عجّلت الأحداث المتسارعة في المنطقة العربية والشمال إفريقية ومنطقة الساحل بفتح نقاش حول المقاربة الجزائرية المتحفّظة على القيام بأي دور عسكري خارج حدودها، وبرزت تساؤلات عما إذا كان لا بد من مراجعة هذا الموقف الذي تجاوز عمره نصف قرن، لا سيما وأن هناك دولا أقل إمكانات وقدرات باتت تلعب عند عتبة الباب. فما مدى جدية هذا النقاش؟ وهل مراجعة العقيدة الدبلوماسية للجزائر باتت لا مفر منها في ظل تصنيف الجزائر قوة إقليمية؟ أم إن هناك خيارات بديلة أنجع وأقل تكلفة؟ وما هي؟ هذه الأسئلة وأخرى سيجيب عنها "الملف السياسي" لهذا الخميس.
عقيدة الجزائر الدبلوماسية الرافضة للتدخل خارج حدودها.
خمسون سنة من الانكفاء على الذات.. هل من مراجعة؟
بات الموقف الجزائري تجاه القضايا العربية والإقليمية بمثابة دور رجل المطافئ الذي عادة ما يبحث عن إخماد الحرائق، ومواجهة كل من يعمد إلى تأجيجها.. هذا التوجه وقف عليه المتابعون من خلال رفضها التدخل الأجنبي في مالي، وفي ليبيا، وحتى التدخل العربي في الأزمة اليمنية. هذا الموقف بات عقيدة راسخة بالنسبة إلى الدبلوماسية الجزائرية.
وتمتد جذور هذه العقيدة إلى الثورة التحريرية، عندما كان الجزائريون يناضلون من أجل استرجاع سيادتهم المفقودة، ومن عمق المعاناة التي قاسوها في مواجهة استعمار استيطاني بغيض وحقير، طوّروا موقفا يمقت التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين.. فقد كانوا أدرى الشعوب بحجم معاناة من خسر سيادته وتقرير مصيره.
ولهذا تحوّل التراب الوطني إلى قاعدة خلفية للمقهورين والمشرّدين، وسيسجل التاريخ أن أعظم مناضل في القرن العشرين، تدرّب في معسكرات الجزائر، وهو الزعيم الجنوب إفريقي الراحل، نيلسون مانديلا. والمجال لا يتسع لذكر جميع الحالات، لكن عبارة أميلكار كابرال، الثائر الغيني (غينيا بيساو)، التي قال فيها: "إذا كانت مكة هي قبلة المسلمين، والفاتيكان قبلة المسيحيين، فالجزائر هي قبلة ثوار العالم"، تلخص كل ما قيل بهذا الخصوص.
غير أن هذه العقيدة، باتت محل نقاش في الآونة الأخيرة، وبرزت قراءة إلى الواجهة دفع بها خبراء في الاستراتيجيات تطالب بمراجعة هذه العقيدة، لا سيما وأن عمرها تجاوز نصف قرن، يضاف إلى ذلك التحولات الإقليمية والدولية، فضلا عن بروز الجزائر قوة إقليمية وعربية، بات يتعين عليها لعب أدوار تناسب حجمها وتحمي نفوذها في شمال إفريقيا وفي منطقة الساحل والصحراء، على الأقل.
وهناك من يقول إن وضع الجزائر حاليا في محيطها الإقليمي وليس في العالم، بات يشبه إلى حد بعيد، وضع الولايات المتحدة الأمريكية في بداية القرن الماضي، عندما كانت محكومة بمبدإ رئيسها الأسبق جيمس مونرو (1758/ 1831)، الذي أرسى "مبدأ عزلة أمريكا" وانطوائها على مشاكلها الداخلية، غير أن هذا المبدأ سرعان ما تبين قصوره استراتيجيا، فتقرر مراجعته من قبل فرانكلين روزفلت (1932/1945)، بعد أن وجدت واشنطن نفسها فجأة سيدة العالم، أمام تراجع قوة ونفوذ الإمبراطوريات التقليدية، فرنسا وبريطانيا.
