الإنقلابات الإستراتيجية الأميركية
لعل أهم الإنقلابات الاستراتيجية لإدارة بوش هو خروجها التام على مبدأ الإحتواء و إستبداله بمبدأ إستخدام القوة العسكرية بالصورة المباشرة. وهو ما بينته الحرب العراقية المتناقضة تماماً مع السلوك الإستراتيجي العسكري لكل الإدارات السابقة. فقد تخلت هذه الحرب عن معظم الثوابت الاستراتيجية الأميركية في الحروب. ومن هذه الثوابت المتخطاة نذكر التالية:
- إعلان الحرب بدون الحصول على موافقة مجلس الأمن الدولي.
- إعلان الحرب بالرغم من معارضة الحلف الأطلسي.
- التخلي عن مبدأ إشراك الأصدقاء وتوريطهم في الحرب.
- عدم خوض حربين متزامنتين ( الحرب الأفغانية غير منتهية إضافة الى الأزمة الكورية المهددة والمحرجة).
- إغتصاب موافقة الكونغرس بصورة مساومة على الأمن القومي.
- إستخدام أسلحة محرمة دولياً وأخرى جديدة ( الحرب القذرة).
- إحراج أصدقاء أميركا وتهديدهم ( السعودية وتركيا وفرنسا وألمانيا...).
- قبول أصدقاء جدد من الدول المارقة السابقة ( باكستان مثالاً).
- الدخول في حرب مفتوحة وغير محددة زمنياً ( تبدو قابلة للتحول الى حرب عصابات جديدة تحيي الكابوس الفيتنامي).
- الإضطرار لتقديم ضحايا بشرية أميركية (بعد إحتلال العراق).
- الصدام الحضاري الذي طالما تجنبته الإدارات السابقة.
هذه النقطة الأخيرة تشكل برأينا نقطة الضعف الأهم في الوضع الأميركي داخل العراق. حيث الجهل الأميركي بجهاز القيم العراقي مثاراً لتصعيد المقاومة العراقية. وهنا نذكر حكاية كانت مسؤولة الأمم المتحدة لبرامج التنمية ترويها لكل موظفيها الجدد. وتقول الحكاية: "كان هناك قرد شجاع وذو حمية. ورأى سمكة تسبح بعكس التيار فأثارت شفقته ودبت فيه الحمية. فما كان منه إلا أن تعلق بغصن شجرة و إحتال كي يطال الماء ويخرج السمكة من الماء وهو يظن أنه ينقذها!.
وحول العبر ممكنة الإستنتاج من هذه الحكاية تقول المسؤولة: " إن الحماس والنية الحسنة والرغبة الصادقة كلها لا تكفي إذا نحن لم نأخذ في الحسبان البيئة الملائمة والمناسبة للتنمية. وهذا يعني أنه ليس بمقدورنا تعميم الحلول. فهذه قد تنجح في مجتمع وتفشل في آخر. فالحل الذب بلائم القرد لا يلائم السمكة. وما يعتبره القرد بطولة هو في الواقع جريمة بحق السمكة".
المؤسف أن نفوذ هذه المسؤولة وأمثالها محدود بحيث يعجز عن وقاية الدول النامية والفقيرة والمتعرضة للإفقار من تصرفات القرود. حيث حق المرأة في ممارسة أمومتها وتأمين فرصة الزواج لها ومن ثم في علاج طفلها وتغذيته وتلقيحه تتقدم على المطالبة بحقها في الانتخاب والترشيح مثلاً. وحيث حق الإنسان في العيش على أرضه وفي صون كرامته وحماية عائلته وتأمين حياتها ومستقبلها تتقدم على حقه في إصدار مطبوعة سياسية. وحيث حق الموت وفق المعتقد يتقدم على حق الحياة وفق النمط الأميركي...الخ من الحقوق التي تسوق لها الأمركة مهملة الحاجات الإنسانية الأساسية على طريقة الملكة ماري أنطوانيت التي نصحت الفقراء بأكل البسكويت إذا لم يكن لديهم خبزاً. وحسبنا التأكيد على تطابق نصائح ووعود الأمركة مع نصائح ماري أنطوانيت!. وذلك بشهادة نادي الدول المتضررة من العولمة وفي طليعتها النمور الآسيوية.
حكاية القرد والسمكة واجبة التعميم على الجهات التي تحاكم الشخصية العربية إنطلاقاً من معاييرها الخاصة. وعلى تلك العقول الأسيرة التي تتجاهل الخصوصيات العربية فتنقل النظريات والحلول دون إدراك خلفياتها وغاياتها. ويصل الأسر بهذه العقول لغاية قبول طرح مواضيع إختصاصية ذات أهداف مخابراتية بحتة. وبعضهم يقبل هذه المواضيع مع التسليم بنتائج موضوعة مسبقاً لها. فهذه العقول الأسيرة لا تدرك كنه حكاية القرد والسمكة. حيث تحتاج السمكة الى تحسين مواصفات المياه التي تعيش فيها (كي تصبح أكثر تلاؤماً مع طبيعتها) وليس لإخراجها من الماء!؟.
بناء على ما تقدم يصبح واجب الأكاديميين والمثقفين العرب البحث في مواصفات المياه الملائمة للسمكة. ولا ضير في اختلافهم حول هذه المواصفات. شرط ألا يتحول خلافهم الى المكان الذي نضع فيه السمكة بعد إخراجها من الماء!؟. أقله أن يحترم الجميع رغبة السمكة في العودة الى الماء وأن يدركوا أن هذه الرغبة هي حقها في الحياة. فعودة السمكة الى الماء هي علامة حياة (لأنها تموت خارجه) وليست دليلاً على الجنون والرغبة في الإنتحار. فهل تملك القرود الرقي الكافي لإحترام هذه الرغبة والتعامل معها ؟.
ولو نحن أردنا تلخيص الحرب النفسية الأميركية بصورتها التالية لحوادث 11 أيلول لقلنا أنها تسعى لتوظيف العقول العربية الأسيرة لخدمة مشروعها في إخراج السمكات العربيات من مياهها عن سابق تصميم على حرمان السمكة من حقوقها في هذه الحياة. وما النموذج العراقي إلا إشارة على رغبة القرد الأميركي المختلف عن بقية القرود بوعيه للأذى اللاحق بالسمكة إن هي أخرجت من الماء. فالقرد الأميركي يريد إغتيال السمكة وهو يكاد يعلن موتها مسبقاً.