أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، اذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بالاطلاع على القوانين بالضغط هنا. كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة المواضيع التي ترغب.
موضوع: الملوك الأبطال الثلاثاء 4 سبتمبر 2007 - 20:24
عرفت الجزائر والشمال الافريقي ككل بروز أبطال أمازيغ صمدوا في وجه الامبراطورية الرومانية وألحقوا بها هزائم نكراء في وقت كان العالم يرتجف خوفا من جبروتها وقوتها الرهيبة. خاضوا معارك وبطولات بقيت راسخة الا يومنا هدا ولن ينساهم التاريخ أبدا أبرز هؤلاء الأبطال : تاكفاريناس - ماسينيسا - يوغرطة - يوبا الأول - سيفاكس
1- تاكفاريناس
يعد تاكفاريناس Tacfarinasمن أهم أبطال المقاومة الأمازيغية قديما، وقد أظهر شجاعة كبيرة في مواجهة المحتل الروماني، و قد لقنه درسا لاينسى في البطولة والمقاومة الشرسة، وهو مازال محفورا في ذاكرة تاريخ الإمبراطورية الرومانية . كما أخرت مقاومته الشعبيةاحتلال تامازغا من قبل المتوحش الروماني لمدة طويلة تربو على عقد من الزمن. ولم يتمكن العدو من احتلال بعض أجزاء أفريقيا الشمالية إلا بعد مقتل تاكفاريناس في ساحة الحرب. إذا من هو تاكفاريناس؟ وماهي دواعي مقاومته وأسبابها الذاتية والموضوعية؟ وماهي أهم المراحل التاريخية التي عرفتها مقاومته للإمبراطورية الرومانية في إفريقيا الشمالية؟ وما هي آثار هذه المقاومة و نتائجها؟
1-من هو تاكفاريناس؟
تاكفاريناس من أهم قواد نوميديا ( الجزائر) الأمازيغية، نشأ في أسرة نبيلة ذات نفوذ كبير، وينتمي لقبيلة موسالامس( Musalams)، وۥجنّد مساعدا في الجيش الروماني في سن السادسة عشرة برتبة مساعد ، واكتسب أثناء العمل تجربة عسكرية كبيرة؛ لكنه سيفر منالجندية بعد أن رأى ظلم الرومان الذي كان يمارس ضد الأمازيغيين وتلمس طغيانهم واستبدادهم المطلق. فعين من قبل أتباعه ومحبيه قائدا لقبائل" المزاملة" سنة 17م، فشكل منها جيشا نظاميا من المشاة والفرسان على الطريقة الرومانية في تنظيم الجيوش. وفقد عمه وأخاه وابنه في الحروب التي خاضها ضد الجيش الروماني في شمال أفريقيا، وقد دامت ثورته سبع سنوات ثم انهزم قتيلا في في منطقة سور الغزلان بالجزائر . وتعلم تاكفاريناس الكثير من خطط الجيش الروماني وطرائقه الاستراتيجية في توجيه الحروب و المعارك، كما اطلع على أسلحته وما يملكه من عدة ماديةوبشرية، وما يتسم به هذا الجيش من نقط الضعف التي يمكن استغلالها في توجيه الضربات القاضية إليه أثناء اشتداد المواجهات والمعارك الحامية الوطيس.
2-أسباب مقاومة تاكفاريناس:
إذا كان موقف الأمازيغيين من الفينيقيين والقرطاجيين إيجابيا، فإن موقف الأمازيغيين من الرومان كان سلبيا إلى حد كبير؛ لأنالحكومة الرومانية كانت تسعى إلى التوسع والاستيطانواستغلال ثروات شعوبالآخرين عن طريق التهديد وإشعال الفتن والحروب كما فعلت مع الدولة القرطاجنية في تونس في إطار ما يسمى بالحروب البونيقية. وإذا كان القرطاجنيون قد اهتموا بالتجارة والصيد، فإن الرومان بالعكس كانوا يركزونكثيرا على الفلاحة ؛ مما دفعهم للبحث عن الأراضي الخصبة الصالحة للزراعة. وهذا ما أدى بالحكومة الرومانية للتفكير في استعمار شمال أفريقيا قصد نهب خيراتها والاستيلاء على أراضيها التي أصبحت فيما بعد جنانا للملاكين الكبار وإقطاعات لرجال العسكر وفراديس خصبة للساهرين على الكنيسة الكاثوليكية، في حين أصبح الأمازيغيون عبيدا أرقاء وخداما رعاعا وأجراء مستلبين في أراضيهم مقابل فضلات من الطعام لاتقي جوع بطونهم التي كان ينهشها الفقر والسغب. ومن ثم، « طبقت روما سياسة اقتصادية جشعة طوال احتلالها، تلخصت في جعل ولاياتها تخدم اقتصادياتها وتلبي حاجياتها من الغذاء والتسلية لفقرائها... والتجارة المربحة لتجارها والضرائب لدولتها... والإبقاء على النزر اليسير لسد متطلبات عيش الأمازيغ الخاضعين...". ويعني هذا أن سياسة الرومان في أفريقيا الشماليةكانت تعتمد علىالتوسع والغزووإيجاد الحلول المناسبة لمشاكلها الداخلية وتصديرها إلى الخارج مع البحث عن الموارد والأسواق لتحريك دواليب اقتصادها المعطل وإيجاد مصادر التمويل والتموين لقواتها العسكرية الحاشدة عددا وعدة. ومن ثم، لم " يكتف الرومان باحتلال أجود الأراضي الفلاحية الأمازيغية فحسب، بل قام الإمبراطور الروماني أغسطس بتشجيع استيطان عدد مهم من سكان إيطاليا في شمال إفريقيا، خصوصا منهم الجنود وقادة الجيش المسرّحون أو المتقاعدونورجال الأعمال والتجار مما كان له دوره في تغيير التوازن والتوافق السكاني، الذي كان سائدا في السابق بين ساكنة المنطقة، بل كلما تم استقدام أعداد منهم من إيطاليا، إلا ويكون على حساب الأراضي الفلاحية والرعوية للأهالي الأمازيغ. ويظهر هذا في نسبة العمران والتمدين الروماني الذي بدأ في سواحل البحر المتوسط خصوصا بعد فترة الإمبراطور أغسطس. أما المناطق الداخلية فلم تبق بمعزل عن هذه التطورات خصوصا أن الرومان كانوا يضمون الأراضي الأمازيغية باستمرار نحو الداخل، إما بهدف الحصول على أراضي جديدة للقادمين الجدد ، أو الحصول على أماكن بناء الحصون والقلاع لحماية أراضي المعمرين.". ومن الأسباب الأخرىالتي أدت إلى اندلاع ثورة تاكفاريناس الانتقام للملك الأمازيغي الأول يوغرطة الذي وحد الأمازيغيين وأعدهم لمواجهة العدو الروماني الغاشم، بيد أن الجيش الروماني نكل به تنكيلا شديدا ليكون عبرة للآخرين، بله عن الثأر من الجيش الروماني نظرا لما قام به من اعتداء صارخ على القبائل الموسولامية التي وقفت كثيرا في وجه الغزو الروماني، ناهيك عن التفاوت الطبقي والاجتماعي في المجتمع الأمازيغي الذي خلقه الاحتلال الروماني، وتردي أحوال الفقراء والمعدمين وهذا ما سيؤدي بهم فيما بعد إلى ثورة جماعية تسمى بالدوارين؛ لأنهم كانوا يحومون ويدورون حول مستودعات الحبوب لسرقتها. و لا ننسى رجال الكنيسة الأمازيغيين الذين ساهموا في إشعال عدة فتن وثورات ضد المحتل الروماني خاصة الدوناتيين نسبة إلى رجل الدين الأمازيغي المسيحي دوناتوس الذين كانوا يطالبون إخوانهم الأمازيغيين بعدم الانتظام في الجندية الرومانية وطرد كبار الملاك من أراضيهم وأصحاب النفوذ من المسيحيين الكاثوليك من بلادهم.
عدل سابقا من قبل في الأحد 30 سبتمبر 2007 - 21:23 عدل 3 مرات
موضوع: رد: الملوك الأبطال الثلاثاء 4 سبتمبر 2007 - 20:25
3-تطور مقاومة تاكفاريناس ضد الاحتلال الروماني:
لقد بينا سابقا أن تاكفاريناس لم يرض بالتدخل الإيطالي و لم يقبل كذلك بالظلم الروماني وبنزعته التوسعية الجائرة التي استهدفت إخضاع الأمازيغيين وإذلالهم ونهب ثرواتهم والاستيلاء على خيراتهم وممتلكاتهم عنوة وغصبا . كما لم يرض بتلك السياسة العنصرية التي التجأ إليها الرومان لطرد الأمازيغيين خارج خط الليمس (Limes) وهو خط دفاعي يفصل الثلث الشمالي المحتل عن الجنوب الصحراوي غير النافع. وقد ۥشيّد هذا الخط الفاصل بعد القرن الثاني الميلادي بعد أن تمت للرومان السيطرة الكاملة على أراضي أفريقيا الشمالية. ويتركب خط الليمس من جدران فخمة شاهقة وخنادق وحفر وحدود محروسة وقلاع محمية من قبل الحرس العسكري، ويمكن تشبيهه بالجدار المحصن ضد الهجوم الأمازيغي المحتمل. وكان هذا الخط الفاصل يتكون من الفوساطوم الذي يتألف من أسوار تحفها خنادق من الخارج، ومن حصون للمراقبة غير بعيدة عن الفوساطوم، وطرق المواصلات الداخلية والخارجية التي تتصل بالفوساطوم قصد إمداد الحاميات بالمؤن والأسلحة. ويعني هذا أن خط الليمس كان يقوم بثلاثة أدوار أساسية: دور دفاعي يتمثل في حماية الحكومة الرومانية في إفريقيا الشمالية والحفاظ على مصالحها وكينونتها الاستعمارية من خلال التحصين بالقلاع واستعمال الأسوار العالية المتينة الشاهقة، ودور اقتصادي يكمن في إغناء التبادل التجاري مع القبائل الأمازيغية التي توجد في المنطقة الجنوبية لخط الليمس، ودور ترابي إذ كان الليمس يفصل بين منطقتين : منطقة شمالية رومانية ومنطقة جنوبية أمازيغية. ولا يعبر هذا الخط الواقي إلا عن سياسة الخوف والحذر وترقب الهجوم الأمازيغي المحتمل في كل آن و لحظة. هذا، ولقد امتدت مقاومة تاكفاريناس شرقا وغربا لتوحيد الأمازيغيين قصد الاستعداد لمواجهة الجيش الروماني المحتل.وكانت الضربات العسكرية التي يقوم بها تاكفاريناس تتجه صوب القاعدة الرومانية الوسطى مع استخدام أسلوب المناورة والتشتت للتجمع والتمركز مرة أخرى ، والتسلح بحرية الحركة و استخدام تقنية المناورة واللجوء إلى الانسحاب والمباغتة والهجوم المفاجئ وحرب العصابات المنظمة لمحاصرة الجيش الروماني وضربه في قواعده المحصنة. وهذه الطريقةفي المقاومة لم يألفها الجيش الروماني الذي كان لايشارك إلا في الحروب والمعارك النظامية وينتصر فيها بكل سهولة نظرا لقوة عتاده المادي وعدته البشرية والعسكرية . ويبدأ امتداد تاكفاريناس من طرابلس الحالية غربا حتى المحيط الأطلسي شرقا والامتداد في مناطق الصحراء الكبرى جنوبا. وكل من يستقرى تاريخ مقاومة تاكفاريناس لابد أن يعتمد على كتابات المؤرخ اللاتيني تاكيتوس الذي كان قريبا من تلك الأحداث، ولكنه لم يكن موضوعيا في حولياته التاريخية وأحكامه على الأمازيغيين، وكان ينحاز إلى الإمبراطورية الرومانية وكان يعتبر تاكفاريناس ثائرا إرهابيا جشعا يريد أن يحقق أطماعه ومآربه الشخصية على حساب الآخرين وحساب أصدقائه القواد مثل: القائد الشجاع مازيبا. ويعني هذا حسب المؤرخ اللاتيني الروماني تاكيتوس أن الحكومة الرومانية لم تأت إلى أفريقيا الشمالية إلا لتزرع الخير وتنقذ الجائعين وۥتحضّر البدويين والرحل الرعاع وتزرع السلام والمحبة بين الأمازيغيين، بينما - والحق يقال- لم تقصد الجيوش الرومانية ربوع تامازغا بجيشها الجرار وأسلحتها الفتاكة سوى لاحتلالها والاستيطان بها والاستيلاء على أراضيها ونهب ثرواتها والتنكيل بأهاليها. ويقول تاكيتوس في حق تاكفاريناس:" اندلعت الحرب في إفريقية في نفس السنة (17م)، وكان على رأس الثوار قائد نوميدي يسمى تاكفاريناس، كان قد انتظم بصفة مساعد في الجيوش الرومانية ثم فر منها. وفي أول أمره جمع حوله بعض العصابات من قطاع الطريق والمشردين وقادهم إلى النهب، ثم جعل منهم مشاة ففرسانا نظاميين وسرعان ما تحول من رأس عصابة لصوص إلى قائد حربي للمزالمة، وكانوا قوما شجعانا يجوبون الفلوات المتاخمة لإفريقية. وحمل المزالمة السلاح وجروا معهم جيرانهم الموريين الذين كان يقودهم مازيبا. واقتسم