فيما كان رئيس الحكومة الروسية فلاديمير بوتين يستمتع بحفل افتتاح الدورة التاسعة والعشرين للألعاب الأولمبية المنعقدة في بكين آنذاك، كانت القوات الجورجية المدعومة بالمصفحات والدبابات، تجتاز خطوط قوات حفظ السلام الروسية بين أوسيتيا الجنوبية وجورجيا، وتدب الرعب في قلوب المواطنين الأوسيتيين، وتحول قراهم ومدنهم إلى ركام.وعبر الرئيس الجورجي ميخائيل سكاشفيلي، حين عقد عزمه على "استعادة النظام الدستوري، ووقف النزعة الانفصالية في أوسيتا الجنوبية"، عن اعتقاده بأن موسكو لن تذهب إلى مواجهة مفتوحة مع جورجيا، وأن ردة فعلها ستنحصر بالتنديد والاستنكار، وفي أقصى حد لها بالمطالبة عبر الأمم المتحدة والمنظمات الدولية بإعادة الأمور إلى سابقها، وربما اعتقد سكاشفيلي آنذاك، أن الرئيس الروسي الجديد دميتري ميدفيديف لن يقدم على إساءة علاقاته مع الغرب بسبب أوسيتا الجنوبية.
ومهما كانت التقديرات في هذا المجال، بدأت العمليات الحربية في أوسيتا الجنوبية في الثامن من آب/أغسطس من العام 2008، ونشبت معارك عنيفة بين القوات الأوسيتية والجورجية حول العاصمة تسينخفالي شارك فيها الطيران الجورجي.
وفي اليوم ذاته، نددت موسكو بما سمته "حالات التطهير العرقي" ضد المواطنين الأوسيتيين الجنوبيين، ووجهت نداءات دولية لوقف الأعمال العسكرية الجورجية ضد الشعب الأوسيتي الجنوبي، ودعت لاجتماع لمجلس الأمن الدولي، لم يسفر عن نتائج ناجحة، وبدأت القوات الروسية حينها عملياتها الحربية، وقصفت مطار مارنيولي العسكري (في شرق جورجيا) لوقف زحف القوات الجورجية.
وفي اليوم التالي، اندلعت معارك عنيفة في أوسيتيا الجنوبية بين القوات الجورجية والروسية، وتعرضت مدينة غوري ومرفأ بوتي الجيورجيان للقصف، واعتبرت جورجيا أنها في "حالة حرب"، وأمرت بسحب قواتها البالغ عدد أفرادها 2000 جندي من العراق، ومن جهة أخرى هاجمت القوات الأبخازية ممرات كودوري الخاضعة لسيطرة تبليسي، وبرر في حينها رئيس الحكومة الروسية فلاديمير بوتين التدخل الروسي بردع "السياسة الإجرامية" التي تنتهجها جورجيا، في حين طالبت الأخيرة "مساعدات دولية عاجلة".
وفيما وجه الاتحاد الأوروبي تحذيرا لروسيا، مؤكدا فيه أن استمرار العمليات الحربية "سيؤثر" على العلاقات بينهما، أرسلت فرنسا وزير خارجيتها برنار كوشنير في مهمة وساطة إلى موسكو للخروج من الأزمة، وفي الوقت نفسه، طالبت دول البلطيق الثلاث مع بولونيا الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي بمعارضة ما سمته "السياسة الإمبريالية" لروسيا، وفشل اجتماع آخر لمجلس الأمن الدولي لبحث العدوان الجورجي، ودعا الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون إلى وقف العمليات العسكرية، وأوقفت أذربيجان تصدير نفطها عبر المرافئ الجورجية، ما اضطر الرئيس الجورجي سكاشفيلي لاقتراح وقف لإطلاق النار مع روسيا، التي طالبت بانسحاب القوات الجورجية من الأراضي الأوسيتية الجنوبية.
واستمرت المعارك العنيفة لليوم الثالث على التوالي، وقصفت القوات الروسية مطارا حربيا بالقرب من تبليسي، وأعلنت السلطات الأوسيتية الجتوبية عن مقتل 1600 من مواطنيها، في حين قالت تبليسي أن 92 من جنودها قتلوا في العمليات الحربية، وثم أعلن عن سيطرة القوات الروسية على تسخينفالي، وسحبت جورجيا قواتها من أوسيتيا الجنوبية، وطالبت بوساطة الولايات المتحدة الأميركية، ووقعت اتفاقا مع روسيا على فتح ممرات إنسانية لإجلاء الجرحى واللاجئين، وقال البيت الأبيض محذرا روسيا من أن "تصعيدها غير المتكافئ والخطير" للنزاع في أوسيتيا الجنوبية، سينعكس بشكل كبير على علاقتهما.
