في سنة 1961 م جري احتفال في
إيطاليا بالذكري الخمسينية الأولي لتأسيس السلاح الجوي . وبهذه المناسبة
صدرت الطبعة الثانية - في جزءين وبأربع لغات - من كتاب كان عنوانه ،،" I
primi Voli di Guerra nel Mondo-Libia MCMXI (التحليقات الحربية الأولي في
العالم - ليبيا 1911 ) .
لقد تضمن تقديم الطبعة الجديدة إهداء وتحية
لجلائل الأعمال التي أنجزها - في السلم والحرب - طيارون رواد شكلوا
بشجاعتهم وجرأتهم التمهيد اللازم لظهور السلاح الجديد , كما جاء تحية
لقدماء النسور الذين خاضوا غمار أول مغامرة حربية يقوم بها السلاح الجوي
الإيطالي إحياء لذكري الموتى والمفقودين الذين قدموا مهجهم فداء لوطنهم .
هذا ومن المعروف أن الأخوين الأمريكيين أورفيل وويلبور رايت (Orville +
Wilbur Wright ) قد دخلا رحاب التاريخ بصفتهما رائدي الملاحة الجوية إذ
قاما يوم 17 ديسمبر 1903 بمجازفة التحليق في الجو على متن طائرة ذات محرك
واحد .
بعد ذلك بنحو ثماني سنوات - وبالتحديد في خريف سنة 1911 م - قدر
لهذا الحدث العظيم أن يفتح صفحة جديدة في سجل تاريخ فنون الحرب كتبها
الإيطاليون ظلما وعدوا بدماء آبائنا وأجدادنا على أديم الوطن المفدى . وكان
ذلك على اثر المناورات الصيفية الآتي أجرتها قطاعات من جيشهم في منطقة
فولتيرا ( Volyerra ) بإقليم طوسكانا ( Toscana ) لغرض اختبار قدراته
القتالية ولا سيما لا ختبار ماكانت تنطوي عليه من مزايا تلك الآلة الجديدة
الرهيبة المتمثلة في الطائرة . فكان الاختبار ناجحاً وحظيت الأخيرة بعانية
ورعاية القيادات السياسة والعسكرية و- كيف لا - بترحيب أرباب المصانع .
وسرعان ما أطلق عليها لقب " السلاح القتالي " الذي كان له قصب السبق المطلق
بالنسبة للأسلحة الجوية الأخري في العالم .
وبتاريخ 28 سبتمبر1911 - أي
عقب المناورات المذكورة بأسبوع تقريبا - تقرر إعداد أسطول جوي تولي
الأشراف على إيفاد ه إلى ليبيا المقدم فيتوريو كورديرو ( Vittorio
Cordero ) .
إلا أن هذا القرار قد قوبل بشيء من التشكك والاستهزاء
أيضاً وإن عملية شحن الطائرات على ظهر إحدي السفن المتوجهة إلي طرابلس قد
واجهت وفرة من العقبات والعراقيل حيث أن القيادة كل وحدة عسكرية أخري
متوجهة إلي ميدان القتال كانت تطالب بأسبقية الركوب . ولولا تدخل النقيب
بييترو باضوليو ( Pietro Badoglio ) - الملحق بقيادة الحملة - شخصيا في
الأمر لتأمر تأخر شحن الطائرات إلي مشاء .
هذا من الناحية أخري شاءت
الأقدار أن تحتدم - في هذه الأثناء - الأزمة السياسية القائمة بين دولتي
إيطاليا وآل عثمان وأن تبلغ ذروتها بإعلان أولاهما الحرب على الأخرى . في
19 سبتمبر 1911 م وبقيامها - بعد ستة أيام - بإنزال طلائع قواتها الغازية
على شاطئ ضاحية قارقارش إلي الغرب من مدينة طرابلس . وجدير بالذكر أن
الايطاليين - قبل توظيفهم الطائرة للاستطلاع والقصف - قد استخدموا المنطاد
في العمليات الاستطلاع فقط لاقتفاء آثار المجاهدين ومراقبة تحركاتهم .