القائدان الجيش، فاستبقى تاكفاريناس خيرة الجند، أي جميع من كانوا مسلحين على غرار الرومان ليدربهم على النظام ويعودهم على الامتثال، أما مازيبا فكان عليه أن يعمل السيف ويشعل النار ويذعر الذعر بواسطة العصابات". ويستعمل تاكيتوس (تاسيت Tacite) أسلوبا ذكيا في توجيه الطعنات إلى تاكفاريناس عندما اعتبره رجل عصابة يفر من الجندية و يتحول إلى قائد عسكري خائن أناني يستحوذ على خيرة الجند، بينما لا يترك لصديقه مازيبا سوىعصابة من الإرهابيين تنشر الذعر في نفوس الأبرياء من الروم!!! ونحن سنقلب القراءة لتتجهعكس مسار قراءة تاكيتوس لنثبت بأن تاكفاريناس كان رجلا شجاعا ومواطنا أمازيغيا غيورا على بلده، لم يرض بالضيم الإيطالي والذل الروماني ، فوحد القبائل الأمازيغية سواء أكانت في الشرق أم في الغرب أم في الجنوب، أي إنه استعان بكل القبائل المناوئة للمحتل الروماني حتى بالقبائل الصحراوية التي كانت ترفض هذا العدو المغتصب وتناهضه. وتعتمد مقاومة تاكفاريناس على نوعين من القوات العسكرية : قوة عسكرية منظمة على الطريقة الرومانية التي تتكون من المشاة والفرسان، وقوة غير منظمة تتخذشكل عصابات مباغتة مشروعة في أهدافها ونواياها توجه ضربات خاطفة موجعة للجيش الروماني وتزرع في صفوفه الرعب والهلع والخوف، وفي دياره الدمار والخراب وخاصة في موسم الحصاد أثناء جني المحصول ، وبذلك كان يوجه الضربات السديدة إلى الاقتصاد الروماني بحرق المحصول أو السيطرة عليه أو منع الأمازيغيين من بيعه للحكومة الرومانية التي احتلت الأمازيغيين لمدة خمسة قرون. وبالتالي، فهذه" الحرب أضرت بالمصالح الاقتصادية لروما. فكانت جميع المعارك تقع في أواخر الربيع وفصل الصيف، ومن بين أسباب ذلك إغارة تاكفاريناس على المدن وقت الانتهاء من حصاد الحبوب للسيطرة على المحصول من جهة وللحيلولة دون بيع كل غلة الحبوب لروما. كما كان تاكفاريناس يشتري الحبوب من التجار الرومانيين للحيلولة دون وصولها إلى العاصمة الإمبراطورية". وقد استمرت ثورة تاكفاريناس في مواجهة الرومان مدة سبع سنوات من 17م إلى 24م سنة مقتله في معركة الشرف ضد الجيش الروماني. ويعني هذا أن ثورة تاكفاريناس ثورة عنيفة شرسة، وتعتبر أقوى مقاومة في تاريخ الحضارة الأمازيغية في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط. وهي لا تعبر عن صراع الحضارة والبداوة أو الصراع الطاحن بين النظام والفوضى كما يقول الكثير من المؤرخين الغربيين بما فيهم المؤرخ الروماني تاكيتوس صاحب كتاب الحوليات ، بل هي تعكس صراعا جدليا بين الظلم والحق وبين الحرية والعبودية. ومن أسباب نجاح ثورة تكافاريناس أنه تبنى عدة طرائق في المواجهة العسكرية ولاسيما الجمع بين الخطة النظامية وحرب العصابات وتوحيد القبائل الأمازيغية في إطار تحالف مشترك واستغلال الظروف العصيبة التي كانت تمر بها الحكومة الرومانية لضربها ضربات موجعة. وبالتالي، لم يقتصر في تحالفه على قبائل الموسلام، بل انفتح على القبائل الصحراوية وتحالف مع الموريين، أي مع قوات موريطانيا الطنجية التي كان يقودها مازيبا. أما الحاكم يوبا الثاني ملك موريطانيا الطنجية فقد كان عميلا للرومان ومتحالفا مع الحكومة القيصرية، لذلك لم يستجب له الشعب وانساق وراء القائد مازيبا الثائر، دون أن ننسىقبائل الكينيتيين الشجعان الذين كانوا يوجدون في الجنوب الشرقي للقبائل الموسولامية وقد تحالفوا عن اختيار وطواعية مع القائد البطل تاكفاريناس. وبعد أن استجمع تاكفاريناس القبائل الثائرة عبر المناطق الجنوبية لخط الليمس من سرت حتى المحيط الأطلسي انطلق في هجماته التي كانت تخضع للمد والجزر و الهجوم والانسحاب، ولكنه استطاع أن يلحق عدة هزائم بالجيش الروماني وأن يقض مضجع الحكومة المركزية في روما. وكان تاكفاريناس يعتمد على البدو الذين كانوا يعرفون مناطق الصحراء ويتحركون بسرعة على جمالهم ويباغتون الجيش الرومانيفي الوقت الذين يحددونه والمكان الذي يعينونه ويختارونه بدقة. لذالك، كانت الكرة في مرمى جيش تاكفاريناس يستخدمها في الوقت المناسب وفي المكان المناسب. بينما ينتظر الجيش الروماني ضربات الهجوم للرد عليها. ولكن الرومان استطاعوا أن يتحالفوا مع الأمازيغيين الموالين لهم كيوبا الثاني وابنه بطليموس وأن يسخروا الجنود الأمازيغيين لضرب إخوانهم ؛ وكان المثل عند كل المحتلين لأراضي الأمازيغ من الرومان مرورا بالبيزنطيين إلى الوندال:" ينبغي أن تحارب الأمازيغيين بإخوانهم الأمازيغيين". بيد أن يوبا الثاني وابنه بطليموس لم يستطيعا أن يؤثرا على الموريين الذينمالوا إلى تاكفاريناس ومازيباللدفاع عن أراضيهم المغتصبة من قبل الرومان وحرياتهم الطبيعية والمشروعة التي يريد الرومان انتزاعها من أصحابها ليحولونهم إلى أجراء وأرقاء مذلولين. ويقول تاكيتوس في حولياته:" تاكفاريناس لا زال ينهب في إفريقيا مساندا من طرف الموريين الذين فضلوا مساندة الثورة على الولاء للعبيد العتقاء الذين يشكلون حاشية الملك الصغير بطليموس.". وقد هاجم تاكفاريناس حصون الجيش الروماني وقلاعه وهدد مدينة" تهالة"، وطالب الرومان بأراضي خصبة لزراعتها أو للرعي فيها، لكن الرومان استمالوا بعض أتباع تاكفاريناس ووعدوهم بالعفو و بأجود الأراضي لزراعتها. وهكذا دب الشقاق فيجيش تاكفاريناس وانتشرت الخيانة. وفي جهة مقابلة، سارعت الحكومة الرومانية إلى توشيح كل القادة العسكريين الذين يصدون بعنف لهجمات تاكفاريناس ووضعوا تماثيل شاهدة على إنجازاتهم. وقد قال تاكيتوس ساخرا بذلك:" يوجد في روما ثلاثة تماثيل متوجة وتاكفاريناس لا زال حرا طليقا في إفريقيا". لكن مع تعيين البروقنصل كورنيليوس دولا بيلا Cornelius Dolabella، ستتغير موازين الحرب في أفريقيا الشمالية وسيحاصر هذا القائد الروماني الجديد جيوش تاكفاريناس بعد أن قضى على الكثير من أتباعه الموزولاسيينواستطاع أن يباغت جيشه في حصن أوزيا شرق نوميديا في الصباح الباكر قبل استيقاظ قوات تاكفاريناس، فاستطاع بسهولة أن يقبض على ابن الثائر أسيرا، وأن يتمكن من أخ تاكفاريناس. وبعد ذلك، دخل دولابيلا في معركة حامية الوطيس مع القائد تاكفاريناس الذي توفي في المعركةسنة 24م. وكانت هذه الهزيمة في الحقيقة نتاجا للخيانة التي دبرت في الكواليس الرومانية في تنسيق مع الأهالي الأمازيغيين ، ومن هنا، طعن تاكفاريناسفي الظهر كما في كل السيناريوهات الحربية والعسكرية التي حبكت من قبل الرومان للتخلص من أعدائهم الأمازيغيين... ويقول محمد بوكبوط مصورا نهاية تاكفاريناس:" شن تاكفاريناس الحرب على المدن والقرى الخاضعة للرومان، وامتدت الحركة من موريطانيا إلى خليج السرت، مما جعله يضغط بقوة ويطالب الإمبراطور بتسليمه الأراضي، مهددا بشن حرب لاهوادة فيها. غير أن الرومان استطاعوا أن يحدثوا شرخا في صفوف الثوار الأمازيغ، بقطع الوعود وتقديم تنازلات بسيطة. ورغم ثورة الموريين عقب تولي بطليموس، فإن البروقنصل دولابلا Dolabellaأفلح في الظفر بتاكفاريناس الذي قتل وهو يحارب سنة 24م. لتنتهي بذلك ثورته." وهكذا تنتهي ثورة تاكفاريناس بعد سنوات طوال من المقاتلة والنضال والكفاح من أجل تحرير البلاد من الغزاة، ليتسلم الثوار الآخرون بعد ذلك مشعلالمواجهة والتصدي ليكون تاريخ الأمازيغيين طوال حياتهم تاريخ المقاومات الشريفة والملاحم البطولية.
خاتــمــــة:
وبعد التخلص من ثورةتاكفاريناس التي دامت سنوات طويلة، ارتاح الرومان وتنفسوا الصعداء بعد ضيق كبير، وۥخيّبت آمال الأمازيغيين في الحصول على استقلالهم ونيل حرياتهم في تسير شؤون بلادهم بأنفسهم. وبدأت الجيوش الرومانية في التوغل في أراضي تامازغا شرقا وغربا وجنوبا قصد الاستيلاء على كل الأراضي الخصبة الصالحة للزراعة والري. واستطاعت أن تفرض نفوذها الإداري على كثير من أجزاء أفريقيا الشمالية، وأن تعين في كل ولاية البروكونسولProconsul لجمع الضرائب ومراقبة نفقات الدولة وتجنيس الأهالي وتطبيق القوانين الرومانيةعلى الأمازيغيين مع التصدي لكل من سولت نفسه مهاجمة الجيش الروماني. ولكن ثورة تاكفاريناس ستولد ثورات شعبية واجتماعية ودينية أخرى ستعمل علىتعكير صفو الحكومة الرومانية التي كانت تعتمد في الصد والدفاع عن نفسها وحماية مصالحها على قوات إيطالية وإسبانية وأمازيغية في حروبها مع أهالي تمازغا الذين كانوا يشرئبون إلى الحرية والاستقلال ويتعطشون إلى الدفاع عن أرضهم بالنفس والنفيس.
عدل سابقا من قبل في الأحد 30 سبتمبر 2007 - 21:25 عدل 1 مرات
موضوع: رد: الملوك الأبطال الثلاثاء 4 سبتمبر 2007 - 20:27
2- ماسينيسا
يعد ماسينيسا من أهم أبطال المقاومة الأمازيغيةالذين عملوا على توحيد الممالك الأمازيغية إلى جانب فارمينا وصيفاقس ويوغرطة ومازيبا وإدمون تمهيدا لمقاومة الاحتلال الروماني القادم إلى إفريقيا الشمالية لاحتلالها ورومنتها تمهيدا للاستيلاء على ربوعها ونهب ثرواتها واستغلال ممتلكاتها. وقد احتل هذا العدو تامازغا لمدة خمسة قرون راغبا في مسخها وإذلالها وتشويه حضارتها والقضاء على ثقافتها. بيد أن الأمازيغيين استطاعوا بكل ما لديهم من قوة من طردهم والتنكيل بهم في عدة وقائع ومعارك يشهد بها تاريخ الرومان قبل تاريخ الأمازيغيين. وسنحاول في هذه الدراسة التعريف بماسينيسا، وتبيان تطورات مقاومته واستخلاص آثارها ونتائجها مع إبراز الجوانب الحضارية التي يتميز بها عهده.
1- من هو ماسينيسا؟
يعتبر ماسينيسا Masinissa المازيليمن أهم ملوك دولةنوميديا الأمازيغية، ولد في سنة202 قبل الميلاد، وهو ابن گايا بن زيلالسان بن أيليماس. وهو من مواليد قسنطينة الجزائرية التي حولها إلى سيرتا فاتخذها عاصمة لحكمه في منطقة مسيلة. وقد كرس حياته الطويلة لخدمة الأمازيغيين الذين زرع فيهم حب الوفاء والعمل والإخلاص. واستغل ظروف الحرب البونيقية (264-146قبل الميلاد) التي كانت تدور بين الرومان والقرطاجنيين ليسهر على توحيد الأمازيغيين في صف واحد وفي مملكة واحدة وتحت سلطة سياسية وإدارية واحدة.. وقد تولى ماسينيسا حكم نوميديا بعد أن انتصر على الملك صيفاقس الماسايسولي حليف قرطاجة، وقام بأسره حتى يحصل على دعائم ملكه. ومن المعروفأن ماسينيسا كان يمتلك مؤهلات حربية قوية وخبرة كبيرة في تسيير الحروب والتخطيط لها. وتوفي ماسينيسا حوالي 148 قبل الميلاد عن سن تجاوزت التسعين من عمره بعد أن بقي في عرشه مدة طويلة ما يقرب من ستين سنة من حوالي 205 إلى 148ق.م. ويوجد قبره إلى حد الآن في قرية الخروب في ضواحي قسنطينة (سيرتاCirtha).