وبالمقابل، تبدو المقاربة القديمة (عدم التدخل الخارجي) وكأنها الأكثر إقناعا، إذ يرى المدافعون عنها أن إقحام الجيش الوطني الشعبي في نزاعات خارج الحدود، لا يجلب إلا المزيد من المتاعب في وقت تبدو البلاد في غنى عنها. كما أن نتائج أي مغامرة عسكرية قد لا تكون محمودة العواقب، مثلما يمكن أن تقطف ثمارها قوى أخرى، تبحث عن إرباك المنطقة أو الإقليم المستهدف، ولعل في الأزمة الليبية، أبرز مثال، فتدخل الحلف الأطلسي عفّن الوضع في هذه الدولة وترك الدول المجاورة تعاني من النتائج الكارثية لهذا التدخل.
ويرى المدافعون عن هذه المقاربة أن الخيارات البديلة والأقل تكلفة من التدخل الخارجي، متوفرة بقوة، مثل آلية الوساطة التي تنتهجها الجزائر حاليا، في الأزمة الليبية والأزمة المالية، فهي آلية غير مكلفة كونها تستهدف إنفاذ الخيار السلمي، من جهة، فضلا عن كونها تحافظ على حضور البلاد في المنطقة كقوة قادرة على إنجاح مبادراتها ودعم نتائجها على الأرض.
مشاركة مميزة للجزائر في حروب الشرق الأوسط.
قتال الصّهاينة... الاستثناء الذي كسر القاعدة:
كانت المشاركة المميزة للجيش الجزائري في حروب الشرق الأوسط، ضد الكيان الصهيوني استثناء في المبدإ الذي طالما تبنته الجزائر ودافعت عنه وهو عدم التدخل عسكريا خارج الحدود، حيث سارعت الجزائر إلى إرسال اللواء الرابع إلى خط النار عقب نكسة 1967 وكان في الصف الأمامي وفي مواجهة مباشرة مع جيش الاحتلال الإسرائيلي، بعد انهيار الجيش المصري وواجه المقاتلون الجزائريون الصهاينة بشراسة رغم ضعف التسليح مقارنة بالطرف الإسرائيلي الذي كان ينشر آلياته على الجانب المقابل من قناة السويس.
وفي هذا السياق يقول العقيد إبراهيم جوادي في شهادته التي نشرتها "الشروق" منذ أشهر: "عندما وصلنا إلى مدينة السويس فوجئنا بالغياب الكلي للجيش المصري، ووجدنا أنفسنا في مواجهة مباشرة مع الجيش الإسرائيلي، ولم يكن بيننا وبينهم سوى 200 متر، وكان اليهود مدججين بمختلف الأسلحة الخفيفة والثقيلة، لقد كان المشهد جهنميا، دبابات على طول الضفة المقابلة من قناة السويس، الطائرات تحوم فوق رؤوسنا ونحن منكشفون على الجهة الغربية من القناة".
وبقي اللواء الرابع على خط التماس مع العدو الصهيوني لمدة 8 أشهر كاملة، وكان تعداده 3000 مقاتل ضمن أربع كتائب هي كتيبتا مشاة وكتيبة مدفعية وكتيبة دبابات، وقد أظهر الجزائريون شجاعة نادرة وشكلوا حصنا منيعا صد هجمات الصهاينة.
ومن جانبه، يفصل اللواء المتقاعد خالد نزار في كتابه التضحيات التي قدمها الجيش الجزائري بين سنتي 1967 و1975، حيث عسكر قرابة 20 ألف جندي جزائري في جبهات القتال. وخلال هذه السنوات تم التنازل عن مئات الدبابات والمدافع ومركبات القتال وقرابة مائة طائرة لصالح المصريين، وسقط في المعارك قرابة 100 مقاتل جزائري من مختلف الرتب العسكرية.