وكان
من شأن استنكاف الشعب الليبي عن الاستسلام والمضي في إصراره بعد صلح لوزان
( 18 أكتوبر 1912 م ) وفي تصميمه على المقاومة أن عمدت حكومة إيطاليا إلي
اتخاذ كل الوسائل المتاحة لقهره وإخضاعه .
ولذا كان لجوؤها إلي استخدام
الطائرات التي كانت إذاك بدائية تعوزها كثير من التجهيزات المتوفرة في
طائرات العصر الحاضر ورغم ذلك فقد ابتكرت منها سلاحا رهيبا سجل بعض الأرقام
القياسية من بينها - علي سبيل المثال - التحليق ليلاً في مهمة حربية .
هذا
ولدي إنزال قوات الحملة كان يأمل الغزاة أن يستقبلهم الأهالي بالأحضان
ولكن سرعان ما خابت آمالهم بعيد الهزائم النكراء التي مني بها جنودهم
في معركة شارع الشط يوم 22 أكتوبر 1911 م وفي غير ها من المعارك .
وإن
نشر الصحافة لأولي قوائم أسماء الجنود الذين سقطوا في القتال قد خلف في
نفوس الإيطاليين سيئاً وفي اليوم المذكور أعلاه أيضا أنجزت أولي التحليقات
في الحربية في الأجواء الليبية وقد قام بها النقيب بياتسا ( Piazza ) الذي
كانت قد نشرت في صحيفة المسّادجيرو ( ILMessaggero) ) قبلئذ صورته مع
أربعة من زملائه من ضابط الجيش الذين انضموا تطوعاً إلي هذا السلاح وذلك مع
نباً وصولهم إلي طرابلس لغرض تكوين نواة أول سرب منه .
أما أول مدرج
لهذه الطائرات فقد أعد بعد الاستيلاء على حقل من البرسيم كان يقع خارج
أسوار مدينة طرابلس بجوار المقبرة الإسرائيلية التي كانت في منطقة مجمع
ذات العماد حاليا على وجه التقريب فكان ذلك أول مطار عسكري في البلاد وفي
العالم أجمع . وبنصف عدد من الخيام الخضراء جنباً إلي جنب قد أنشئت حظائر
لإيواء الطائرات والمناطيد . وتصف الصحيفة المشار إليها أعلاه هذه الحظائر
بأنها كانت تبدو كمرادفات هائلة أقيمت لاستضافة زمرة أنيقة من المصطافين
على الشاطئ البحر القريب منها .
إن الطائرات كانت و لا تزال صغيرة
الحجم وفي بداية مرحلة التعود على التحليق وغير قادرة إلا على حمل عدد
متواضع من القنابل . إلا إن مجرد تحليقها فوق مناطق المجاهدين كان يبدو
نجاحا من الناحية المعنوية أكثر منه من الناحية المادية . فكانت السنوات
الأولي من الحرب إذن فترة تجارب واختبارات لهذا السلاح الجديد وشكلت مرحلة
صقل مفيدة للآلات وللرجال على حد سواء وأفسحت المجال والوقت أمام تطوير
تقنيات أكثر دقة وأشد فتكاً . وعلى ذكر ذلك اسمحوا لي بأن أقص عليكم حكاية
طريفة مروية عن مصدر موثوق .
هذا وبعد أو خمسة أو ست سنين من نشوب هذا
النزاع قد أدخلت طائرات جديدة اكبرُ حجما وأعلي كفاءة في أداء المهام
الحربية بحيث صارت تتخذ العمليات أنماطاً مختلفة . ففيما بين شهري مايو
وأغسطس من عام 1917 م - مثلا- قد أنجزت في إقليم طرابلس فقط زهاء مائة غارة
جوية ألقيت في أثنائها قنابل حارقة على حقول شعير تابعة للمجاهدين وقصفت
بالمدافع الرشاشة واحة كل من جنزور وسواني بن يادم وفندق بن غشير وفندق
الشريف والجديدّة والعجيلات وصرمان ورأس تاجوراء والعزيزية والزاوية
الغربية . وقد سبق أن شهد شهر إبريل مداهمة محلات المجاهدين المتمركزة
بأطراف واحتي جنزور والزاوية إذ جري إلقاء 1270 كيلو غراماً من السائل
الحارق بالإضافة إلي 00 6. 3 كيلو غرام من القبانل شديدة الانفجار وكان من
شأن كل ذلك أن أثار ضجة في الأقطار العربية والإسلامية التي كالت صحافتها
ومنظماتها الأهلية شتي الإتهامات لإيطاليا وجيوشها .