2- تطور مقاومة ماسينيسا:
شكل الملك ماسينيسا جيشا أمازيغيا قويا بعد أن وحد كل قبائل شمال إفريقيا الموجودة في القسم الأوسطضمن مملكة أمازيغية موحدة وهي مملكة نوميديا. ويعرف على سياسة ماسينيسا أنها تعتمد في جوهرها على الحنكة والتجربة والذكاء والخبرة في التعامل الدبلوماسي مع الدول القوية كما يظهر ذلك واضحا في مهادنتها للرومان، ولاسيما في مواجهتها للقرطاجيين الذين كانوا يعاملون البربر معاملة سيئة.وكان ماسينيسا يعترف بأحقية الأمازيغيين في استرجاع أملاكهم من القرطاجيين التي استلبوها من أجدادهم حسب ما أورده المؤرخ تيت ليف:" إن القرطاجيين أجانب في بلادنا، فقد استولوا غصبا على أملاك أجدادنا، ولذلك يجب أن نسترد منهم بجميع الوسائل ماانتزعوه منا بالقوة". وهذا ما دفع ماسينيساليتحالف مع الرومان كي يساندوه في معاركه الطاحنة مع جيرانه القرطاجنيين، فأسفرت تلك الحروب على هزيمة قرطاجنية شنيعة. وإليكم الشروط التي فرضتها روما على قرطاجنة المنهزمة: "1- تعترف قرطاجنة بسيادة روما المطلقة حتى على إسبانيا؛ 2-تسلم لها الأسطول والفيلة وتؤدي لها- فوق ذلك - غرامة حربية كذلك؛ 3- تقيم ماسينيسا ملكا على نوميديا وتدفع له غرامة حربية كذلك؛ 4- تأخذ قرطاجنة على نفسها ألا تعلن حربا، بعد، إلا بمشورة روما.". وهكذا، أصبحت قرطاجنة منهوكة ومستلبة الإرادة وضعيفة اقتصاديا وسياسيا تحت رحمة الملك ماسينيسا الذي كان حليفا للرومان في شمال إفريقيا. وكلما تلقى ماسينيسا الأوامر من حكومة روما إلا واستعد لمجابهة قرطاجنة، وقد كان من الأسباب غير المباشرة في القضاء على أقوى جنرال حربي في شمال إفريقيا القديمةألا وهو القائد "حنبعل". وإذا كان صيفاقس حليف القرطاجيين بشكل كبير، فإن ماسينيسا كان عدوهم اللدود، وذلكبمساندة الرومان و الحاكم باگا Baga ملك موريطانيا. وكما قلنا سابقا لقد استطاعأوگليد (الملك) ماسينيسا في فترة الحروب البونيقية التي كانت تدور رحاها بين الرومان والقرطاجنيين أن يوحد القبائل الأمازيغية تحت راية واحدة هي رايةسلطنة نوميديا، وعملة برونزية نحاسية واحدة، وكتابة قومية تسمى بكتابة تيفيناغ. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، من استفاد من هذه المناوشات والمعارك الطاحنة بين جيوش ماسينيسا وقوات قرطاجنة: هل هو ماسينيسا الذي يريد أن يحافظ على وحدة الشعب الأمازيغي بمهادنة الحكومةالرومانية والاستفادة من تشجيعاتها، أم حكومة روما التي استعملت ماسينيسا أداة لمجابهة قرطاجة وإضعافها قبل أي تدخل روماني قوي؟! وفي هذا يقول عبد الله العروي:" قد يتنازعالمؤرخون إلى ما لانهاية حول السؤال التالي: هل استغلت روما ماسينيسا للقضاء على قرطاج أم بالعكس استخدم ماسينيسا روما لبناء دولة نوميدية قوية بقصد توحيد شمال إفريقيا بعد استيعاب الحضارة البونيقية؟ (انظر فرانسوا دوكريه ومحمد فنطر. إفريقيا الشمالية في القديم، 1981م)، لكن الأمر المحقق هو أن كل المبادرات كانت بيد مشيخة روما، بعد انتهاء الحرب البونيقية الثالثة سنة202ق.م. كان الرومان يستطيعون في أي وقت توقيف أي حركة يشمون فيها خطرا على مصلحتهم". ويذهب محمد شفيق إلى أن روما كانت تخطط للسيطرة على شمال إفريقيا من خلال ضرب الأمازيغيين بالأمازيغيين، وتسليطهم على الفينيقيين الموجودين بقرطاجنة لكي يفسح للحكومة الإيطالية المجال من أجل الانقضاض على كل الممالك الأمازيغية:" فبينما كانت كل مملكة من هذه الممالك الثلاث تحاول جمع الشمل في المنطقة الخاضعة لنفوذها، كانت الحروب تتوالى بين روما وقرطاجة، فنتج من ذلك أن كلا الطرفين المتحاربين صار يغري الأمازيغيين بالتحالف معه، ويستغل التنافس الذي يطبع علاقات الملوك بعضهم ببعض. وفي أثناء الحرب البونيقية الثانية استطاعت روما، بفضل معرفتها لمعطيات المجال السياسي الإفريقي، أن تكسب صداقة أشد الملوك حنقا على قرطاجة، وهو ماسينيسا، وأن تتحالف معهم، فكانت تلك المحاولة هي الثلمة الأولى التي تسربت منها الهيمنة السياسية الرومانية، شيئا فشيئا إلى مراكز الحكم في أقطار المغرب كلها؛ ذلك أن روما اتخذت جميع أساليب الترغيب والترهيب منهجية لها لإغراء الملوك الأمازيغيين بعضهم ببعض، في كل من امتنع أن يكون عميلا لها، واستمرت على تلك الخطة ما يقرب من قرنين، موسعة نطاق سيطرتها في اتجاه الغرب إلى أن قضت على الممالك كلها؛ ولم تبق بصورة شكلية، إلا على عرش موريطانيا. فأجلست عليه الأمير الأمازيغي الشاب يوبا بن يوبا الذي كانت قد أسرته، وهو صبي بعد التخلص من أبيه. فظل يوبا لها عميلا إلى أن توفي. فسار ابنه بطليموس على نهجه، إلى أن استدرجه ابن خالته، الإمبراطور الروماني" كاليگولا"Caligula إلى حضور احتفالات رسمية بمدينة" ليون" الغالية، حيث أمر باغتياله، سنة 40 م. وبموته انقرضت الممالك الأمازيغية القديمة." ولم تضعف مملكة ماسينيسا العظيمة إلا بوفاته في سيرتا بعد أمد طويل في الحكم، لتجعل روما سلطة نوميديا بين أبناء ماسينيسا، وۥتدخل نوميديا بعد ذلك في دوامة الحروب الأهلية استعدادا للسيطرة كليا على تامازغا.
3- مظاهر الحضارة الأمازيغية في عهد ماسينيسا:
من أهم منجزات ماسينيسا أنه وحد القبائل والممالك الأمازيغية تحت شعار: " إفريقيا للأفارقة"، خاصة القبائل التي كانت تسكن بين منطقتي طرابلس الليبية شرقا ونهر ملوية غربا. وبذلك أسس ما يسمى بمملكة نوميديا الكبيرة المستقلة عن الحكم القرطاجني وأصبح ملكا لها يحمل لقب" أگليد"(الملك باللغة الأمازيغية). وكانت تطلق كلمةنوميديا في تلك الفترةعلىالقسم الأوسط من إفريقيا الشمالية، وتنقسم بدورها إلى قسمين: نوميديا الشرقية أو "ماسولة"، ونوميديا الغربية أو "مازيسولة"، يفصل بينهما نهر الشليف الحالي الموجود بالجزائر. أما موريطانيا فكانت تطلق في تلك الفترة على القسم الغربي من شمال إفريقيا والممتد من نهر ملوية الحالي حتى المحيط الأطلسي غربا. وقد اتخذ اسمه من اسم القبائل المورية الأمازيغية التي كانت تعيش هناك، بينما يوجد في شرق مملكة نوميديا أفريكا التي كانت تجمع بين ليبيا وتونس على حد سواء. ومن أسباب توحيد مملكة نوميديا أن ماسينيسا كان يعتمد على أسس السياسية التقليدية كالاعتماد على المصاهرات والتعاقد مع زعماء القبائل واستغلال الشعور الوطنيالمبني على الهوية الأمازيغية وإيقاظ المشاعر الدينية في خدمة الشعور الوطني والاعتماد على الحروب عند الضرورة القصوى.كما أن "الأداة الأساسية لتحقيق هذا المشروع السياسي (توحيد الدولة) هو الجيش، الذي أحكم تنظيمه ليشتهر ببسالته وإمكانياته الحربية. والملاحظ أن الأمازيغ النواميد تحلوا بالانضباط والتمسك بالملكية، بحيث سادت في أوطانهم عبادة الملك- الإله وانتقل الحكم وراثيا في بيت ماسينيسا". ومن جهة أخرى، أرسى ماسينيسا مملكة أمازيغية عاصمتها سيرتا (قسنطينة) بناها في منطقة مسيجة بالجبال المنيعة وهي جبال الأوراس العتيدة. وقد جعل للمدينة أسوارا وحصونا، وقسم المدينة إلى أحياء سكنية وتجارية ومرافق عمومية وإدارية ودينية. وقد تأثر ماسينيسا في بناء مدينتهبالحضارة القرطاجنية والحضارة اليونانية. وعمل ماسينيسا أيضا على وضع أبجدية أمازيغيةليبيةمحلية تسمى بكتابة تيفيناغ متأثرا في ذلك باللغة الفينيقية الكنعانية والحروف البونيقية القرطاجنية. ومن أسباب إقبال الأمازيغيين على اللغة الفينيقية الكنعانية التقارب العرقي والوجداني واللغوي بين اللغتين: تيفيناغ واللغة الفينيقية الكنعانية (لغة الشام). وفي هذا يقول عبد الرحمن الجيلالي في كتابه:" تاريخ الجزائر العام":" لقد أقبل البربر على اللغة الكنعانية الفينيقية، عندما وجدوا ما فيها من القرب من لغتهم وبسبب التواصل العرقي بينهم وبين الفينيقيين". ومن الناحية الاجتماعية، لقد حفز ماسينيسا الأمازيغيين البدو والرعاة على الاستقرار في المدن و الضواحي والقرىلخلق اقتصاد زراعييعتمد على الحبوب والفواكه والثمار؛ مما جعل القطاع الزراعي يعرف فائضا في الإنتاج بسبب التأثر بتقنيات الزراعة المستوردة من اليونان وإيطاليا. ومن ثم، يلتجئ ماسينيسا إلى تصدير ذلك الفائض لتعويض النقص الذي يعاني منه على مستوى الواردات. ومن هنا نقول بأن ماسينيسا هو الذي حضّر شعبه وأخرجه من البداوة إلى المدنية والاستقرار الاجتماعي، وفي هذا يقول بوليب:" هذا أعظم وأعجب ما قام به مسينيسا، كانت نوميديا قبله لافائدة ترجى منها، وكانت تعتبر بحكم طبيعتها قاحلة لاتنتج شيئا، فهو الأول الوحيد الذي أبان بالكاشف أن بإمكانها أن تدر جميع الخيرات مثل أية مقاطعة أخرى، لأنه أحيى أراضي شاسعة فأخصبت إخصابا". ولتحريك العملية الاقتصادية والتجاريةداخل مملكة نوميديا، فرض ماسينيسا الجبايات والضرائب على السكان، وفتح مملكته للتجار اليونانيين، و سك عملة نقدية نحاسية وبرونزية تحيل على الرغبة في الاستقلال والتعبير عن قوة مملكة نوميديا سياسيا واقتصاديا. ويشير وجه العملةإلى رأس ماسينيسا وفوقه تاج الملك والسيادة وخلفه صولجان الحكم، وأمام وجهه تتدلى سنبلة قمح. وتحيل هذه العلامات السيميائية على السلطة السياسية والسلطة الاقتصادية، وتعبر عن عظمة مملكة نوميديا السياسية وتقدمها الاقتصادي. كما يظهر لنا من خلال قراءتنا لمكونات العملة مدى تأثر ماسينيسا بالحضارة الإغريقية المقدونية. ومن جهة أخرى، يحمل ظهر العملة النقدية ثلاثعلامات أيقونية بصرية: حصان أمازيغي رشيق، وصولجان الحكم، وكتابة تيفيناغ. وتحيل هذه الدوال الرمزية على قوة الملك السياسي، وشجاعة الإنسان الأمازيغي الفارس وشهامته في الحروب والمعارك ضد المحتل، بينما تشير الكتابة إلى الخاصية الحضارية التي تتميز بها مملكة نوميديا القوية التي تتجلى في اعتمادها على كتابة تيفيناغ في تسيير دواليب الدولة وتدبير مرافقها السياسية والتربوية والعسكرية والاقتصادية. كما يتبين لنا أن الملك ماسينيسا كان يحمل الصولجان ويضع على رأسه العرش ويحيط رأسهبحبات القمح على غرار التاج اليوناني الهليني. وفيما يتعلق بالمجال العسكري، فقد كان ماسينيسا قائدا حربيا محنكا ورجلا عسكريا مدربا على أحدث الطرق الحربية المنظمة وخاصة الطريقتين: الرومانية و اليونانية.وهذا ما دفعه ليعد جيشا أمازيغيا موحدا عتيدا يجمع بين المشاة والفرسان، كما كان يملك أسطولا تجاريا قويا يساهم في إثراء المبادلات التجارية بين الشعوب الأخرى، وكان يتوفر أيضا على أسطول بحري عتيد للدفاع عن حدود نوميديا. وعلى المستوى الخارجي، ربط ماسينيسا علاقات ودية مع روما عدوة قرطاجنة، ومع اليونان التي كان يجلب منها العلماء والخبراء والفنانون والأدباء. هذا، وقد انتشرت في عهد ماسينيسا" الثقافة البونية بين الأمازيغيين أكثر من ذي قبل، مع معاداته لقرطاجة، وقدم العاصمة" قيرطا/ سيرتا" عدد من الأدباء والفنانين اليونان، وجعلوا منها مدينة راقية في حياتها المادية والفكرية. كان الملك نفسه معجبا بالحضارة اليونانية، وكان يعمل بتقاليد الملوك اليونانيين، فأكل في الآنية الفضية والذهبية، واتخذ جوقة من الموسيقيين الإغريق. ولاشك أن التجار اليونانيين كانوا يروجون بضاعتهم بفضل ولوعه بكل ماهو يوناني.". وعلى العموم، فلقد حقق ماسينيسا إنجازات سياسية واقتصادية وثقافية وحضارية كبيرة لصالح الأمازيغيين وصالح تامازغا. و كان ماسينيسا ملكا ذكيا ودبلوماسيا محنكا في تعامله مع الشعوب القوية كالرومان واليونان. واستطاع بدهائه أن يؤسس مملكة نوميديا، وأن يوسع أطرافها على حساب قرطاجنة، وأن يدافع عنهوية الأمازيغيين ولغتهم وكتابتهم " تيفيناغ" التي هي رمز حضارهم وأس كينونتهم الوجدودية وعنوان ذاكرتهم التاريخية.
