أراد محمد علي أن ينفصل بإمبراطوريته التي تضم مصر و السودان
و الحجاز و الشام عن السلطان العثماني و صارح قناصل أوروبا بما ينوي عليه،
و لكن القوي العظمي آنذاك حذرته من الإقدام علي هذه الخطوة.
كما قام السلطان العثماني بعقد معاهدة سرية مع روسيا دفاعية
هجومية ( معاهدة خنكار أسكله سي) في يولية 1833 لإخراج محمد علي من سوريا.
من ناحية أخري كانت إنجلترا تشجع السلطان العثماني علي إخضاع
محمد علي و تقليص نفوذه ، خوفاً منها أن تتحول إمبراطورية محمد علي إلي
قوة جديدة دولية تؤثر علي موازين القوي الدولية. كما أن القوي الأوربية
كانت تفضل الإمبراطورية العثمانية العجوزة التي بدأ الضعف يدب في أوصالها
عن أن تظهر قوة أخري فتية قوية تقودها مصر.
في تلك الأثناء أخفقت مساعي الصلح بين السلطان العثماني و
محمد علي بسبب موقف إنجلترا المحرض ضد محمد علي . فاشتبكت القوات
العثمانية و قوامها تسعين ألف رجل و قوات محمد علي بقيادة إبراهيم باشا و
انتصرت قوات محمد علي انتصاراً ساحقاً في نزيب ( نصيبيين) في 24 يونية
1839 م . كما قام قائد الأسطول العثماني الأدميرال أحمد فوزي بتسليم
اسطوله لمحمد علي و أعلن ولائه له.
هنا أدركت القوي الأوربية حجم الخطر من محمد علي علي نفوذها
في المنطقة و الضرورة الملحة لتحجيمه وتقليص نفوذه ، فدخلت في مفاوضات مع
السلطان العثماني لفرض شروط علي محمد علي و هو ما يعرف بتسوية لندن التي
عقدت في 15 يوليو عام 1840 م و وقعتها كل من الدولة العثمانية و إنجلترا و
ألمانيا و النمسا و روسيا. و كانت شروطها كالآتي:
أن يعطي محمد علي و خلفاؤه حكم مصر وراثياً.
- أن تكون لمحمد علي مدة حياته فقط حكم جنوب سوريا ( فلسطين) ، و إخلاء جزيرة كريت و الحجاز و أدنة و إعادة الأسطول العثماني.
- إذا لم يقبل القرار في مدة عشرة أيام ، يحرم من ولاية عكا
(فلسطين) ، فإذا استمر رفضه مدة عشرة أيام أخري يصبح السلطان في حل من
حرمانه من ولاية مصر.
- يدفع محمد علي الجزية السنوية للسلطان.
- أن يلتزم محمد علي بتطبيق كافة المعاهدات التي يبرمها
السلطان العثماني و في مقدمتها معاهدة بلطة ليمان ، و هي معاهدة تجارية
كانت الدول الأوربية تريد بها إنهاء الاحتكار في مصر و غزو السوق المصري
بتجارتها.
- أن تعد قوات محمد علي البرية و البحرية جزء من قوات السلطنة و تكون في خدمة السلطان.
- إذا رفض محمد علي هذه الشروط يلجأ الحلفاء الموقعون علي المعاهدة إلي استخدام القوة ضده مع التزامهم بحماية عرش السلطان العثماني.
و لقد وقعت الدول الأوروبية الكبري علي هذه المعاهدة الكبري
فيما عدا فرنسا، حيث تم الاتفاق من وراء ظهرها نظراً للتنافس التقليدي
بينها و بين إنجلترا.
رفض محمد علي شروط المعاهدة و تأهب للمواجهة العسكرية ،
فقامت بريطانيا بارسال قطعها البحرية لقطع خطوط الملاحة بين مصر و الشام و
محاصرة الشواطئ المصرية و الشامية، ثم احتلت ميناء جونية علي سواحل الشام
و أسرت حاميته المصرية، و قصفت ميناء الجبيل و حيفا و صور و صيدا
بالقنابل ، فتساقطت مدن الشام الواحدة تلو الأخري و انقطعت خطوط الإمداد
بين مصر و الشام.
كل ذلك كان كافياً لكي يدرك محمد علي أن القوي الكبري لاتريد
امبراطورية طموحة فتية تهدد مصالح الدول الأوربية في المنطقة، و إنما تريد
للإمبراطورية العثمانية العجوزة أن تموت دون أن يكون لها وريث.
فانتهي الأمر بقبول محمد علي شروط لندن في 27 نوفمبر 1840 م
، و بذلك انتهت طموحاته في انشاء امبراطورية تحل محل الامبراطورية
العثمانية.
و استكمالاً لإخضاع مصر و محمد علي قام السلطان العثماني باصدار فرمانين عام 1841 م و ينصان علي :
يتلقي حكام مصر من أبناء محمد علي فرمان الولاية من السلطان العثماني
- التزام مصر بتنفيذ كافة الاتفاقيات التي يبرمها السلطان مع الدول المختلفة
- أن تضرب النقود في مصر باسم السلطان، و تجبي الضرائب باسمه، و ترسل مصر له ربع إيرادات القطر
- لا يزيد عدد الجيش المصري في وقت السلم عن 18 ألف جندي، و لا يحق لمصر أن تبني سفناً حربية إلا بأمر السلطان.
تكمن عبقرية محمد علي أنه ليس فقط بني مصر الحديثة، و إنما
عبقريته الأكبر تكمن في الكيفية التي أخرج بها مصر من كهف التخلف الذي ظلت
قابعة فيه لقرون عديدة لتصبح دولة ذائعة الصيت، غنية الموارد، تحتل مكانا
مرموقاً في المحيط الدولي.