هذا والكتاب الذي
نشرته لجنة توثيق " أعمال إيطاليا في القارة الأفريقية " سنة 1964 م والذي
استغرض فيه مؤلفه فينتشينزو لئوني( Vincenzo LEONE ) نشاط السلاح الجوي في
كل مكان من ليبيا وإيريتريا يجوز تعريفه بأنه " زيف وليد إهمال " . فإذا
القي عليه المرء نظرة فاحصة شاملة قد يتراءي له - للوهلة الأولي - كمحاولة
لإضفاء مسحة - تكاد تخلو من الموضوعية - على انجازات السلاح الجوي الإيطالي
في مرحلتين من مراحل الحرب الاستعمارية .
ومما يبعث على السآمة حقاً
ذلك الدفاع عن القوة العسكرية - بلهجة يغلب عليها طابع التبجح والابتهاج
بالظّفر والنّصر - غير أنه لم يكن في ظاهره عدا تشويهاً لوجه من أوجه "
الأمانة التاريخية "
التي كانت متوقعة من المؤلف ومأمولة فيه . ومن
جملة الأمور التي جري توثيقها بإسهاب دقة عمليات البحث عن مكامن المجاهدين
والعمليات الاستطلاعية في البداية بواسطة المناطيد , وفيما بعد بواسطة
الطائرات . كما جري توثيق عمليات القصف الجوي التي كان يتصاعد عنفها مع
تصاعد حدة الحرب ولا سيما مع تطور السلاح الجوي واشتداد عناد المجاهدين .
وعلى الانقيض مع ذلك لم يسهب لئوني بل تجاوز عن بيان أولئك الذين كان
يُستخدم هذا السلاح - في الحقيقة -ضدهم لأن " الفضة " متمردون " حين لا
توضع في موضعها الصحيح من سياق الكلام ينتهي بها الأمر إلي أن تصبح لفظة
مبهمة جوفاء . على أن مؤلفين آخرين - أمثال روضولوفو غراتسياني ( Rodolfo
Graziani ) ذاته - يعترفون بان " المتمرد الليبي " كان - في مراحل معينة
من تاريخ المقاومة - يتمثل في سكان البلاد قاطبة - فهؤلاء كانوا - في نظره -
بقضهم وقضيضهم , صغارا وكبارا , رجالاً ونساء - كانوا يمدون يد العون إلي
قادر على حمل السلاح وخوض غمار الكفاح . وما كان عونهم منحصراً في
التّستّر على المناضلين فحسب إبان حملات التطهير , وإنما كان يتجاوزه إلي
تقديم الدعم السوقي والمعنوي أيضاً . ففي واقع الأمر كان الكفاح كفاح أمة
بأسرها حتى أنه شل حركة الجيش الإيطالي لبضع سنين .
إلا أن الاعتراف
بهذه الحقيقة الأساسية كان يعز على أمثال الدكتور لئوني إذ كان يبدو لهم
كسلاح ذي حدين حيث إنّه يعني التسليم بأن الطيارين الإيطاليين كثيرا ما
كانوا يلقون قنابلهم على جموع السكان المدنيين الآمنين ولم يقتصروا على
إلقائها على حشود المقاتلين فقط . ومما يكون أكثر خطورة من المغامرة
الاستعمارية الفاشيستية في ليبيا إدارك أن الدكتور لءوني - الذي ائتمن على
استخلاص الحقائق وتقديم صورة صادقة مطابقة - بقدر الإمكان - لواقع العهد
الاستعماري الغابر , قد سمح لقلمه بالانحراف عن جادة النزاهة والصواب . إنه
أخفي متعمدا - على حد قول ايريك ساليرنو مؤلف كتاب " حرب الإبادة في ليبيا
" - عن مواطنيه في عهدهم الجمهوري حقيقة غالبا ما تتسم بالقسوة والصرامة ,
وإنها لعمري حقيقة ربما استحقت في تلك الآونة الحكم القاسي ذاته المحكوم
به عليها في الوقت الحاضر .