خاتمة:
وفي الأخير، لم يتحقق لماسينيسا ماكان يحلمبه كثيرا، أي أن يوسع مملكته على حساب قرطاجنة وموريطانيا. ولقد توفي هذا البطل الشهم قبل أن تنهار قرطاجنة التي كان ينتظر الفرصة السانحة للانقضاض عليها وضمها إلى مملكته الواسعة الأطراف. فلما أحس الرومان بما كان يطمح إليه ماسينيسا ألا وهو توسيع مملكة نوميديا على حساب جيرانه الأعداء،وتقوية نفوذ سلطته شرقا وغربا، سارعت الحكومة الإيطالية إلى تقسيم عرش ماسينيسا بين أولاده الثلاث، وهم: ماسيبسا الذي تولى السلطة الإدارية، و مستعنبعل الذي تكلف بالشؤون القضائية، وغولوسن الذي كان يهتم بالشؤون العسكرية. وقد تم توزيع السلطات بين أبناء ماسينيسا الثلاثة بحضور الحكومة الرومانية في شخص قائد جيوشها الجرارة سيبيون الإيميلي الذي حاصر قرطاجة، وجاء ليعلن تبعية مملكة نوميديا للعاصمة روما.
عدل سابقا من قبل في الأحد 30 سبتمبر 2007 - 21:26 عدل 1 مرات
موضوع: رد: الملوك الأبطال الأحد 30 سبتمبر 2007 - 20:32
3- يوبا الأول
تمهيد:
يعد يوبا الأول من أهم أبطال المقاومة الأمازيغية في شمال أفريقيا بصفة عامة ونوميديا بصفة خاصة إلى جانب صيفاقس وفيرمينا وماسينيسا ويوغرطة وتاكفاريناس...وإذا كان ابنه يوبا الثاني قد انتهج المقاربة الثقافية في مقاومة غطرسة الإمبراطورية الرومانية ، فإن الأب يوبا الأول على العكس اختار المقاومة العسكرية سبيلا لمواجهة قياصرة الحكومة الرومانية من أجل إيقاف زحف قواتها الحاشدة المتجهة حيال منطقة تامازغا. وبالتالي، استطاع يوبا الأول أن يدخل في حروب شرسة ضد الغزو اللاتيني من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل والدفاع عن نوميديا باستماتة نادرة المثال قصد حماية حرية الأمازيغيين الذين كانوا يرفضون بشكل قاطع كل أنواع الذل والعار والخسف والاستعباد. لذلك أظهر يوبا الأول شجاعة كبيرة في مقاومة الغزاة الأعداء والدفاع عن أراضي وساكنة نوميديا إلى أن سقط مكافحا شهيدا ومناضلا شريفا في ساحة المبارزة مع أحد جنود الرومان بعد هزيمته في معركة الحلفاء غير المتكافئة عددا وعدة.
1- من هــو يوبـــا الأول؟
بعد وفاة الجد الأمازيغي الأكبر المقاوم الملحمي يوغرطة قسمت مملكته في نوميديا إلى قسمين:مملكة يتولاها بوگوس الأول، بينما المملكة الثانية يتولى حكمها الملك گودا الذي كان رجلا معتوها ومتخلفا عقليا، فسلم هذا الأخير الحكم لابنه المثقف الملك هيمپسال الثاني الذي ألف مؤلفات كثيرة متنوعة بعضها في وصف أفريقيا، ولقد استفاد في ذلك من مكتبة أسلافه من العلماء الأمازيغيين والفينيقيين والقرطاجنيين واليونانيين ، ونهل الكثير من مكتبة قرطاجنة الزاخرة بالكتب الثمينة ومصنفات المعارف الأدبية والعلمية والفنية ؛ ولكن جميع المؤلفات التي كتبها هيمپسال الثاني ضاعت ولم تصل إلينا. وبعد وفاة الملك هميپسال الثاني، تولى ابنه يوبا الأول عرش أبيه. ويعني هذا، أن يوبا الأولYuba 1 هو حفيد يوغرطة ، ومن مواليد بونة (عنابة) بنوميديا ( الجزائر)، ومن حكام مملكة مازيلة حيث أسس فيها مملكة أمازيغية عاصمتها زاما. وقد ورث يوبا حكم أبيه هيمپسال الثاني، فحافظ على سياسته وطريقة إدارته وتسيير الحكم وتدبيره حتى مقتله سنة 46 ق.م. ويعتبر يوبا الأول في تاريخ الممالك الأمازيغية آخر ملك نوميدي مستقل، وبعده ستصبح نوميديا مقاطعة مستعمرة تابعة مباشرة للحكومة الرومانية. ومن باب الفائدة ليس إلا، فإن كلمة" يوبا"أو "جوبا" في مدلولها اللغوي الأمازيغي لاتعني اسما علما أو اسما شخصيا أوعائليا، وإنما يطلقها البربر على العاهل وهو مرادف أگليد ( أجدجيذ بالريفية) أي الملك، ويجمع على إيگليدن وهو في أصل لفظه يعني نفس مدلول الكلمة العربية: الجبة.
2- تطور مقاومة يوبـــا الأول:
عاش يوبا الأول في المرحلة اللاتينية التي تميزت بسيطرة القوات الرومانية على ممالك شمال أفريقيا، واستعداد هذه القوات الإيطالية لاحتلال تمازغا بكاملها من الشرق حتى الغرب ومن الشمال حتى الجنوب، مع إظهار النية السيئة في تطويق الممالك الأمازيغية وتسييجها بخط الليمس لفصل أفريقيا النافعة عن غير النافعة وطرد المقاومين خارج السد الأمني، واستغلال كل ماهو داخل نطاق هذا الخط الأمني لصالح أباطرة روما ومعمري شمال أفريقيا ورجال كنيستها. وكان لما يقع في روما من فتن وأحداث دامية وما يجري فيها من إحن وصراعات سياسية وعسكرية، وما تعرفه من قلاقل وثورات وانقلابات له أثر كبير وصدى سلبي ينعكس على سياسة شمال أفريقيا وتوجيه سياستها الداخلية والخارجية، ففي أواسط" القرن الأول ق.م شهدت الممالك الأمازيغية ...تطورات خطيرة، عكست مدى تبعيتها لروما ووقوعها في فخ سياستها، ذلك أنه بعد موت الدكتاتور سيلا ساد فراغ سياسي في روما نتيجة ضعف مجلس الشيوخ، فبرز ثلاثة زعماء طموحين في الساحة، مما أفضى إلى نزاع بينهم انتهى بسيطرة قيصر على الحكم سنة 48 ق.م. وقد امتدت تأثيرات هذه التطورات إلى شمال أفريقيا، التي كانت دائما أحد ميادين تصفية الحسابات السياسية الرومانية، إذ تحالف الملوك الأمازيغ مع فرقاء الصراع الروماني، مما جر ويلات كثيرة على الدول الأمازيغية." وعلى أي، فقد عايش يوبا الأول الحرب الأهلية الإيطالية التي كانت رحاها تدور في شوارع روما خاصة بين القائدين الرومانيين الكبيرين:"يوليوس قيصر"، و"پومبيوس Pompeius " من أجل الاستيلاء على السلطة. فكان لابد للملوك الأمازيغيين في شمال أفريقيا أن يحددوا ولاءهم لقائد من هذين القائدين، وأن يتحالفوا مع واحد ضد الآخر، وأن يقدموا له كل المساعدات المادية والمعنوية والبشرية والعسكرية حتى يحافظوا على ملكهم في نوميديا، ويستفيدوا من الجوائز والهبات والامتيازات والاستيلاء على ممالك جيرانهم . زد على ذلك، أنه من الواجب أن يدافعوا عن ممالكهم ضد الغزاة مادامت تمازغا على وشك أن تكون في قبضة الرومان ؛ لأن القوات اللاتينية متجمهرة في عدة مراكز حدودية وعسكرية، وقد استنفر القواد حشودها المنظمة في عدة فيالق مدربة على أحدث الأسلحة الحديدية ، ومنظمة أحسن تنظيم عسكري في العالم في تلك الفترة من التاريخ القديم ، ومحصنة بطريقة عتيدة في قلاع و ثغور شمال أفريقيا تراقب كل تحركات الممالك النوميدية والموريتانية بشكل دقيق ومخطط، منتظرة الفرصة السانحة للانقضاض على ملوك نوميديا للتنكيل بهم والإيقاع بهم إما ذلا وأسرا وإما خسفا وهلاكا. وفي خضم هذه الحرب الأهلية التي نشبت بين هذين القائدين الكبيرين، ارتضى يوبا الأول أن يتحالف مع القائد بومپيوس وصديقه الأمازيغي الملك ماسينيسا الثاني؛ لأنه كان يعرف مسبقا نوايا يوليوس قيصر وأطماعه الخفية والمعلنة في شمال أفريقيا، وطريقته المستبدة في إدارته لمنطقة تامازغا واستعماله للشدة والقسوة في تسييره لممالك هذه المنطقة. لذلك رفض يوبا الأول التحالف مع قيصر الروم لامن قريب ولا من بعيد، بينما الملكان الموريتانيان بوگود الثاني وبوگوس الثاني اختارا التحالف مع يوليوس قيصر طمعا في الامتيازات وخوفا من بطش يوليوس القيصر المتجبر . وكان النصر في الأخير للقيصريين على حساب القائد پومپيوس المنهزم أمام القوات القيصرية المتحالفة مع القوات الأمازيغية العاتية. وقبل ذلك، لقد ارتضت القوات الرومانية القيصرية النزول السريع بتونس في "رأس بون" سنة 49ق.م ، فحاصرت مدينة "أوتيكا " التي لم تحرر إلا من قبل الملك يوبا الأول، وقد نال هذا العمل الرائع إعجاب القائد الروماني بومپيوس ورضاه الكبير، فشجعه على مواصلة القتال حتى النفس الأخير. بيد أن القوات القيصرية ستحط ركابها وتنزل عتادها مرة أخرى في شواطئ أفريقيا. وبالتالي، ستحاصر فيالق القيصر قوات يوبا الأول من كل الجهات مدعّمة بالقوات المورية الغربية التي كان يقودها كل من بوگود الثاني وبوگوس الثاني. فاضطر يوبا الأول للتراجع نحو عاصمته زاما، ولكنه لم يرض بالفرار والتراجع، فاختار ميتة شريفة عن طريق المبارزة مع العدو في ساحة القتال والشرف بدلا من أن يؤخذ أسيرا ذليلا إلى روما. وكانت هذه الفترة تسمى في التاريخ القديم بعصر الجمال الذي" ظهرت بوادره خلال المائة سنة التي سبقت التاريخ الميلادي؛ وبالتحديد في سنة 46 ق.م خلال معركة تابسوس (رأس الديماس) ؛ التي دارت بين يوليوس قيصر روما والملك الأمازيغي يوبا الأول؛ الذي تحالف مع خصم سيزار اللدود بومپيي ( پمپايوس). ". وعليه، فقد اندلعت حرب الحلفاء سنة48 ق.م في شمال أفريقيا، وشاركت فيها قوات يوبا الأول مع قوات پومپيوس وقوات ماسينيسا الثاني، ولكنها انهزمت هزيمة شنعاء أمام التحالف الثلاثي الذي كان يتكون من جيش قيصر وجيش بوگود الثاني وجيش بوگوس الثاني. فتعرضت قوات يوبا للهلاك الفظيع، و لحق مملكته دمار هائل وخراب كبير. وتمكن يوبا الأول من الفرار بعد أن وجد نفسه وحيدا في المعركة مع قلة من جيشه المنهوك من شدة المواجهة الشرسة والمقاومة العتيدة. وقد نتج عن هذا الموقف التراجيدي الذي يتمثل في الهزيمة والخسران إحساس يوبا الأول بالعزلة عن أسرته وجيشه. فقرر يوبا الانتحار بطريقة غريبة قوامها الإباء والشرف والشجاعة والموت في ساحة الحرب بدلا من الفرار والتراجع عن مبادئه السامية التي كان يؤمن بها ويؤمن بها كل أمازيغي حر وشهم. لذلك، دعا للمبارزة آخر رفيق وجده بجنبه، وهو قائد روماني، فتضاربا إلى أن أردى كل منهما الآخر قتيلا في 46 قبل الميلاد. ولما توفي يوبا الأول ترك ولدا صغيرا في الخامسة أو السابعة من عمره يسمى يوبا الثاني، فأسره يوليوس قيصر فحمله معه إلى روما ، ثم نشأ الفتى الأمازيغي بعد ذلك في كنف الإمبراطور أغسطس خلف قيصر الذي ساعده على طلب العلم في عدة مدارس ومعاهد رومانية وأجنبية إلى أن صار مثقفا كبيرا يشهد له بالعلم الواسع أعداؤه قبل أصدقائه . ونظرا لثقافة يوبا الثاني الموسوعية وكفاءته في التسيير الإداري ووفائه وإخلاصه للقيصر الروماني، نصبه أغسطس ملكا على موريتانيا الطنجية وزوجه ملكة سيليني Selené ابنة الإمبراطورة الرومانية كليوباترة المصرية وأنطوان ليبقى حليفا مواليا طائعا للرومان في شمال أفريقيا. فكانت المفارقة " أن رعايا يوبا الثاني كانوا يقدسونه ويمقتونه في آن واحد". وعلى العموم، فبعد انتحار يوبا الأول ، تحولت مملكته نوميديا الشرقية إلى مقاطعة رومانية أطلق عليها أفريقيا الجديدة، بينما كوفئ بوگوس الثاني من قبل القيصر بضم جزء من نوميديا الغربية إلى مملكته، في ذات الوقت خلقت دويلة في قلب نوميديا لتكون حاجزا عسكريا استراتيجيا أعطيت لمغامر عسكري إيطالي يدعى ستيپوس للفصل بين أفريقيا الجديدة ومملكة موريتانيا الشرقية. هكذا أسفرت التطورات السالفة عن إعادة رسم الخريطة السياسية لإفريقيا الشمالية وفق مصالح روما، وبالتالي، وضعت الأسس لخططها المستقبلية، إذ نجد قيصر يشرع في توطين الفقراء وقدماء الجنود الرومان في ولاية أفريقيا القديمة، الشيء الذي ينم عن إرادته في خلق قاعدة اجتماعية لحكمه الفردي، وهو ما أفضى إلى اغتياله سنة 44ق.م". وعلى أي حال، فبهزيمة يوبا الأول في معركة التحالف الأمازيغي –الروماني فقدت نوميديا استقلالها السياسي سنة46 ق.م بعد قرن من ذكرى احتلال قرطاجنة في 146ق.م على أيدي الرومان بتحالف مع قوات ماسينيسا الأول. وبالتالي، فقد دخلت نوميديا بصفة خاصة وأفريقيا الشمالية بصفة عامة بشكل مباشر في ظل الحكم الروماني لتصبح نوميديا مقاطعة تابعة للعاصمة المركزية روما، ليبدأ عهد جديد بعد فترة التمهيد والتوطئة الاستعمارية هو عهد التوطين وإرساء الحكم الروماني إداريا وسياسيا واقتصاديا. بيد أن الاستقرار في نوميديا لن يكون أمرا سهلا؛ وإنما سيفرز حتما ودوما عدة مقاومات عسكرية وثقافية واجتماعية ستعكر صفو أباطرة الرومان الذين سوف لن ينعموا أبدا بسعادة الانتصار وثمار الاستغلال وزهو السيطرة حتى تنتهي شوكتهم بدخول الوندال والبيزنطيين والفاتحين المسلمين.