ويقول إبراهيم جوادي إنّ اللّواء الرابع عندما أكمل مهمته وانسحب من الجبهة ترك الدبابات والمدفعية للمصريين، لأنهم كانوا بحاجة إليها، أما السلاح الخفيف فعاد معنا. وعموما، فإن الجيش الجزائري قدم خدمات جليلة للمصريين، وكان ذلك دينا سددناه للمصريين. يجب أن تعلم أن دماءنا اختلطت مع دماء المصريين، في نهاية القرن العاشر، حين قام المعتز بدين الله الفاطمي بنقل نحو 45 ألف مقاتل من الجزائر إلى مصر لإقامة الدولة الفاطمية، وهؤلاء بقوا هناك وأحفادهم بالملايين الآن، ولا تنس كذلك الدعم المصري للثورة الجزائرية.
وإذا استثنينا هذه الصفحة المشرقة لمشاركة الجزائر بجيشها خارج حدودها، فإنّ الجزائر ظلّت وفية للمبدإ بعدم التّدخل المباشر خارج الحدود فيما احتفظت بدورها على صعيد دعم حركات التحرر في العديد من المناطق في العالم.
الخبير في الاستراتيجيات، أحمد عظيمي
"مبدأ عدم التدخل ليس مقدسا ويمكن مراجعته"
يرى المحلل السياسي والمختص في الدراسات الأمنية والجيوسياسية، أحمد عظيمي، أن الجزائر أصابت في تشبثها بموقفها المناهض للتدخل العسكري خارج حدودها، لأنه سوف لن يخدم، كما قال، سوى القوى الاستعمارية.
ترفض الجزائر مشاركة جيشها خارج الحدود؟ لماذا برأيك؟
لأن مهمة الجيش الأولى والأخيرة هي الحفاظ على الوحدة الترابية. ومنذ الاستقلال إلى يومنا هذا، شارك الجيش مرتين خارج الحدود، سنتي 67 و73، ضد الجيش الإسرائيلي، وبعدها رفض أي تدخل في شؤون الدول. وهذا ينبع من أساس العقيدة العسكرية الجزائرية، وهو ما يجعلنا نتساءل: لما يكون تدخل عسكري في أي جبهة، هل يفيد في حل الأزمة أم يؤزمها أكثر؟ ولصالح من يكون التدخل؟
الجزائر أصبحت قوة إقليمية، وقد تم تصنيف جيشها على أنه أقوى جيش عربي وإفريقي، فهل الموقف المبدئي بعدم التدخل أصبح من الضروري مراجعته؟
بطبيعة الحال، مبدأ عدم التدخل العسكري في شؤون الدول ليس مقدسا، ويمكن مراجعته لكن لما تفرض الظروف ذلك، شريطة أن يكون لصالح الدولة التي تم التدخل على أراضيها، وفي حالة ما إذا كان هناك عمل عربي لصالح الشعوب العربية، لا أن يكون تحت قيادة مصر والسعودية اللذين يمثلان القاعدة الأمامية للتدخل في الدول، ومن العار في هذا المقام أن يتدخل الجيش الجزائري في عمليات لصالح أمريكا، وهو الجيش الذي انبثق من صمود الشعب الجزائري ورمز القوة التحريرية.
برزت توجهات لتدخل الجزائر عسكريا خارج حدودها، كإجراء وقائي لحماية حدودها على غرار مالي وليبيا مثلا. ما قولكم في هذا؟
كانت هناك عديد المحاولات للدفع بالجيش الجزائري في حروب وتوريطه في دول الجوار، بداية بالتدخل في شمال مالي، والهدف منه توريط الجيش ليغرق في مستنفع لا خروج منه، ورفض الجزائر كان صائبا بدليل تورط فرنسا في المنطقة، والمحاولة الثانية كانت في ليبيا، والجزائر رفضت لأن التدخل لم يكن لغرض حل الصراع في المنطقة، وكإجراء وقائي لحماية الحدود يمكن القيام بوسائل أخرى عن طريق الدبلوماسية والجوسسة، والتأثير على سياسة البلد وليس فقط التدخل الأجنبي من أجل التدخل.
برأيك، هل تتماشى العقيدة الدبلوماسية للجزائر "مبدأ عدم التدخل الأجنبي" التي نشأت من معاناة الاستعمار مع متطلبات الدور الإقليمي الذي تبحث عنه الجزائر بعد 50 سنة من الاستقلال؟
ليس أمام الجزائر حاليا إلا أن تكون قوة إقليمية أو لا تكون، ولا دخل لموقفها من التدخل الأجنبي بذلك، لأن أي تدخل حاليا لن يكون إلا لصالح أمريكا لا للبلدان العربية.