وبالرجوع إلي الحديث عن سياسة إيطاليا إزاء
المقاومة الليبية لابد من التشديد على أنها كانت بعيدة كل البعد عن المرونة
حتى أنها وُصفت في مرحلة من المراحل بأنها " سياسة إحتراق الأرض " فبتدمير
الحقول المزروعة كان يرغم المسلحون وغير المسلحين من الليبيين على هجر
القتال وعلى التشرد والتشتت واللجوء إلي مناطق ربما كان - في اعتماد
الغاصبين - من السهل إخضاعهم في نطاقها .
غير أن تردي الموفقين السياسي
والعسكري قد أجير سلطات الاحتلال على إدراك الصعوبات المتفاقمة التي كانت
تحول دون بسط سيطرتها على الأهالي فأخذت تضاعف مجهودها القتالي وبالأخص
الغارات الجوية .
ففيما بين سنتي 1924 و 1926 م - على سبيل المثال -
تلقي السلاح الجوي الأوامر بقصف كل ما كان يشاهد متحركا على وجه الأرض في
الواحات غير الخاضعة للسيطرة الإيطالية .
فبات الأمر ليس مقاتلة قوات
مسلحة نظامية أخري أو حتى مجرد عصابات متمردة , ولكنه كان " حرب إبادة "
بمعني العبارة حيث أن عمليات القصف العشوائي قد نابل أيضا من السكان
المدنيين بغية بعث مشاعر الرعب والوهن في نفوسهم وبالتالي فصلهم عن كتائب
المناضلين . لقد اتسع مجال نشاط السلاح الجوي فشمل كذلك مواقع أخري بفزان
والجبل الأخضر في مطاردة عنيفة لمحلات المجاهدين .
أدوارهم مع تدمير النجوع وإهلاك الزرع والضرع وذلك بإحداث حرائق هائلة كانت تأتي على كل أخضر ويابس .
إن
سياسة الرعب هذه قد دفعت آلافا من الأسر إلي مغادرة أرض الوطن فمنها من
اتجه غربا إلي تونس والجزائر ومنها من نحا نحو الشرق صوبا أرض الكنانة
وتركيا وبلاد الشام ومنهم من اتجه جنوبا نحو تشاد والنيجر .
وأما
الموتى والمصابين بحروق فعددهم يفوق الحصر ،وقد دارت عجلة الزمن وشهدت
الطائرة مزيدا من التطور التقني واكتسب الطيارون بالتمرس حنكة أكبر وأخذ
يشتد عنف القصف وصارت العمليات الجوية بعيدة عن الارتجال وأكثر اعتماداً
على المنهج العلمي مع تثبيت آلات تصوير عادية على الطائرات التي لم تكن بعد
مزودة بجهاز الاتصال اللاسلكي وتطوير جهاز لإلقاء القنابل . كانت الطائرات
- في بادئ الأمر - وحيدة المقعد وكان يقوم الطيار نفسه بإلقاء القنابل على
الأهداف بيده بعد فك أداة الآمان بأسنانه : الأمر الذي ترتبت عليه مشكلة
خطيرة خر شهر فبراير . لذا أجريت في أواخر شهر فبراير 1912 أول تجربة جهاز
ابتكروه أسموه " علبة قذف القنابل ( Cassetta Lanciabombe ) التي كان من
المؤمل أن تسهل هذه العملية العويصة وتيسرها .
وإذ تم تركيب هذه الأداة
على الطائرات قد أعطت نتيجة مريضة فشكلت خطوة أولي نحو " قاذفات القنابل "
التي كان عصرها لا يزال بعيداً إنذاك ،هذا وان الملاحة الجوية الايطالية
صارت تتمتع بالريادة في المجالين العسكري والمدني معاً بفضل التجارب الأولي
التي جرت في بداية الحرب الليبية والتي شكلت الأسس لتوظيف هذا السلاح في
الحرب الكبرى .