3-منجزات يوبـــا الأول:
من أهم ما يعرف عن يوبا الأول أنه كان شديد الحقد على قوات الحكومة الرومانية التي كانت تستهدف السيطرة على شمال أفريقيا وإذلال نوميديا وتركيع الأمازيغيين ورومنتهم من أجل استغلال أراضيهم واستنزاف ثرواتهم والاستيلاء على ممالكهم وتخصيصها للمعمرين الإيطاليين لكي يستفيدوا منها . ولكن يوبا الأول لم يرض بهذه السياسة العدوانية التي تكرس الهيمنة الرومانية على حساب حقوق الأمازيغيين الأحرار. لذلك شكل جيشا أمازيغيا عتيدا من المشاة والفرسان ونظمهم بطريقة حديثة مستوحيا في ذلك الطرائق العسكرية الرومانية واليونانية والقرطاجنية في التحصين والمجابهة والمبارزة والهجوم والدفاع، وكل هذا من أجل الاستعداد لكل مواجهة محتملة ضد الرومان. وكان يوبا على علم تام بكل نوايا القياصرة الاستعمارية. فكان يعد دائما كل ما يتوفر عليه من قوة مادية وبشرية لملاقاة القوات الرومانية المتغطرسة في بحر الروم أو ما يسمى أيضا بحوض البحر الأبيض المتوسط خاصة بعد انتصار الرومان على مملكة قرطاجنة وتخريبها بشكل نهائي. وقد عمل يوبا الأول جاهدا من أجل توحيد نوميديا تحت رايته من أجل خلق مملكة أمازيغية قوية في وسط شمال أفريقيا على غرار مملكة ماسينيسا القوية لا يمكن أن تضعضع من قبل القوات المباغتة لبلاد تامازغا. ويعرف عن يوبا الأول أنه كثير الغيرة على وطنه وساكنة نوميديا وسيادة وطنه ومملكته. هذا، وقد سك يوبا الأول عملته النقدية الأمازيغية المحلية متأثرا في ذلك بالعملة الرومانية، والدليل على ذلك أن العملة كانت بها كتابات وخطوط لاتينية. كما جعل لمملكته راية خاصة وشعارا خاصا هو البرنس الأحمر الدال على النضال والكفاح والتضحية من أجل الوطن. وكان يمنع الضباط الرومانيين من لبس البرنس الأحمر؛ لأن هذا البرنس شعار الأمازيغيين ، كما أنه كان لباسه الخاص في كل المناسبات الرسمية وغير الرسمية، وكان أيضا شعاره المفضل في الحروب التي كان يخوضها ضد الغزاة الروم. ومن جهة أخرى، عرفت مملكة يوبا الأول رخاء اقتصاديا كبيرا بفضل الموقع الاستراتيجي الذي كانت تحتله مدينة بونة (عنابة)الساحلية باعتبارها مرفأ تجاريا مهما إلى جانب كونها منطقة فلاحية خصبة ومدينة صناعية غنية بالثروات، تنتعش فيها الزراعات المتوسطية، وفي نفس الوقت يزدهر فيها الصيد البحري وصناعة القوارب والسفن البحرية والحربية.
خاتمة:
يتبين لنا - مما سبق ذكره- أن يوبا الأول يعد آخر ملك نوميدي مستقل، وهو من أهم الملوك الأمازيغيين الذين أنجبتهم نوميديا بسبب غيرته على وطنه والرغبة العارمة في توحيد ممالك مازولة ومازيلة تحت راية واحدة. ولم يتحالف يوبا الأول مع الرومان مثل غيره من الملوك من بني جلدته كماسينيسا الأول و يوبا الثاني وبوگود الثاني وبوگوس الثاني من أجل مصالحه وتوسيع سلطاته والحصول على الجوائز والامتيازات على حساب كرامة الشعب الأمازيغي ومبادئه السامية العليا ، بل كان كصيفاقس وتاكفاريناس ويوغرطة همه الوحيد هو بناء تمازغا وتوحيدها وإسعاد ساكنتها مع خوض الحروب ضد الأعداء الرومان الذين كانوا يتربصون به من أجل الإيقاع بحكمه من أجل السيطرة على نوميديا وتوزيع ثرواتها وممتلكاتها على أبناء إيطاليا ورعاع أيبيريا. ومن ثم، فقد استرخص يوبا الأول حياته في سبيل الحفاظ على الاستقلال وتأمين حرية الوطن واستقرار الشعب النوميدي . لذلك كان ۥيعد كل ما استطاع من قوة مادية وبشرية من أجل مواجهة أباطرة الأطماع وقياصرة الاستغلال والجيوش الرومانية الجبارة التي اعتمدت في توسعاتها على بعض الملوك الأمازيغيين الخونة كبوگود الثاني وبوگوس الثاني.
عدل سابقا من قبل في الأحد 30 سبتمبر 2007 - 21:30 عدل 1 مرات
موضوع: رد: الملوك الأبطال الأحد 30 سبتمبر 2007 - 20:45
4- صيفاقــــس
تمهيد:
لم تظهر الممالك الأمازيغية في شمال إفريقيا إلا في القرن الثالث قبل الميلاد، وقد استهدف ملوكها الأوائل وهم: صيفاقس وماسينيسا وباگا وفيرمينا جمع شمل الأمازيغيين وتوحيد تامازغا. ومن ثم، يمكن الحديث عن ثلاث سلالات ملكية أمازيغية قديمة. وهي الأسرة المازيلية ( أو الماسيلية)، وموطنها نوميديا الشرقية، ومن أهم ملوكها: أيليماس وزيلالسان وگايا وأوزالكاس وماسينيسا وكافوسا وميكيوسا وماستانابعل وگولوسا وأمفسال الأول وأدربعل ويوغرطة وگوضا وأمفسال الثاني ويوبا الأول ويوبا الثاني وبطليموس. والأسرة الثانية وهي الأسرة الميسايسولية ( أو المازيسولية)، وموطنها نوميديا الغربية، ومن أهم ملوكها: صيفاقس وفيرمينا. أما الأسرة الثالثة فهي الأسرة أو الأسر الموريطانية، ومن أهم ملوكها: باگا، وبوكوس الأول، وبوگود وبوكوس الثاني وبوگود الثاني. وعلى أي حال يعتبر صيفاقس الملك الأمازيغي الأول الذي أسس تامازغا وسعى جاهدا لتوحيدها وجمع شمل أبنائها. إذا، من هو صيفاقس؟ وما هي المراحل التي قطعتها ثورته؟ وماهي أهم إنجازاته ؟ وما نتائج ثورته ؟ تلكم هي الأسئلة التي سنحاول كشف القناع عنها في موضوعنا المتواضع هذا.
1- من هو صيفاقــــس؟
يعد الملك صيفاقس Syphax أو سيفاقس أو سيفاغس أو سفك عند ابن خلدون من الملوك الأمازيغيين الأوائل الذين عملوا على توحيد ساكنة تامازغا إلى جانب الملك ماسينيسا و الملك باگاBaga والملك فيرمينا . وقد عاش الملك صيفاقس في القرن الثالث قبل الميلاد. وينتمي إلى الأسرة المازيسولية التي كان موطنها نوميديا الغربية. وقد صار ملكا لها، واتخذ سيگا عاصمة له أو ما يسمى الآن في الجزائر بعين تيموشونت. وهناك مملكة أخرى تقابلها في الشرق تسمى ماسولة التي ينتمي إليها ماسينيسا ويفصلها عن الأولى نهر شليف الحالي، وتمتد في حدودها الترابية حتى قرطاجنة بتونس. وبتعبير آخر، هناك نوميديا الشرقية أو ماسولة، ونوميديا الغربية أو مازيسولة. وسيدخل صيفاقس في حروب طاحنة مع ملك ماسينيسا الموالي للروم ستنتهي بانتصار ماسينيسا وحلفائه الروم الذين قتلوه سنة 203 قبل الميلاد.
2- تطور مقاومة صيفاقــــس:
اشتدت الحرب البونيقية الثانية ( Les guerres puniques) بين الرومان والقرطاجنيين، فحاولت كل من روما وقرطاجنة أن تجذب صيفاقس لصالحها كي يساعدها في حروبها الطويلة الأمد ضد منافستها اللدودة. وتدخل صيفاقس في البداية للصلح بين الطرفين، ولكن الحكومة الرومانية كانت متعنتة في مواقفها المعادية للقرطاجنيين. فمال صيفاقس إلى قرطاجنة وتزوج بالجميلة الفينيقية الحسناء "صوفونيسبا" . وأصبح صيفاقس مواليا للقوات القرطاجنية بعد أن علم بنوايا روما الاستعمارية وأطماعها في شمال أفريقيا. في حين، التجأت الحكومة الرومانية إلى شاب أمازيغي طموح ألا وهو ماسينيسا فأغرته بامتيازات عدة تتمثل في غرامات مالية والسماح له بالتوسع في أراضي القرطاجنيين التي سيحصل عليها بمجرد القضاء على منافسه صيفاقس والتحالف مع الرومان للقضاء على القوات القرطاجنية. وهكذا استطاع ماسينيسا" أن يهزم صيفاقس الماسايسولي؛ ثم مكّن الرومان من الانتصار على أمهر جنرال عرفه التاريخ القديم، ألا وهو حنبعل القرطاجي؛ وذلك في معركة " زامّا" الشهيرة، سنة202 ق.م. لقد كان سبب بغضه لقرطاجة هو تمسكه بمدإ"أفريقية للأفارقة!" ومما أثار حفيظته ضدها بشكل خاص، حسب ما روي، هو تزويج القرطاجيين صيفاقس مخطوبته"صوفونيسبا". والواقع أن جيرانه القرطاجنيين كانوا متواطئين مع خصمه الماسولوسي قصد القضاء على ملكه. فلم يجد بدا من محالفة الرومان، مع إضمار غايته القصوى في نفسه، وهي إنشاء مملكة أمازيغية موحدة مستقلة عن كل نفوذ أجنبي، ولاسيما أن اتفاقية الصلح بين روما وقرطاجة (201 ق.م) كانت تنص على أن من حقه أن يعمل من أجل استرجاع جميع الأراضي التي كانت بقبضة أجداده، في غير تحديد لتلك الأراضي." ومن المعلوم أيضا، أن صيفاقس قد تحالف في البداية مع الرومان إبان الحرب البونيقية الثانية، وكان في نفس الوقت معارضا لگايا ملك نوميديا الشرقية وابنه ماسينيسا المتحالفين مع القرطاجنيين. لكن صيفاقس سيتوسع في مملكة نوميديا الشرقية بعد وفاة ملكها گايا ، وسيتحالف مع القرطاجنيين الذين قدّموا إليه يد العون في توسعه الترابي، وزوجوه حسناء قرطاجنة ، وهي من أعلى طبقة اجتماعية وهي الفتاة "صوفونيسبا" بنت أزدربال جيسكو قائد قوات قرطاجنة. وهكذا، نجد صيفاقس يدخل في تحالف عسكري مع القرطاجنيين ضد الرومان من أجل أن يحظى برضى عشيقته. وبالتالي، سيخوض صراعا مريرا ضد أخيه الأمازيغي ملك ماسينيسا الذي كان في بداية الأمر مواليا للفينيقيين، ولما رأى تهاون قرطاجنة وعدم مبالاتها تجاه حقه في الولاية على عرش أبيه، خرج عن طاعة قرطاجنة عام158 قبل الميلاد وتحالف مع الحكومة الرومانية وخاصة مع القائد الروماني الأكبر سيپيون الأفريقي لمحاصرة قرطاجنة وتطويق ملك صيفاقس في مملكته مازولة. ولقد استطاع القائد الروماني گايوس لايليوس أن ينتصر على صيفاقس وأن يوقعه أسيرا سنة 203 قبل الميلاد بفضل مساعدة ماسينيسا قرب سيرتا أو ما يسمى حاليا قسنطينة بالجزائر. وۥأرسل صيفاقس بعد ذلك أسيرا إلى عاصمة إيطاليا من قبل الجنرال الروماني كورنيليوس سيپيون الأفريقي حيث مات فيها سنة 202 أو203 قبل الميلاد. وقد تولى الحكم بعد صيفاقس ابنه فيرمينا الذي يعد آخر ملك مازوليسي قبل أن توحد مملكة نوميديا من قبل ماسينيسا.