المحلل السياسي وأستاذ العلاقات الدولية حسين بوقارة
التدخل خارج الحدود قد يجر البلاد إلى مشاكل وأزمات
يرى أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزائر، حسين بوقارة، أن كل مواقف الجزائر الخارجية سواء كانت عسكرية دبلوماسية وحتى اقتصادية، كان مردها إلى مجموعة مبادئ تكرست وصارت ثابتة حتى قبل الاستقلال من خلال بيان أول نوفمبر ومؤتمر الصومام ومؤتمر طرابلس، وأملتها اعتبارات داخلية وخارجية ودولية، وهي عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
وبحسب بوقارة، فإن جل مواقف الجزائر ظلت ثابتة عدا بعضها، الذي هو ذو صلة مع فترة الحرب الباردة. وقال في هذا الصدد: "مبادئ الجزائر بقيت ثابثة ولم تتغير بزوال الحكومات والأنظمة السياسية وهي عدم التدخل في شؤون الدول الداخلية".
ويذهب بوقارة إلى التأكيد على أن الحديث بأن الجزائر قوة إقليمية بحكم جيشها واقتصادها، مصطلح يبقى غير دقيق وغير مرتبط بمتغيرات مادية ملموسة، مشيرا إلى أن قطر مثلا بمقياس ومؤهلات الدولة الإقليمية، لا تعتبر كذلك لكنها تلعب دورا مهما، ولذلك مسألة القوة الإقليمية غير ثابتة، وذكر في هذا الإطار: "المحورية والإقليمية تحددها الاعتبارات الخارجية، وهي مرتبطة بطبيعة التأثير الخارجي للدولة".
واستدل بزيارات وتصريحات زوار الجزائر مؤخرا وخاصة من الأفارقة، التي لا تعدو أن تكون تصريحات واجهة، أما خلفيتها فهي اعتبارات وتوازنات داخلية.
ويوضح الأستاذ بجامعة الجزائر أن الأحداث التي تحيط بالجزائر في دول الجوار غير واضحة الأهداف، وكذلك الشأن بالنسبة إلى حسابات الدول الكبرى في البلدان المستهدفة. وشدد على أن أي تدخل عسكري للجزائر خارج حدودها قد يجرها إلى مشاكل وأزمات كبيرة نحن في غنى عنها، واستطرد محدثنا بالقول: "من منطلق العقلانية والحذر في السلوك ينبغي للجزائر ألا تتدخل عسكريا بسرعة" وأضاف: "أنا شخصيا لا أرى أن قرار رفض التدخل عسكريا في دول الجوار قرار خاطئ".
وعن مسألة الاسبتاقية والوقائية التي قد تؤدي بالجزائر إلى التدخل عسكريا خارج حدودها لحماية أمنها، أكد بوقارة أن مؤشرات الخطر فعلا موجودة على حدودنا وفي دول الجوار، خاصة في ظل الأخطار الجديدة المرتبطة بالمخدرات والسلاح، إلا أنها أخطار ليست موجهة صوب الجزائر فقط، ولكن نحو جميع الدول التي يمكن أن تمسها هذه الأخطار، مشيرا إلى أن الجزائر يمكن أن يكون أحسن لها لو تتدخل في إطار جماعي منه في إطار فردي، ولفت إلى أنه رغم هذا فالجزائر ترى دوما أن الطرق الدبلوماسية هي الأكثر نجاعة في معالجة الأزمات لدى دول الجوار.
وخلص أستاذ العلوم السياسية إلى القول إن الوضع الداخلي للجزائر غير مستقر ومؤهل للاختراق بكل الطرق ولذلك فمن الأحسن عدم التورط في مشاكل خارجية يكون لها انعكاسات سلبية على الداخل، خاصة في ظل وجود صراع عربي على ملء الفراغ الذي نتج عن تراجع الدور العربي الإقليمي، وتحول دول إلى شركات مناولة تتلقى الإملاءات من الدول الكبرى.
المصدر