مشكلة إصلاح مجلس أمن الأمم المتحدة كنتيجة لأزمة نظام يالطا




سامارين و خاخلوف

ترجمة: د. محمد الطاهر



بعد الحرب العالمية الثانية حدّد نظام يالطا ـ بودسدام العلاقات الدولية، التي كان أساسها اتفاق الدول الكبرى المنتصرة. حكومات هذه الدول اعترفت كل منها للأخرى بمناطق النفوذ المحددة، ما أعطى للنظام صفة ثنائي القطبية. بانحلال الاتحاد السوفييتي صار الحديث عن اختفاء نظام يالطا ـ بودسدام أمرا واقعيا، وفي الوقت نفسه بقيت كثير من عناصره. إحدى الهيئات الأساسية لنظام يالطا ـ بودسدام هي منظمة الأمم المتحدة.

الحرب الباردة التي نشبت سريعا بعد اعتماد ميثاق الأمم المتحدة، أعاقت آلية حفظ السلم الجماعية. استطاع مجلس الأمن الدولي منذ عام 1946 م إلى عام 1990 م، مرتين فقط اتخاذ قرار يثبت فيه واقعة " الإخلال بالسلم". المرة الأولى ضد جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية(الشمالية) في عام 1950 م. المرة الثانية في عام 1982 م بمناسبة احتلال الأرجنتين لجزر الفولكلاند .

وصل خلال تلك الفترة العدد الإجمالي للنزاعات إلى 300 تقريبا. بهذه الصورة، كانت آلية الحفاظ الجماعي على السلم الدولي، واقعيا ً مشلولة في أثناء سنوات الحرب الباردة. منظمة الأمم المتحدة قامت من وقت لآخر بمهام لحفظ السلام، ولكنها لم تنجح ولو في مرة واحدة في إقرار السلم في المنازعات التي يكون أحد أطرافها عضوا من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن. الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي استعملا إمكانيات منظمة الأمم المتحدة من اجل تجميد تطور الخلافات التي لا علاقة لهما بها. السبب الآخر لعدم فاعلية منظمة الأمم المتحدة كان حق الفيتو الذي يتمتع به الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن.

هنا من الأجدر العودة وتفحّص تلك المبادئ، التي وضعت في أساس نشاط منظمة الأمم المتحدة، وهي ثلاثة: المحافظة على السلام الدولي، حصانة الحدود وحقوق الإنسان.

اتسعت آفاق انبعاث اتفاق الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي، كنتيجة لانتهاء الحرب الباردة، وبالعلاقة مع العدوان العراقي على الكويت في عام 1990 م. مجلس الأمن الدولي أعطى صلاحيات للدول " لاتخاذ كافة التدابير اللازمة لتحرير الكويت". الاتحاد السوفييتي والدول الغربية الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن أيدوا القرارات، وتحفّظت جمهورية الصين الشعبية. مبدأ الإجماع تم الالتزام به. في يناير عام 1991 م، حين بدأ التكتل الدولي الذي تزعمته الولايات المتحدة عمليته المسماة "عاصفة الصحراء" لتحرير الكويت، وأُعتُبر هذا الحدث كبداية لانبعاث فاعلية مجلس الأمن الدولي.

من الضروري ملاحظة أن منظمة الأمم المتحدة نفسها لا تملك قوات عسكرية، لهذا فلتطبيق عقوباتها ندبت لهذه المهمة تلك الحكومات، التي أبدت استعدادها لتنفيذ تلك القرارات.

المثال الآخر، على الرغم من كونه أكثر تعقيداً، في تعبيره عن تطبيق التدابير الجماعية للحفاظ على السلم والأمن الدوليين برعاية الأمم المتحدة، تُعبر عنه العملية في البوسنة. في شهر يونيو عام 1991 م أعلنت سلوفينيا وكرواتيا خروجهما من الاتحاد اليوغسلافي، الأمر الذي اعترفت به منظمة الأمم المتحدة. الصرب الكرواتيون بمساعدة بلغراد بدأوا نشاطاتهم العسكرية. كرواتيا التجأت إلى منظمة الأمم المتحدة بالخصوص. وفي ربيع عام 1992 م اتخذ مجلس الأمن الدولي قرارا ً بإرسال قوات لحفظ السلام إلى المنطقة.

في شهر مارس عام 1992 م أعلنت جمهورية أخرى، هي البوسنة استقلالها عن يوغسلافيا. الصرب في البوسنة بدأوا نشاطات حربية ضد الحكومة المسلمة، وتمكنوا من إحكام السيطرة على معظم أراضي الجمهورية، كما قام الكروات الصرب بأعمال مشابهة. في شهر يونيو عام 1992 م بسط مجلس الأمن الدولي تفويض قوات منظمة الأمم المتحدة على البوسنة. وبما أن الأعمال العسكرية لم تتوقف، فان منظمة الأمم المتحدة فرضت حظرا على تزويد الأطراف المتقاتلة بالأسلحة.