هذا ومنذ حلول سنة 1923 م قررت القيادة الإيطالية إنجاز
ما أسمته بعمليات حط العرض التاسع والعشرون وهي كناية عن حملة حربية اسعة
النطاق كانت ترمي إلي بلوغ ثلاثة أهداف معلنة هي : -
أولاً - توحيد إقليمي طرابلس وبرقة اللذين بينهما تمرد منطقة سرت .
ثانياً
- فرض الاحتلال العسكري على سلسلة واحات سوكنه وزلة ومراده وجالوا واو جلة
الواقعة جميعها على طول خط العرض المذكور .ثالثاً - محاولة تعزيز هيمنة
إيطاليا سياسيا على المناطق الواقعة إلي الشمال .
فبدون بلوغ هذه
الأهداف ربما كان من المستحيل إعادة احتلال إقليم فزان ( ومن ثم إعادة
احتلال برقة والقضاء على حركة الجهاد ) الذي سبق أن انسحبت القوات
الإيطالية منه جراء حوضها غمار الحرب العالمية الأولي 1914- 1918 م .
ومما
يدل على وحشية هؤلاء القوم تلك المذابح التي اقترفها طياروهم - كما سبق
القول -في مواقع مختلفة من التراب الليبي باستعمالهم قنابل الغاز السام وفق
خطة منهجية محكمة .
إن العواقب الوخيمة الناجمة عن استعمال هذا الغاز
المرعب كانت محل درس وبحث وذلك ليس لمعرفة عدد الضحايا الذي كان يتسبب فيه
والآثار العاجلة المترتبة على الموت الكيميائي فقط ولكن للوقوف كذلك على ما
قد يترتب عليه من آثار آجلة فيمن كان يلامسهم الغاز من الأهالي . فهذا
لعمري عنصر مجهول " حرب الإبادة " التي أمر السفاح رضولفو غراتسياني بخوض
غمارها - باسم الفاشيستي البغيض الحاكم في روما - ضد سكن ليبيا أجمعين .
وإنها
لبليغة تلك الشواهد المقتبسة من التقرير الذي وجهه اللواء تشيكونيتّي (
Ciconetti ) إلي وزير المستعمرات اميليو دي بونو ( Emilio De Bono ) في
أواخر شهر يناير من سنة 1923 م حيث يؤكد - وأنا اقتبس - أن " معظم عشائر
قذاذفة ورفلة والفرجان قد ألقيت السلاح وإن المغاربة الرعيضات قد زحفنا
المباغت إلي الفرار في غير انتظام بعد أن منيوا بخسائر فادحة في الرجال
والعتاد ." انتهي كلام تشيكونيتّي .
هذا وأسوة بالمغاربة لم يسبق لأهل ورفلة الخضوع للإيطاليين بل أعرضوا عن مهادنتهم ومصالحتهم .
ومن
الحقائق التي لا مراء فيها أيضاً إن الايطاليين قد عمدوا ألي استعمال
السلاح الجوي وإلقاء شتي أنواع القنابل بصورة مكثفة . وفي عام 1930 م أرسل
حاكم عموم ليبيا المشير بييترو باضوليو برقية من روما إلي نائبه في بنغازي
مُلمحاً إلي الأوضاع في برقة والي الحاجة لأعداد جهاز جيد للاستخبارات
وملمحاً أيضاً إلي عناد شيخ المجاهدين عمر المختار وإلي ضرورة مباغتة دور "
هذا المتمرد " بالقصف الجوي وإلقاء قنابل الغاز السام عليه .
هذا وقد
شن السلاح الجوي غارات مدمرة على واحات الكفرة وتازربو وألقي عليها قنابل
الغاز السام , الذي قيض له أن يصبح بعد بضع سنين وسيلة ناجحة لإبادة
المدنيين في أثيوبيا خياراً عسكرياً وسياسياً بينما لشن الغارات الجوية على
المدنيين في ليبيا أن تتطابق مع خيارات استيطانية محددة , إذ كانت تعد
إيطاليا العدة لإيفاد آلاف المعمرين للاستيطان في ربوعها بعد إخضاع سكانها
الأصليين لسلطانها والاستيلاء على أرضيهم .