3- انجازات صيفاقــــس:
من أهم إنجازات الملك الأمازيغي صيفاقس أنه أول من أسس مملكة أمازيغية واسعة وهي مملكة مازيسولة التي كانت توجد في غرب الجزائر وتمتد إلى نهر ملوية غربا وعاصمتها الكبرى هي سيگا، وانتقل صيفاقس من زعيم قبلي إلى ملك يحكم سلطنة أمازيغية شاسعة الأطراف، ثم حمل التاج والصولجان، وضرب العملة باسمه، ونظم الجيش الأمازيغي تنظيما محكما متأثرا في ذلك بالتنظيمين: القرطاجني والروماني. واستعان كذلك بابنه فيرمينا في تسيير الشؤون الحربية والعسكرية. " ومع أنه تأثر إلى حد بتقاليد اليونان السياسية، كان يعتمد في ممارسة سلطته على مساعدة زعماء القبائل. كانت له علاقات دبلوماسية مع كل من قرطاجة وروما. كانت لغة الحياة اليومية والتخاطب في مملكته هي الأمازيغية، وكانت لغة اسمه هو المقصود فيما كتبه ابن خلدون عن أصل البربر إذ قال إن جدهم هو "سفك"؛ يعزز هذا الفرض أن بلوتارخوس Plutarkhos زعم شيئا من هذا القبيل." ويعد صيفاقس أيضا من الملوك الأمازيغيين الأوائل الذين سعوا إلى توحيد البربر وجمع شملهم تحت دولة واحدة وهي دولة تامازغا (دولة الأمازيغيين). ويتضح هذا عندما أراد أن يوحد مملكة نوميديا الشرقية مازيلة ( مسيلة) ومملكة نوميديا الغربية ألا وهي مازيسولة في إطار دولة أمازيغية كبرى في شمال أفريقيا تمتد من قرطاجنة التونسية شرقا إلى نهر ملوية غربا. هذا، ولم يتحالف صيفاقس مع القرطاجنيين عسكريا ونسبا إلا من أجل محاربة الرومان والوقوف في وجه قواتهم الغازية التي كانت تستهدف إذلال الأمازيغيين وتركيعهم خسفا وهوانا، وهذا ما لم يقبله الأمازيغيون الأحرار الأشاوس الذين تربوا عبر تاريخهم الطويل على الحرية والكرامة والأنفة. وكان صيفاقس يرى أن توحيد تامازغا لن يكون إلا على يديه؛ بيد أن سلطانه السياسي سينهار غدرا سنة 203 قبل الميلاد على يد منافسه الأمازيغي ماسينيسا. ويكشف لنا هذا المآل التاريخي التراجيدي صراع الأمازيغيين مع بعضهم البعض، وتطاحنهم حول السلطة وتنافسهم حول الامتيازات والمصالح الشخصية عن طريق التقرب من الرومان من أجل الحصول على الجوائز والهبات والغنائم على حساب التنكيل بقرطاجنة وضرب حضارة الفينيقيين التي أسدت الكثير إلى الحضارة الأمازيغية. وفي هذا الصدد يقول الأستاذ العربي أكنينح:" يتضح من تاريخ الممالك الأمازيغية، أن علاقة البربر بفينيقيي قرطاجة، لم تكن تتسم بالتصادم والجفاء، كما سيكون عليه الحال في عهد الرومان والوندال والبيزنطيين، فيما بعد. فقد تفاعل سكان شمال إفريقيا مع الفينيقيين، واندمجوا معهم لأنهم كانوا يشعرون أنهم من أصل واحد وتربطهم أكثر من رابطة، لذا تحالفوا معهم ضد روما. وكان صيفاقس رئيس مملكة مازيسولة وزوج صفان بعل ابنة هزدروبال،حليف قرطاجة ...هو الوطني الذي ناضل وحارب دفاعا عن إمبراطورية شمال إفريقيا( قرطاجة ) ضد الإمبراطورية الغربية عن المنطقة والمتمثلة في روما." وهكذا نجد القائد الروماني سيپيون يستغل النواميد للقضاء على قرطاجة أولا واحتلال نوميديا ثانيا عن طريق ضرب ملكين ببعضهما البعض ملك صيفاقس وملك ماسينيسا وجرهما إلى الصراع البونيقي والصراع المحتدم بين الرومان والقرطاجنيين. لذلك كان مسينيسا شخصية مفضلة بلا ريب في كتابات المؤرخين الرومان؛ لكونه ساعد كثيرا القوات الرومانية على دك كل معاقل القوات القرطاجنية. بيد أن الرومان سينقلبون ضده ويوزعون تركته بين أولاده الثلاث. وفي هذا الصدد يقول عبد الله العروي:" ثم يحتد الصراع بين روما وقرطاج أثناء الحربين البونيقيتين الأولى والثانية ويجتاز شيبو(سيپيون) إلى أفريقيا مبحرا من الجزيرة الأيبيرية قصد إيجاد حلفاء بربر ضد أعدائه. فينتهزها المؤرخون فرصة ثالثة ويقدمون لنا الجماعات المقيمة غرب التراب القرطاجي والتي كانت تسمى كلها آنذاك بالنواميد وتنقسم إلى قسمين: المسيلة شرقا والمزسيلة غربا. تتلخص أخبار تلك الحقبة في سيرتي رجلين، يمثل كل واحد منهما أحدى الجماعتين البربريتين: ماسينيسا الزعيم المسيلي وصيفاقس الزعيم المزسيلي. يسوق المؤرخون القدامى أخبارا طويلة حول ماسينيسا، جاعلين منه بطل مغامرات شيقة، ليست في الواقع سوى انعكاسات لسياسة روما في المغرب، بل يرويها پوليپ، المؤرخ اليوناني، ضمن تاريخ عائلة شيبو( سيپيون) التي يعترف بالولاء لها الزعيم الناميدي والمؤرخ اليوناني معا. قد يتنازع المؤرخون إلى ما لانهاية حول السؤال التالي: هل استغلت روما ماسينيسا للقضاء على قرطاج أم بالعكس استخدم ماسينيسا روما لبناء دولة ناميدية قوية بقصد توحيد شمال أفريقيا بعد استيعاب الحضارة البونيقية؟ لكن الأمر المحقق هو أن كل المبادرات كانت بيد مشيخة روما، بعد انتهاء الحرب البونيقية الثالثة سنة 202 قبل الميلاد. كان الرومان يستطيعون في أي وقت توقيف أي حركة يشمون فيها خطرا على مصلحتهم." وعليه، فقد أوشك صيفاقس أن يؤسس دولة أمازيغية كبرى تمتد شرقا وغربا، وتستطيع أن تقف في وجه القوات الرومانية المتوحشة لولا ماسينيسا الذي خيب طموحات صيفاقس السياسية والعسكرية حيث أدخله في حروب استنزافية أدت بصيفاقس إلى مقتله في العاصمة الرومانية غدرا وخيانة.
عدل سابقا من قبل في الأحد 30 سبتمبر 2007 - 21:29 عدل 1 مرات
موضوع: رد: الملوك الأبطال الأحد 30 سبتمبر 2007 - 20:46
4- نتائج ثورة صيفاقــــس:
من أهم النتائج التي ترتبت عن مقاومة صيفاقس الرغبة الأكيدة والطموحة في توحيد الأمازيغيين وتنظيم مملكة مازيسولة وتوسيع نوميديا ، ولكن هذا الطموح لم يتحقق ميدانيا بسبب تحالف ماسينيسا ملك ماسولة مع قائد القوات الرومانية سيپيون للتنكيل بالقرطاجنيين والقضاء نهائيا على أحفاد الفينيقيين في قرطاجنة. ولكن الرومان تعاملوا مع قضية شمال أفريقيا بكل ذكاء واستطاعت أن ۥتدخل الإخوة الأمازيغيين في حرب قرطاجنة الضروس، لاناقة لهم فيها ولاجمل. وتمكن الرومان بعد ذلك من التخلص من صيفاقس أولا، والملك ماسينيسا ثانيا عندما أحسوا بنواياه التوسعية على حساب أراضي القرطاجنيين الذين كانوا حسب ما يقوله ماسينيسا:" أجانب في بلادنا، فقد استولوا غصبا على أملاك أجدادنا، ولذلك يجب أن نسترد منهم بجميع الوسائل ما انتزعوه منا بالقوة". وإذا كان ماسينيسا قد استنزف قوة صيفاقس وأضعفها ميدانيا وعسكريا وتوسع في مملكته وعاصمته لحساب الروم، فإن الرومان استطاعوا أن يحتالوا عليه وأن يوقفوا توسعه أيضا في شمال إفريقيا، لذا لم يكن تدخل القوات الرومانية في قرطاجنة مابين 149ق.م و146ق.م إلا لضرب مملكة ماسينيسا ومنع هذا المقاوم من" السيطرة على المدينة ( قرطاجنة)، ومن ثم إجهاض تطور كان يتجه نحو بروز دولة أمازيغية نوميدية لها وزنها في غرب المتوسط. يؤكد ذلك أن روما أدركت خطورة نمو هذه الدولة، فأصبح التدخل في شؤونها ومراقبتها أحد مشاغل الساسة الرومان. ففي سنة 148ق.م توفي ماسينيسا تاركا مملكة شاسعة الأطراف ومنظمة لأبنائه الثلاثة، فتقاسموا السلط فيما بينهم، إذ تولى أكبرهم مسيبسا السلطة الإدارية، وتكلف مستنبعل بالشؤون القضائية، بينما اهتم غولوسن بالشؤون العسكرية. والجدير بالملاحظة أن عملية توزيع السلط تمت بحضور سيپيون الإيميلي، قائد الجيوش الرومانية لمحاصرة قرطاج، مما يدل على إرادة روما في فرض وصايتها على الأمراء، ويظهر ذلك بجلاء في استعانتها بإمكانيات الدولة النوميدية العسكرية، بإسهام جيشها بقيادة الأمير غولوسن في تحطيم قرطاج". ويتبين لنا من كل هذا أن الحكومة الرومانية لم تقض على القوات الفينيقية والقرطاجنية في شمال أفريقيا إلا بالقوات الأمازيغية القوية الشرسة، إذ كانت تضعها في مقدمة المواجهة وفي الصفوف الأولى من الفيالق العسكرية لكي يصفو الجو للقوات الرومانية لتتدخل في الوقت المناسب وخاصة حينما يضعف الفريقان المتناحران في ساحة المعركة. وهذه السياسة البشعة الرومانية ماتزال تطبق من قبل ساسة الغرب إلى يومنا هذا في العالم العربي والإسلامي بكل دهاء وذكاء . وهذا ما وقع بالفعل عسكريا، فحينما أحست القيادة الرومانية بضعف القوتين القرطاجنية والأمازيغية ، تدخلت في الوقت الملائم للقضاء على مملكة قرطاجنة والقضاء على كل الممالك الأمازيغية المناهضة للحكم الروماني. ومن هنا، نسجل بكل صراحة وموضوعية تاريخية أن الحسد والصراع حول السلطة والتناحر حول الامتيازات المادية والمعنوية والتهافت وراء بريق ولمعان المصالح الشخصية من الأسباب التي أودت بمملكة تامازغا، وجعلتها طوال تاريخها فريسة سهلة للتكالب الأجنبي: القرطاجني والروماني والوندالي والبيزنطي، وأرضا قابلة للنهب والاغتصاب من قبل الدول الإمبريالية الحديثة: الإيطالية والفرنسية والإسبانية. وفي الأخير، يمكن أن ۥنحمل الملك الأمازيغي ماسينيسا المسؤولية الأولى في إدخال القوات الأجنبية الرومانية إلى شمال أفريقيا بعد أن مهد لها الطريق وعبد لها السبل للقضاء على أكبر قوة منافسة للرومان ألا وهي دولة قرطاجنة، والدليل على ذلك ما أظهره الجنرال القرطاجني المناضل الوطني حنبعل من شجاعة وقوة في محاصرة الرومان في عقر دارهم. ولكن ماسينيسا الذي كان يبحث عن مصالحه الشخصية لم يفهم سياسة الرومان أو يقدرها جيدا، ولم يكن ذكيا فعلا كما كنا نعتقد ذلك في بعض حلقاتنا التي خصصناها للملك ماسينيسا؛ لأنه كان السبب المباشر لتعجيل تدخل القوات الرومانية في تونس القرطاجنية لتخريبها وبناء قاعدة عسكرية فيها، وتقسيم مملكة ماسينيسا الموحدة بين الأولاد الثلاثة. ومن هنا، فصيفاقس مات شهيدا وفيا للمقاومة الأمازيغية وحارب مع القرطاجنيين ضد الشرف الأفريقي، على عكس ماسينيسا الذي ضحى