لكن قرارات منظمة الأمم المتحدة لم تتجسد في الحياة. المجتمع الأوروبي عدل عن التفويض المُقرر إلى استعمال القوة، والولايات المتحدة الأمريكية امتنعت عن لعب نفس الدور الذي لعبته في عملية" عاصفة الصحراء". بدورها روسيا أيدت القرارات بخصوص البوسنة، لكنها وقفت بإصرار ضد توجيه ضربات للمواقع الصربية.

التحوّل في الموقف البوسني حلّ في بداية عام 1994 م، عندما قصف الصرب سوقا ً في سراييفو. هذا العمل أدى إلى رد فعل عاصف في الرأي العام الدولي. الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول الأوروبية شرعت في تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي التي تقضي بالإكراه على الجنوح إلى السلم باستخدام قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو). ضربات حلف شمال الأطلسي الجوية غيّرت موازين القوى، مما هيأ الشروط المناسبة للتوقيع في باريس في 14 ديسمبر عام 1995 م على اتفاقية التسوية السلمية. نشاط الأمم المتحدة، بهذا الشكل، باستخدام القوة لفرض السلام، من ناحية المبدأ حقّق أهدافه، وبذلك اختلقت هذه العملية عن " عاصفة الصحراء".

كان للصراع البوسني خصوصية الصراع الداخلي، مع تدخل كبير من طرفي صربيا وكرواتيا. الفارق الهام هو وجود العامل الإنساني. الميزة الأخرى المخالفة هي أن الآلة العسكرية لمنظمة الأمم المتحدة أصبحت قوات حلف شمال الأطلسي. في النهاية، لم تكن السياسة الروسية ذات مدلول واحد. موسكو تعاملت بنقد مع تصاعد دور الولايات المتحدة في البلقان، رغم عدم معارضتها للقرارات بخصوص البوسنة، بما في ذلك التي تضمّنت عقوبات باستعمال القوة، لهذا فالغرب وروسيا اقتربا نحو الأزمة البلقانية الجديدة في كوسوفو من مواقع مختلفة.

الأزمة في كوسوفو اختلفت جذريا عن سابقاتها، وإذا ما نشطت منظمة الأمم المتحدة في الكويت والبوسنة لمناصرة الحكومات المستقلة، فان الحالة في كوسوفو من الناحية القانونية كانت شأنا داخليا ً لجمهورية الاتحاد اليوغسلافي. مجلس الأمن الدولي اتخذ ثلاثة قرارات، عبّر من خلالها عن قلقه بخصوص الحالة الإنسانية في كوسوفو، بما في ذلك ما يختص بحقوق الإنسان، وتضمّنت الطلب من جمهورية يوغسلافيا الاتحادية سحب قوات الأمن الصربية من كوسوفو، وأيضا ً توفير الحماية للمراقبين الدوليين. هذه القرارات نددت " بكل أعمال الإرهاب" التي يقوم بها جيش تحرير كوسوفو. روسيا وقفت مع التسوية السلمية للأزمة. الآلية الأساسية لتحقيق هذه الأهداف كانت انتخاب " مجموعة اتصال" تتألف من كل من الاتحاد الروسي، الولايات المتحدة الأمريكية و الاتحاد الأوروبي.

المعارك بين قوات الاتحاد اليوغسلافي وقوات تحرير كوسوفو في ربيع عام 1998 م، أدّت إلى هروب ما يقارب 300 ألف الباني إلى الجبال. أعلن في هذه الظروف مجلس حلف شمال الأطلسي، أنه في كوسوفو توجد كل علامات " الكارثة الإنسانية"، وأكد إصراره على توجيه ضربات إلى القوات الصربية، إذا لم تُوقف نشاطاتها العسكرية ضد السكان المدنيين. روسيا صرحت، بأنه في حالة عرض هذه المسألة في مجلس الأمن الدولي، فإنها ستصوت ضدها. ومع ذلك، بعد أن رفض ممثلي بلغراد التوقيع على مشروع اتفاقية اللقاء الذي جرى في مدينة (رامبويي ) بتاريخ 24 مارس 1999 م، والتي تضمّنت إدخال قوات حلف الناتو في كوسوفو، حلف الناتو بدأ عملية " القوة الحليفة".

روسيا والصين وعدد آخر من الدول شجبت نشاطات حلف الناتو، باعتبارها تدخل في الشأن الداخلي لدولة مستقلة ذات سيادة. وأشارت إلى أنه في أول مرة، تتجاهل منظمة عسكرية ـ سياسية، ميثاق منظمة الأمم المتحدة.

تُرصد في نشاطات منظمة الأمم المتحدة في كوسوفو وبالأخص في البوسنة، اتجاهات جديدة، هي حق المجتمع الدولي التدخل في الشؤون الداخلية للدول، ليس فقط لحفظ السلام، ولكن لأسباب إنسانية أيضا ً. ظهرت في كوسوفو كل التناقضات بين مواقف منظمة الأمم المتحدة المعلنة حول حقوق الإنسان، وحول حقوق الدول المستقلة، وحول حق الشعوب في إدارة شؤونها الذاتية.