لقد اختير نظام استيطاني
مبني على استغلال ثروات الأرض استغلالها مباشرا مع الاستفادة بقدر الإمكان
من الناجين من أهوال القصف الجوي كعمالة رخيصة في الإنجازات الزراعية وغير
الزراعية . وهل لي أن أعرض الآن في إيجاز لثلاثة حوادث كان إبطالها بعض
الطيارين الايطاليين ولم تشهدها بلاد أخري قبل ليبيا . وإن سردها قد يساعد -
في نظري - البحاث على إجراء مقابلة بينها وبين الروايات الشفوية التي عني
مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية بتجمعها وتوثيقها لعل ذلك يكشف عن
حقائق جديدة لمك تكن معروفة من قبل : أولاً : - بتاريخ 29 /6 / 1912 م فيما
كان الملازم ثان طيار تشيساري ساتشيردوتي ( Ceser Sacerdoti ) في مهمة
استطلاع إذا بخلل يعطل محرك طائرته عن العمل . فلم يكن له بد من الهبوط بها
على أرض لم تكن يحي سيطرة الإيطاليين بعد ومن ثم تركها ولاذ بالفرار قبل
أن ينكشف أمره حيث إن المجاهدين كانوا يرابطون على مقربة من الموقع . وبعد
مسيرة دامت أكثر من ساعتين وصل إلي الخطوط الايطالية في بوكمّاش ومن هناك
عاد على الفور أدراجه برفقه بعض الجنود إلي موقع الطائرة حيث قام ميكانيكي
من مرافقته بإصلاح العطب فتمكن هو بعدئذ من ركوب طائرته مجدداً واستئناف
رحلته في أمن وآمان .
ثانياً : - شهد اليوم 25 / 8 /1912 م سقوط أولي
طائرات السلاح الجوي الإيطالي وسقوط أول رجاله على الإطلاق . لقد كلف
الملام ثان طيار بييرو مانزيني ( Piero Manzini ) بمهمة استطلاع والتقاط
بعض الصور الشمسية لمواقع المجاهدين . فعند الساعة السادسة وعشر دقائق
صباحاً استقل طائرته وأنطلق بها على المدرج . ولكن لدي شروعه في الصعود على
طول الشاطئ مالت الطائرة فجأة على جنب ثم هوت به في البحر على بعد 20
متراً إلي شمال من الصخرة المواجهة للساحل . من المحتمل أن فراغاً هوائياً
قد أدخل بتوازن الطائرة وبالنظر إلي تحليق الأخيرة على ارتفاع منخفض لم
يتمكن قائدها - على ما يبدو - من السيطرة عليها فانغمست به في عباب البحر
ولقي حتفه غرقا على عمق 15 مترا مع العلم بأن فحص الطائرة بعد انتشالها لم
يسفر عن آثار عطب يبرر ماقد يكون قد استلزم هبوطا اضطراريا .
ثالثاً
: - غادر النقيب طيار موئزو ( Moizo ) مطار زواره في تمام الساعة السادسة
وعشرين دقيقة من صباح اليوم 12 / 9 / 1912 م على متن طائرة من نوع نيوبورت
50 م . ب ذات محرك واحد ميمماً شطر طرابلس وقد كلف على هامش ذلك بعملية
استطلاع طوال الساحل وقبيل بلوغه أجواء الزاوية توقف محرك الطائرة وكان
يحلق بها على ارتفاع 000 . 4 متر خارج نطاق اليابسة قليلا تجنبا لرصاص
المجاهدين .
لقد حاول عبثا أكثر من مرة تشغيل المحرك وفي أخر المطاف
اضطر إلي الهبوط في منطقة كانت تحت سيطرة رجال المقاومة وحالما حطت طائرته
على سطح الأرض لاحظ كوكبة من الفرسان تركض نحوه وعن بعد صوبوا عليه طلقات
بنادقهم . وإنما قبل أن يتوقف المحرك تماماً استأنف العمل فأنطلق القائد
بالطائرة واستطاع التحليق بها مجدداً لبضع كيلو مترات على ارتفاع 200 متر .
