقف منفردة امام خيار منفرد بحكم الامر الواقع وهو ابرام سلام انفرادي. ان الارتفاع غير البريء لنبرة الاستقلال اللبناني والفلسطيني سوف يعفيها من اعباء أي محاولة لالزامها بخطابها القومي كي لا تذهب منفردة الي سلام ستكون نتيجته الحتمية ترك عرب فلسطين منفردين لرحمة احتلال سعي دائما الي الوصول لهذه النتيجة المأساوية التي لا يحتاج المحلل الي جهد كبير كي يدرك بان خاتمتها المنطقية ستكون تصفية القضية الفلسطينية لصالح المشروع الصهيوني بينما العرب يتفرجون التزاما بالمعاهدات المنفردة التي وقعوها او سيوقعونها.
ان أي مطالبة فلسطينية او عربية لسورية بعدم الانفراد بحجة عدم ترك المفاوض الفلسطيني منفردا تحت رحمة القوة الساحقة للاحتلال وحليفه الامريكي ستكون مطالبة غير مجحفة فقط اذا ما امكن تخيير دمشق بين الانفراد في المسارات السورية والفلسطينية واللبنانية وبين توحيد هذه المسارات او في الاقل توفير حد ادني ذي مصداقية من التنسيق بينها يحولها الي جبهة تفاوضية موحدة مسنودة بالاجماع العربي علي السلام كخيار استراتيجي.
ولا يبدو الرئيس الفلسطيني غير مدرك لهذا الخيار الواقعي ، ففي محاضرة له بمعهد موسكو للعلاقات الدولية في 18 الشهر الماضي اعرب عن آمال كبيرة في ان يمهد مؤتمر موسكو لعملية سلام شاملة للشرق الاوسط كافة تشمل سورية ولبنان ، غير ان عباس ما زال عليه ان يترجم آماله الي استراتيجية وتحالفات تفاوضية جديدة تنسجم معها وتنقذ المسار الفلسطيني من أي انفراد سوري من المؤكد انه ان حدث سوف يحكم طوق السلام العربي حوله ليظل مسارا معزولا مفتوحا للتفاوض لا نهاية له سوي استكمال الاحتلال للحقائق التي يخلقها علي الارض استكمالا لا يبقي للمفاوض الفلسطيني ما يتفاوض عليه.