وهكذا، بالعلاقة مع الأزمة البلقانية الأخيرة، ظهرت سؤالان مبدئيان. الأول: هل تُعتبر "الكارثة الإنسانية" مبررا ً للتدخل في الشؤون الداخلية لدولة مستقلة؟ الثاني: هل تملك أية منظمة أو أية دولة منفردة حق اتخاذ قرار بخصوص التدخل في الشؤون الداخلية لدولة ذات سيادة، على غير ما يتطابق مع ما ورد في المادة 51 من الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة*؟

إجابة على السؤال الأول، أنصار المسلك التقليدي يؤكدون، أن التدخل ممكن في حالة صدور عقوبات من مجلس الأمن الدولي فقط في حالات " تهديد السلم الدولي، أو العمل العدواني والإخلال بالسلم ". وبرأي أنصار التدخل، أن السيادة لم تكن أبدا ً مفهوما ً مطلقا ً.

منذ بداية العلاقات الدولية ظهرت قواعد للسلوك في الأمور الدولية، اعترف بها السواد الأعظم من الدول. مبدأ حماية حقوق الإنسان كان قد ضُمّن في ميثاق منظمة الأمم المتحدة، وفي غيرها من الوثائق. الدول التي قبلت الالتزامات ضمنت هذه الحقوق. مع ذلك الكثيرون خالفوها بصورة منظمة. الأمر الأساسي أصبح مشكلة تحقيق وتطبيق الحقوق المُعلنة في الواقع الحياتي .

المشكلة الثانية لها علاقة مباشرة بنظام يالطا. إقامة مجلس الأمن الدولي قضى بوجود 5 دول، ارتبط اتفاقها بفاعلية منظمة الأمم المتحدة. بدون علاقة أن تكون هذه الدول هي " المدير" الوحيد، الذي يتحمل مسؤولية حفظ الأمن، أو تتقاسم هذه الدول العالم إلى مناطق نفوذ، وتعمل في منظمة الأمم المتحدة كمنظومة لاستتباب وحفظ التوازن الدولي. في أعقاب إقامة كتلتين، عمليا، أي تدخل في الشؤون الداخلية لدول المعسكر المضاد كانت تؤدي إلى المواجهة، فلقد امتلكت الدول الكبرى في مناطق نفوذها السيادة.

بروز عالم القطب الواحد كان له عاقبتين على منظمة الأمم المتحدة:

1. منظمة الأمم المتحدة، بدون مساندة الولايات المتحدة الأمريكية، ليست في حالة فاعلة تسمح لها بحلّ مشكلة حفظ السلام الدولي.

2. الولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة الكبرى الوحيدة، التي تطمح أكثر فأكثر أن تزاول نشاطها بعيدا عن منظمة الأمم المتحدة.

الولايات المتحدة الأمريكية بنفسها تحاول القيام دور حامي العالم، ومع ذلك فهي إذا ما كانت في أعوام التسعينات من القرن الماضي قد حاولت الحصول على دعم منظمة الأمم المتحدة لنشاطاتها، فإن القيادة الأمريكية في العام 2000 م ـ فتحت الباب لتجاهل المنظمة الدولية. بهذا الشكل منظمة الأمم المتحدة، جوهريا، بدت عديمة القدرة على حل عدد كبير من المشاكل الدولية. تلك الضربات التي وجهها، سلاح الجو الأمريكي للعراق، هي أكثر من أي شيئ، ضربات لسمعة مجلس أمن منظمة الأمم المتحدة. أولا ً: القواعد القديمة، عندما كان هناك خمس دول كبرى ـ الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن، خمس دول، تمتلك السلاح النووي، يمكنها تحديد بدرجة كبيرة السياسة الدولية، في الوقت الراهن، عمليا، هي غير فاعلة. السلاح النووي اليوم لا يوجد فقط عند الأعضاء الخمسة الدائمين، ولكن عند باكستان، والهند، ومن الممكن أن يكون عند عدد أخر من الدول. ثانيا ً : في القرن الواحد والعشرين مسألة قوة الدول الكبرى، بدرجة كبيرة، تعتمد على الإمكانيات الاقتصادية. بوجهة النظر هذه، ظهرت قوى اقتصادية ضخمة جديدة، مثل الاتحاد الأوروبي، واليوم يدور الحديث حول انضمام كل من المانيا واليابان إلى مجلس الأمن الدولي.

الموقف الذي يقول، إن ميثاق منظمة الأمم المتحدة لا يمكن إصلاحه، بلا شك، عفا عليه الزمن. وفي الوقت نفسه المسألة الأساسية بخصوص مصير منظمة الأمم المتحدة لن ترتكز على مسألة إلى أي مدى سيتضاعف عدد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، وإنما بأي قدر ستضحي الدول الأعضاء في المنظمة الدولية بسيادتها الذاتية من اجل حماية حقوق الإنسان، وأيضا إلى أي حد ستتمكن منظمة الأمم المتحدة من تجاوز تبعيتها للولايات المتحدة الأمريكية.