إنما سرعان ما أجبره عطب جديد على محاولة الهبوط ثانية ولكن حالما لامست
عجلتا طائرته أديم الأرض عاد المحرك إلي العمل كرة أخري وبصورة متقطعة دون
إن يستطيع موئزو النهوض بالطائرة . وفيما كانت لاتزال الأخيرة تترنح حاول
هو توجهها نحو منطقة ذات تربة متموجة احتمل خطاً أن إمكانه الانطلاق مجدداً
فصار عندئذ لطلقات بنادق المجاهدين الذين أقبلوا إليه زرافات ووحدانا .
ولدي صعوده بها ذلك لأحد المنحدرات لاحظ على ذروته تربة مدعوسة تسببت في
انقلاب الطائرة رأسا على عقب . وتحت رخات من رصاص البنادق تمكن النقيب
موئزو من الخروج من تحت الطائرة . ولم يلبث أن استسلم و ألقي القبض عليه
وسيق إلي واحة الماية سيرا على الأقدام محاطا بحشد متزايد من الفظوليين .
وأثناء إقامته القصيرة في الماية زاره بعض الضابط العثمانيين ومنذئد عومل
بمنتهي الاحترام كأسير .
وعشية اليوم نفسه غادر الماية - على صهوة جواد
تحت حراسة 12 فارساً عربياً - إلي العزيزية حيث كان وصوله في العاشرة مساء
وظل محل تقدير ومجاملة وسُمح له بالإبراق إلي أسرته وحظي بمقابلة رئيس
الأركان فتحي بك الذي أهداه كُتّبين يبحثان في الطيران مع مجموعة من
الجرائد والذي روي إليه أن أهالي غريان حين شاهدوا طائرته تحلق فوقهم
يوم
24/ 10 /1911 م اعتقدوها الولي سيدي عبي السلام قادما ليحضهم على الجهاد .
وأردف - أي فتحي بك - قائلاً إنه تعتمد عدم تصحيح اعتقادهم الخاطئ حين قص
عليه بعضهم قصة هذه المعجزة .
وفي العزيزية تمكن النقيب مؤنزو من فحص
أنفاض طائرته التي كانت قد نقلت إليها منذ يوم 11 ولاحظ الاضرار التي لحقت
بها . وقد نقل إلي فسّاطو ومنها إلي يفرن حيث مكنوه من الالتقاء مع بعثة
سانفيليبّو / سفورتسا ( M issione S anfilippo ) التي أغدق عليه أعضاؤها جم
لطفهم وعطفهم . وظل جميعهم تحت حراسة الجندرمة . وهنا كان يلأتيهم مفوض
الشرطة يومياً لمراقبتهم في نزهة وجيزة لشم الهواء كما كان يزورهم المتصرف
يوميا ليمنّيهم بقرب ساعة خلاصهم . إلا أن موئزو يوضح - في تقرير له - أنه
علم فيما بعد أن سبب تأخير فك أسرهم كان عائدا إلي تعثر المباحثات الجارية
وقتئذ بشأن مقدار الفدية المالية المطلوبة للإفراج عنهم . وفي الساعة
السادسة من صباح يوم 9 نوفمبر توجه الأسري جميعهم - على ظهور الإبل - صوب
الزاوية ومنها أوصلوا الرحلة على صهوات الخيول حتى مدينة طرابلس - على ما
يبدو - أحرارا بموجب أحكام معاهدة لوزان . وبالإشارة إلي الكُتيبين اللذين
أهداهما فتحي بك - كما سبق القول - إلي النقيب الطيار موئزو لعله من الجدير
إضافة أن الأخير قام في 19 نوفمبر بأول طلعة استطلاعية لتقصي أثار رمي
المدفعية فأخذ يتردد بين موقع مدفعية المجاهدين وموقع المدفعية الإيطالية
التي كان آمرها النقيب سيّرا والتي أسقط الطيار عليها أربع رسائل تحمل
بيانات عن القصف المدفعي غير أن هذه الرسائل وقعت بعيداً عن المكان لفم يتم
التقاطها والاستفادة منها . وعلى أيه حال كان من شأن نشاط الطيارين أن
أقنع - على حد قول الجهات الإيطالية - قيادة المجاهدين بأنه لم يعد من
المفيد الأمل في حشد مقاتلهم على مقربة من مدينة طرابلس وفي مباغتتهم
القوات الإيطالية مجدداً كما فعلوا في شهر أكتوبر السابق أي في معارك
ألهاني وشارع الشط وغيرهما . هذا من ناحية , ومن ناحية أخري كان المجاهدين -
في رأي الجهات المذكورة - تواقين إلي العودة إلي ديارهم - وكن موسم البذار
قد حل - لأجل القيام بالعمل في حقولهم . فقد خف نتيجة لذلك ضغطهم وأمكن
للجانب الإيطالي الانصراف باطمئنان أكثر إلي تنظيم الشئون الداخلية للمدينة
وتوضيب الخطوط الدفاعية .