بالقوة الأمازيغية من أجل إرضاء حلفائه الرومان الذين خدعوه سياسيا وعسكريا ووضعوا حدا لمقاومته الصاعدة على حساب جيرانه القرطاجنيين الذين لم يكونوا أعداء بالدرجة التي كان عليها الرومان المتوحشون. ومن هنا، فتاريخ الأمازيغيين كان في الحقيقة تاريخ الخيانات والتحالفات البراگماتية الواهمة والواهية، والتي كانت كلها لصالح الحكومة الرومانية. ولم يستفد الأمازيغيون من تاريخهم إلى يومنا هذا، فالتاريخ دائما يعيد نفسه ويكرر أحداثه في صور مختلفة، ولكن ليس هناك من يستفيد أو يعتبر أو يتعظ. ومازال الغرب يتعامل مع الدول العربية الإسلامية بنفس الطريقة التي كانت تتعامل بها الحكومة الرومانية مع الممالك الأمازيغية في القرون الميلادية الأولى. ونستحضر في هذا المجال قولة دالة وصائبة وموحية للأستاذ محمد شفيق:" فبينما كانت كل مملكة من هذه الممالك الثلاث( مملكة ماسينيسا ومملكة صيفاقس ومملكة باگا) تحاول جمع الشمل في المنطقة الخاضعة لنفوذها، كانت الحروب تتوالى بين روما وقرطاجة، فنتج من ذلك أن كلا الطرفين المتحاربين صار يغري الأمازيغيين بالتحالف معه، ويستغل التنافس الذي يطبع علاقات الملوك بعضهم ببعض. وفي أثناء الحرب البونية الثانية استطاعت روما، بفضل معرفتها لمعطيات المجال السياسي الأفريقي، أن تكسب صداقة أشد الملوك حنقا على قرطاجة، وهو ماسينيسا، وأن تتحالف معه. فكانت تلك المحالفة هي الثلمة الأولى التي تسربت منها الهيمنة السياسية الرومانية، شيئا فشيئا إلى مراكز الحكم في أقطار المغرب كلها؛ ذلك أن روما اتخذت جميع أساليب الترغيب والترهيب منهجية لها لإغراء الملوك الأمازيغيين بعضهم ببعض، في مرحلة أولى، ثم أزالت القناع عن وجهها في مرحلة ثانية وحاربت كل من امتنع أن يكون عميلا لها، واستمرت على تلك الخطة ما يقرب من قرنين، موسعة نطاق سيطرتها في اتجاه الغرب إلى أن قضت على الممالك كلها؛ ولم تبق بصورة شكلية، إلا على عرش موريتانيا. فأجلست عليه الأمير الأمازيغي الشاب يوبا بن يوبا الذي كانت قد أسرته، وهو صبي، بعد التخلص من أبيه. فظل يوبا لها عميلا إلى أن توفي. فسار ابنه بطليموس على نهجه، إلى أن استدرجه ابن خالته، الإمبراطور الروماني كاليگولا إلى حضور احتفالات رسمية بمدينة ليون الغالية، حيث أمر باغتياله سنة 40م. وبموته انقرضت الممالك الأمازيغية القديمة." وعلى أي، فبعد وفاة الملك المناضل صيفاقس، تولى ابنه فيرمينا وراثة الحكم وتابع مسيرة أبيه السياسية والعسكرية والإدارية والاقتصادية في تسيير مملكة أبيه وإدارتها،وعاش بعد أبيه بضع سنوات، والدليل على حكم فيرمينا بعد أبيه هو عثور علماء الحفريات والمؤرخين على عملة فضية تحمل اسمه. ومن أهم نتائج ثورة صيفاقس اندلاع ثورات أمازيغية مضادة للرومان اتخذت صبغة عسكرية كمقاومة يوغرطة ومقاومة تاكفاريناس ومقاومة أيديمون، وصبغة دينية كمقاومة دوناتوس، وصبغة اجتماعية كمقاومة الدوارين الفقراء.
خاتمة:
ونستشف - مما سبق ذكره - أن صيفاقس كان ملكا أمازيغيا وفيا ومناضلا مات شهيد القضية الأمازيغية؛ لأنه دافع عن مملكة تامازغا ، وساعد جيرانه القرطاجنيين على المواجهة والتحدي والصمود في وجه القوات الرومانية الغازية التي كانت لا تستهدف إخضاع قرطاجنة فحسب ، بل كانت ترمي إلى السيطرة الكلية على أفريقيا الشمالية لتحقيق مصالحها التوسعية واسترقاق الأمازيغيين ونهب ممتلكاتهم وخيراتهم واغتصاب أراضيهم، وتجويع ساكنة تامازغا وطردها إلى الصحراء نحو الفيافي والمفاوز والكهوف الجبلية خارج خط الليمس الأخضر أو السد الأمني. ويعني هذا أن صيفاقس لم يمت خائنا مغفلا ، بل مات موتة النبلاء الشرفاء الذين دافعوا عن الهوية الأمازيغية. وقد رفض صيفاقس كل أنواع المساومة مع الرومان التي تكون على حساب وحدة تامازغا،كما رفض بشكل قاطع سياسة الرومنة والاستيطان الروماني والتمدين اللاتيني في كل شبر من أشبار نوميديا. وكان أيضا من الوطنيين الغيورين على وطنهم الذين ضحوا من أجل الأرض وتوحيد نوميديا وجمع شمل الأمازيغيين في مملكة أمازيغية موحدة. ولكن الاحتيال الروماني وتعدد أقنعة حكومة روما هي التي أسقطت مملكة صيفاقس وأمجادها الطموحة في التوسع والوحدة الأمازيغية الشاملة. إذا، هذا هو تاريخ صيفاقس الذي لا يمكن فهمه جيدا إلا إذا وضعناه في صورة مقابلة مع صورة منافسه الأمازيغي في الحكم الملك ماسينيسا، ويترجم لنا هذا التاريخ بكل بساطة و موضوعية صراع الوفاء والخيانة، وجدلية التضحية والغدر.
موضوع: رد: الملوك الأبطال الأحد 30 سبتمبر 2007 - 21:32
5- يوغرطة
يعد يوغرطة من أهم أبطال المقاومة الأمازيغية الذين وقفوا في وجه الحكومة الرومانية الجشعةالتي أرادت إذلال نوميديا وتقسيمها، بعد أن وحدها الملك ماسينيسا ووسع نفوذها شرقا وغربا وجنوبا. وقد استطاعالملك يوغرطة بحنكته العسكرية أن ينظم جيشا أمازيغيا مدربا، وأن يقوم بإصلاحات اقتصادية واجتماعية قصد التصدي للمحتل الروماني الذي أعد سدا أمنيا عتيدا لحماية المركزية الرومانية في إفريقيا الشمالية ضد الثورات التحررية الأمازيغية المقاتلة. ولكن مقاومة يوغرطةستؤثر بشكل سلبي على سياسة روما بعد أن ذاقت القوات الرومانية الغازية مرارة الهزائم المتكررة على أبواب نوميديا، لكن مقاومة يوغرطة لن تدوم طويلا لكي يقتل هذا الملك الأمازيغي الشهم خيانة وغدرا على يد الرومان سنة 106قبل الميلاد. وسنحاول في هذه الدراسة التعريف بيوغرطة وبأهم منجزاته الإصلاحية داخل مملكته مع ذكر أهم المراحل التي عرفتها مقاومته ونتائجها المباشرة وغير المباشرة.
1-من هو يوغرطة أو يوغرثن؟
تعني كلمة يوغرطة أو يوگرتن أو يوجيرتن Jugurthaفي المعجم الأمازيغي أكبر القوم سنا، وقد تعني أيضا الملك أو كبير الأسرة أو القوم أو العشيرة أو القبيلة أو الجد الأكبر أو الرجل الكبير المحترم. هذا، وقد ولد يوغرطة المازيلي بنوميديا سنة 118 قبل الميلاد، وهو سليل أسرة ماسينيسا الحاكمة، ومن ملوك قبائل نوميديا، تولى الحكم بعد وفاة ميسبسا(148-118قبل الميلاد) الذي وسّع التجارة الداخلية والخارجية بين مملكة نوميديا ودول حوض البحر الأبيض المتوسط. وقد اشتهر يوغرطة بين أقرانه بالشجاعة والهيبة والوقار والذكاء وحب العمل وممارسة الصيد والفروسية حتى امتلك موهبة في مجال الحرب والتنظيم العسكري. وكان معروفا بتفوقه في مجال السباق داخل حلبات الفروسية والمبارزة العسكرية، وأصبح بعد ذلك قائدا عسكريا محنكا وكون جيشا أمازيغيا ليدافع عن سيادة نوميديا مذكرا جيشه دائما بالهوية الأمازيغية وبضرورة الدفاع عن راية الوطن والوقوف بكل شراسة في وجه الرومان المتوحشين الذين لايريدون من الأمازيغيين سوى استغلالهم واستلابهم ونهب ثرواتهم وممتلكاتهم وإخضاعهم رقا وذلا. ويعترف المؤرخ الروماني سالوست Salluste في كتابه" حرب يوغرطة" بعظمة هذا الملك الشاب الذي أظهر مقاومة بطولية في مقاتلة الرومان. يقول سالوست:" أثار يوغرطة انتباه الناس منذ أول شبابه، بفعل نشاطه وهيبته ووقاره وذكائه. ولم يكن من الذين ينخدعون بمظهر التبرج ويستلمون للراحة، ولكنه كان (...) يمارس الفروسية ويتدرب على الرمي بالرمح وينافس أقرانه للإحراز على جائزة أسرع سباق...وكان يصرف جزءا كبيرا من وقته في الصيد...ولم يكن أحد يشتغل، أكثر منه، ولم يكن أحد يتحدث عن أعماله أقل منه. ... وأمر بأن تستعرض أمامه الكوكبات والرايات (الأمازيغية) واحدة بعد واحدة. فصار يرغبها في تذكير ماضيها المجيد وفي انتصارها....على الأعداء، وفي الدفاع عن حوزة الوطن والملك، ويحذرها من شر الرومان وجشعهم... لقد عمل كل ما يمكن أن يعمله قائد جيش ليهيئ لنفسه أحسن الظروف في ميدان القتال... وعندما يعرف جنديا سبق له أن جازاه على إقدامه وشجاعته، فإنه يقدمه كمثال للآخرين. وكان يعد ويوعد ويرغب ويرهب، ويستعمل كل الوسائل لحث جيوشه على الإقدام...." ومن جهة أخرى، قام يوغرطة بإصلاحات اقتصادية واجتماعية وإدارية وعسكرية من أجل بناء مملكة أمازيغية قوية على غرار السياسةالإصلاحية التي قام بها عمه ماسينيسا. وفعلا، استطاعت قوات يوغرطة أن تقف في وجه ثلاثة قواد رومانيين كبار أرسلتهم المشيخة الرومانية للقضاء على ثورة يوغرطة النوميدية، وهم: ميتيلوس وماريوس وسيلاّ. وخير من تحدث ومازال يتحدث عن تاريخ يوغرطة وحروبه القاسية ضد الرومان المؤرخ الروماني سالوست في كتابه" حروب يوغرطة"، إلا أن مدونات سالوست التاريخية كانت تعبر" عن تناقضات الجمهورية الرومانية بقدر ماتروي قصة ثورة يوغرطة. فقد يكون هذا الأخير قد خطط فعلا لتوحيد البربر وطرد الرومان، لكن يستحيل أن نجد لهذا الهدف صدى عند المؤرخ الروماني الذي يذكر أعمال يوغرطة لغرض واحد هو إصدار أحكام قاسية على زعماء روما وهي في دور الانحطاط. لا نقول: إن سكوت سالوست- يقول عبد الله العروي- يدل على عدم وجود أي مشروع توحيدي وتحريري في ذهن يوغرطة، بل نقول إن الوثيقة المكتوبة، هي وثيقة رومانية، لا يمكن أن تسوق الأخبار من وجهة نظر مغربية. وهذا أمر بديهي". " ويبين لنا هذا التوجه النقدي للوثيقة التاريخية للمؤرخ سالوست أن المؤرخين الرومان كانوا غير موضوعيين في أحكامهم القاسية التي يصدرونها في حق أبناء تامازغا، وكانوا يعتبرون الأبطال الأمازيغيين إرهابيين ومنشقين عن الحكم الروماني، وبمثابة زعماء العصابات ورؤساء جماعات اللصوص الذين يثيرون الهلع والذعر والخوف والفزع في نفوس المواطنين الذين يسكنون في القرى والمدن النوميدية وخاصة الجالية الرومانية التي كانت تسيطر على مراكز القرار ودواليب الاقتصاد و التجارة والخدمات.