أما في الخمس فظل الوضع غامضاً وغير مستقر
لاستعداد المجاهدين لصد أي هجوم تحاول الدوريات الإيطالية القيام به . ولقد
ارتأى الغزاة المعتدون ضرورة تدخل سلاحهم الجوي وقد استعد طياروه - بالفعل
للقيام بالمهمة .
ومما زاد الأمور تعقيداً في هذه الأثناء خبر ورد من
روما تشير فيه الوزارة إلي أنه " كان من المحتمل حصول الباب العالي على
خدمات بعض الطائرات " إلا أن ذلك لم يُرعب رجال السلاح الجوي الإيطالي
الذين أبدوا استعدادهم لصد ولمهاجمة الطائرات المعادية ومطاردتها وإسقاطها
بكل سهولة ويسر ولو بإطلاق عيارات مسدساتهم عليها علماً بأن طائراتهم كانت
أسرع طائرات موجودة في العالم أجمع . وفي تلك الأثناء وقع حادث العثور على
السفينة الفرنسية " كرتاج " التي أرغمت على التوقف في عرض البحر إذ اكتشف
الإيطاليون أنها كانت تحمل طائرة وخشوا أن يستفيد منها الأتراك . إنما قيل
لهم إنهما مخصصة للمشاركة في رحلة سياحية بين تونس والقاهرة . ولكنهم مع
ذلك حالوا دون انتقال هذه الطائرة مع طيارها إلي عدوهم وضمنوا عدم قيام
الأخير بمنعهم من السيطرة على الأجواء .
وان فرنسا ربما كانت غير قادرة
في الواقع حتى من باب اللياقة على السماح بتحويل الطائرة إلي الأتراك بعد
أن تم اكتشاف أمرها مشحونة على ظهر سفينة ترفع علمها . فان فعلت لجرّ ذلك
إلي عواقب وخيمة . فنتيجة لما تقدم اتخذت السلطات الإيطالية قراراً بتزويد
سلاحها الجوي في ليبيا بأسطول من الطائرات وفيصل قوامه ثلاثون رجلاً بقيادة
ضابط وذلك لأجل أن تحافظ دولتها على قصب السبق في توظيف الطيران عب
العمليات الحربية .
هذا وإضافة إلي العمليات الاستكشاف والقصف قد
استخدمت الطائرة لأول مرة كذلك وعلى نطاق متنام لأغراض أخري نحو نقل الجنود
والعتاد ونقل الجرحى الركاب المدنيين ويرجع الفضل في كل ذلك - في رأي
كارلو دي ريسكي - إلي إيطاليا باعتراف من العالم بأسره وشهادته التي لا
جدال فيها .
ولكنه نسي أن يضيف أن كل ذلك كان على حساب ليبيا . وبناء
عليه ألا يحق لنا نحن معشر الليبيين أن نزعم أن بلادنا لم تكن مهد السلاح
الجوي الإيطالي فحسب وإنما كانت أيضاً حقل تجاربه الفظيعة وإن شعبنا الأبي
كان الضحية الأولي لأهوال قنابله المتفجرة وقنابله الحارقة وقنابله الخانقة
.
المصدر
http://www.almusallh.ly/military-history/23-2010-02-28-21-21-36.html