2-تطور المقاومة الأمازيغية بقيادة يوغرطة:
بادرت الحكومة الرومانية منذ نزول قواتها على أراضي تمازغا وبعد وفاةالملك ماسينيسا إلى تقسيم شمال إفريقية إداريا إلى ثلاث مناطق رئيسية، وهي: أفريكا اللاتينية ويقصد بها تونس وكانت خاضعة كليا لقبضة الرومان، ونوميديا وتمتد من التراب التونسي إلى العاصمة الأمازيغية سيرتا (قسنطينة)، وتنقسمهذه المملكة الجزائرية إلى قسمين: القسم الأول كان تحت نفوذ مسبسا ابن ماسينيسا(146-118 ق.م)، والقسم الآخر كان تحت تصرف يوغرطة. أما موريطانيا Maurétanieفقد وضعوها تحت تصرف القائد البربري بوكوس Boccus. ولقد اختار الرومان لمراقبة هذه الممالك الأمازيغية عاصمة في تونس تكون بديلا لقرطاجنة سموها ب "جنونيا". ومن جهة أخرى، شرع الرومان في بناء سد أمني يسمى خط الليمس Limes وهو عبارة عن حصون وقلاع وخنادق ومراكز المراقبة للسيطرة على إفريقيا الشمالية والتحكم في مواردها الاقتصادية، وهذا الخط يمتد طولا بين الساحل المتوسطي وحدود التراب الصحراوي جنوبا. أما عرضا فيمتد الخط من طرابلس مرورا بالبحيرات التونسية وجبال الأوراس، فيمر ببسكرة جنوبا، ثم يجتاز قرية بوسعادة حتى نهر وادي شلف. وبعد ذلك يقطع تاخمارت والزفيزف وتلمسان ومغنية. ويعبر هذا الخط الفاصل الحدودي المغرب مرورا بتازة ومنعرجا بمدينتي وليلي وطنجة حتى يصل إلى جنوب الرباط. بيد أن الأمازيغ لم يرضوا بالحكم الروماني في إفريقيا الشمالية ولم يقبلوا بتدخلاته في نوميديا وموريطانيا، ولم يرضوا كذلك بخط الليمس الذي اعتبروه خطا استعماريا عنصريا يراد منه طرد الأمازيغيين من أراضيهم الخصبة وتحويلهم إلى شعب ذليل وفقير من الدرجة الدنيا. هذا ما دفع يوغرطة ليجمع الأمازيغ ويوحدهم في مملكة واحدة بعد أن اغتال أبناء عمه ماسينيسا "أذربعل" و"هيمسعال" ليسيطر على حكمهما، وۥيخضع مملكة نوميديا ليسيرها بنفسه. وبالتالي، اتخذ يوغرطة سيرتا (قسنطينة) المدينة الجبلية الواقعة في جبال الأوراس عاصمته منذ سنة 104 ق.م، واستطاع أن ينظم الجيش ويقسمه إلىمشاة وفرسان، وأن يدربه على أحدث الطرق العسكرية لمجابهة الاحتلال الروماني. وقد كان الجيش الأمازيغي كله تحت تصرف القائد يوغرطة الذي ضرب به الجيش الروماني مرات عدية، فانتصر عليه في عدة معارك وخاصة معركة سوتول قرب گالمة بالجزائر. وكانت الحروب التي خاضها يوغرطة ضد الرومان تسمى عند المؤرخ اللاتيني سالوست ب"حروب يوغرطة" التي وقعتبين 111 و105 ق.م. هذا، وقد حقق يوغرطة انتصارا حاسما على ألبيونس سنة 110ق، وكان لهذه الهزيمة " وقع شديد في روما حيث ساد السخط والتذمر أوساط الشعب بقيادة زعمائه وخطبائه الشعبيين، الذين طالبوا بخوض حرب لاهوادة فيها ضد الملك النوميدي لرد الاعتبار والثأر للكرامة الرومانية. مما يبدو معه مدى انعكاس تناقضات المجتمع الروماني على سير الأحداث في شمال إفريقيا، فحرب نوميديا كانت ميدانا للحسم في الصراعات الاجتماعية السياسية بين الطبقات الرومانية. في خضم ذلك الوضع المشحون صعد ميتيلوس إلى مركز الزعامة الرومانية فقاد حملته على نوميديا سنة 109 ق.م. وألحق الهزيمة بيوغرطة، ثم سيطر على عاصمته سيرتا ليزحف على شرق ووسط نوميديا. فاضطر يوغرطة إلى بذل جهود لإيجاد دعم لمواجهة الموقف، فاستطاع تجنيد قبائل جدالة القاطنة في الهوامش الصحراوية، كما أقنع بوكوس الأول ملك موريطانيا بضرورة التصدي المشترك للزحف الروماني". وهكذا بدأت القوات الأمازيغية تتحرك بقيادة يوغرطةنحو سيرتا لمواجهة ميتيلوس الذي اتخذها قاعدة عسكرية، لكن الحكومة الرومانية ستعين قائدا عسكريا شعبيا محترفا في مجال التكتيك الحربي يسمى ماريوس الذي" ضم جموعا هائلة من الفقراء والرعاع إلى القوات المحاربة في نوميديا، وبدأ بنشر الذعر بين سكان القرى والمدن النوميدية لرفع معنويات جنوده. علاوة على ذلك نجح الرومان في جر الملك الموريطاني بوكوس الأول إلى التآمر على حليفه يوغرطة، إذ غدر به وألقي عليه القبض سنة 104 ق.م وسلمه لأعدائه الرومان ليعدم سنة 106 ق.م، وبذلك انتهت حرب نوميديا التحررية ضد روما.". بيد أن مقاومة يوغرطة لم تدم كثيرا في مقاتلة الرومان بالمقارنة مع مقاومة تاكفاريناس، إذ سرعان ما قضى الرومان على حكومته وجيشه بسبب الغدر والمكيدة، وذلك عندما فر إلى صهره بوكوس ملك موريطانيا طلبا لمناصرته وإيوائه، " ولكن الخائن بوكوس يخاف على عرشه، ويتسرب الجشع إلى نفسه الدنيئة، فيسلمه لسيلا (Sylla) خليفة ماريوس القائد الروماني المشهور. ولايلبث الرومانيون أن يقدموا للملك بوكوس جائزة ذات قيمة واعتبار على خيانته، وذلك بضم الجهة الغربية من منطقة نوميديا (الجزائر الحالية) إلى موريطانيا الطنجية جزاء له على خيانته! ولما توفي بوكوس الذي سعى في توسيع مملكته بالصورة التي رأيت، حاول الإمبراطور الروماني أوگست (Auguste) أن يجعل من موريطانيا الغربية بلادا مستقلة، وأجلس على عرشها ملكا من أشهر ملوك البربر، نظرا لما أنجزه من إصلاحات وما قام به من أعمال جليلة في سبيل مصلحة بلاده، وهو يوبا الثانيJuba 2". وهكذا، نجد بوكوس الأول ملك موريطانيا ويوبا الثاني ملك موريطانيا الطنجية يتحالفان ضد يوغرطة ويسلمانه أسيرا للروم سنة104 ق.مفي طبق من ذهب ليموت يوغرطة في سجنه سنة 106 ق.م.
3- نتائج ثورة يوغرطة:
بعد وفاة يوغرطة تقسم مملكة نوميدياإلى قسمين: القسم الغربي من نصيب بوكوس الأول ملك موريطانيا وحليف روما، بينما القسم الشرقي يتولاه الملك گودا. وعند وفاة بوكوس ملك موريطانيا ستنقسم مملكته بدورها إلى قسمين: مملكة غربية يملكها بوگود، ومملكة شرقية يملكها بوكوس الثاني أو بوكوس الشاب. " وفي عهد الإمبراطور الروماني أوكتافيوس (Octavianus) (63ق.م-14 ق.م) تمكن بوكوس من الاستيلاء على ممتلكات بوگود، وامتدت موريطانيا- في ذلك التاريخ- من المحيط الأطلسي حتى نهر المساقة". ومما يؤسف لهحقا أنالرومان والبيزنطيين والوندال كانوادائما يضربون الأمازيغيين بإخوانهم الأمازيغيين، ويشعلوننار الفتنةبينهم، ويستعملون كل وسائل الغواية والإغراءلكسب تحالفهم ؛ وقد شجع هذا الأمر الفظيع على انتشار الحسد والحقد والخيانة بين صفوف الأمازيغيين للتحايل على إخوانهم غدرا ومكرا؛ وهذا كان ييسر بطبيعة الحال المهمات والسبل أمام الأعداء الألدة للانقضاض عليهم بكل سهولة وسرعة. وعلى الرغم من القضاء على ثورة يوغرطة من قبل الرومان وحلفائهم الخونة، إلا أن هذه الثورة ستبقى مشعلا للمقاومة الأمازيغية ودربا للكفاح والنضال من أجل نيل الحرية والاستقلال والتخلص من المستعمر الروماني وستشعل ثورة يوغرطة الباسلة فعلا ثورات عسكرية أخرى كثورة تاكفاريناس، وثورات اجتماعية ذات طابع اقتصادي كثورة "الدوارين"، وثورات دينية كثورة "إدمون" التي كانت تطالب بطرد الرومان ورجال الدين الكاثوليك والنبلاء الأجانب المستغلين من أرض نوميديا ومن كل أراضي تامازغا. خاتمة: وعليه، فبعد تصفية يوغرطة حساباته السياسية مع أبناء عمه ماسينيسا، وحّد القبائل الأمازيغية، ونظم جيشا عتيدا، وقام بإصلاحات اقتصادية واجتماعية وعسكرية. وكل هذامن أجل توسيع نفوذ مملكتهقصد الاستعداد لمجابهة القوات الرومانية وأسوار خط الليمس المنيعة. ولكنه في الأخير سيقع أسيرا في أيدي الرومان بسبب خيانة بوكوس الأول ويوبا الثاني. وبعد مقتل يوغرطة خيانة وغدرا ستضع الحكومة الرومانية نهاية لكل التطلعات الأمازيغية في تأسيس دولة تامازغا. ويلاحظ المتتبعون للمقاومة الأمازيغية أن حركات القرن الأول التحررية ابتداء من ماسينيسا ويوغرطة وتاكفاريناس كانت مقاومة ضد الغزو الروماني واغتصاب الأرض، ولكن مع بداية القرن الثاني الميلادي ستتخذ الثورات الأمازيغية طابعا اجتماعيا بعد تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في الوسط الأمازيغي بسبب بطش الحكم الروماني واستيلائه المطلق على كل ثروات الأمازيغيين وطردهم خارج خط الليمس أو ما يسمى بالسد الأمني.
ونختم مقالنا المتواضع بقولة ليوغرطة يندد فيها بالإمبراطورية الرومانية ويشنع بسياستها التوسعية وبأطماعها الجشعة مستشرفا نهايتها الأكيدة:"روما، أيتها المدينة المعروضة للبيع! أنت هالكة لو تجدين مشتريا !"
المصادر: محمد بوكبوط: الممالك الأمازيغية في مواجهة التحديات إبراهيم فدادي: (مقاومة تاكفاريناس الأمازيغي من خلال كتاب تاكيتوس الروماني)
د. جميل حمداوي (الشخصيات الثقافية الأمازيغية القديمة) شارل أندري جوليان: تاريخ أفريقيا الشمالية، الجزء 1
محمد محيي الدين المشرفي: إفريقيا الشمالية في العصر القديم عبد الرحمن الجيلالي: تاريخ الجزائر العام
أحمد صفر: مدنية المغرب العربي في التاريخ، الجزء الأول محمد شفيق: لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغيين
سوناكوم
عمـــيد
الـبلد : المهنة : طالبالمزاج : لا اله الا الله محمد رسول اللهالتسجيل : 29/08/2007عدد المساهمات : 1561معدل النشاط : 109التقييم : 13الدبـــابة : الطـــائرة : المروحية :
موضوع: رد: الملوك الأبطال الإثنين 1 أكتوبر 2007 - 15:09
السلام عليكم مشكور اخي الحبيب نادام على الموضوع الجميل وفعلا ملوك ابطال... نتمنى امثالهم في وقتنا هذا ..... شكرا
TAKICHI
مـــلازم
الـبلد : العمر : 48المهنة : مدير تجاري في شركة خاصةالمزاج : حمل وديعالتسجيل : 20/08/2007عدد المساهمات : 680معدل النشاط : 51التقييم : 2الدبـــابة : الطـــائرة : المروحية :
موضوع: رد: الملوك الأبطال الخميس 4 أكتوبر 2007 - 15:43
السلام عليكم
مشكور اخي الكريم نادام على هدا الموضوع المميز عن احدى الصفحات الخالدة في حياة شعوب منطقة المغرب العربي و هدا يبين ان هده الاخيرة تواقة الى العيش في كنف السلم و الامن و تقف كرجل و احد ضد الاستعمار مهما كانت جنسيته
تحياتي
جهاد2200
عريـــف أول
الـبلد : المهنة : كوماندو جديد بالجيش العربيالمزاج : حسب الغزالةالتسجيل : 21/04/2008عدد المساهمات : 186معدل النشاط : 29التقييم : 0الدبـــابة : الطـــائرة : المروحية :
موضوع: رد: الملوك الأبطال الأربعاء 22 يوليو 2009 - 17:04
موضوع رائع ومفيد وملئ يالتشويق
امير المصري
لـــواء
الـبلد : المهنة : no work for dead peopleالمزاج : قرفان لحد مالمنتدي ينظفالتسجيل : 05/08/2008عدد المساهمات : 4398معدل النشاط : 3621التقييم : 74الدبـــابة : الطـــائرة : المروحية :
موضوع: رد: الملوك الأبطال الأربعاء 22 يوليو 2009 - 19:29