وفي اليوم الرابع، أصدر الرئيس الأبخازي سيرغي باغابش مرسوما، يعلن فيه أن أبخازيا في "حالة حرب" على جزء من أراضيها ولمدة عشرة أيام، في حين دعا سكاشفيلي الأمم المتحدة والحلف الأطلسي والولايات المتحدة لمساعدة بلاده.
وفيما تواصلت المناوشات والاتهامات الموجهة لموسكو بقصف العاصمة الجورجية ومحاولتها تغيير النظام في تبليسي بالقوة، نفت موسكو ما أشاعته تبليسي، وأكدت أن "لا نية لديها باجتياح جورجيا"، والإطاحة برئيسها، وقالت وزارة الدفاع الروسية إنها أغرقت سفينة حربية جورجية قاذفة للصواريخ، حاولت مهاجمة سفن روسية في البحر الأسود.
وفي الوقت الذي أعلنت فيه اللجنة الدولية للصليب الأحمر عن نزوح 40 ألف مواطن عن ديارهم، قالت رئاسة الأركان الحربية الروسية إن القوات الجورجية دُحرت من العاصمة تسخينفالي، حيث بسطت الوحدات العسكرية الروسية لحفظ السلام سيطرتها على القسم الأكبر من عاصمة أوسيتيا الجنوبية.
ووصل وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير في اليوم الخامس إلى تبليسي، ودعا السلطات الجورجية لإيجاد وسائل من أجل وقف إطلاق نار فوري في النزاع القائم بين جورجيا وروسيا، وقدم خطة سلام من ثلاث نقاط يدعمها الاتحاد الأوروبي، وهي: احترام وحدة وسيادة أراضي جورجيا، ووقف فوري للعمليات العدائية، والعودة إلى الوضع الذي كان سائدا على الأرض قبل اندلاع المعارك.
وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اليوم الأربعاء بمناسبة الذكرى الرابعة للحرب الجورجية على أوسيتيا الجنوبية إن روسيا "أجبرت جورجيا على السلام" مع جارتها، وأن العمليات الحربية "بدأت في الثامن من آب/أغسطس"، وكان على اتصال مباشر مع تسخينفالي في هذه الفترة.
وقال بوتين للصحفيين، إنه بعد التأكد من بدء العمليات الحربية الجورجية، اتصل بالرئيس دميتري ميدفيديف آنذاك ووزير الدفاع، وأكد أن التأخر باتخاذ قرار الحرب، الذي "ينتج عنه إطلاق النار وضحايا" هو أمر معقد وصعب.
وإن كان ما يذكر اليوم، وفي الذكرى الرابعة للحرب الجورجية على أوسيتيا الجنوبية، هو ما تعرضت له هذه الجمهورية غير المعترف باستقلالها دوليا بشكل كامل من خسائر في الممتلكات والأرواح، فقد راح ضحية هذه الحرب 1960 قتيلا من الآوسيتيين، ودمر 70 بالمائة من المباني السكنية والإدارية فيها، ودمرت البنى التحتية بشكل كامل، وبلغ مجموع ضحايا النزاعات المسلحة بين جورجيا وأوسيتا الجنوبية خلال 18 عاما خلت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي حوالي 80 ألف قتيل، و100 ألف لاجئ، وتم إحراق 117 قرية أوسيتية جنوبية.
وقد وضعت الحكومة الروسية برنامج مساعدات إنسانية لإعادة الإعمار في أوسيتا الجنوبية، قدمت من خلاله في المرحلة الأولى مساعدات مالية بلغت 50 مليون دولار كمساعدة عاجلة، وألحقتها في العام 2009 بمساعدة مالية أخرى بمقدار 230 مليون دولار مخصصة لإعمار مساكن ومرافق اجتماعية واقتصادية، ومبالغ إضافية تزيد عن 500 مليون دولار لإعادة إعمار البنى التحية في البلاد.
وأصبح واضحا، أن من أهم البراهين التي أثبتتها "حرب الأيام الخمسة" في القوقاز، هو في أن روسيا لم تثبت التزامها تجاه قضايا الشعب الآوسيتي فحسب، بل وأثبتت، وللمرة الأولى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي لشركائها الأجانب سياستها الجديدة، الهادفة إلى الدفاع بحزم عن مصالحها الإستراتيجية، حتى لو اضطرت في ذلك إلى استخدام القوة، ما رفع من هيبة روسيا ونفوذها الدوليين، وأجبر الإدارة الأميركية وحلف شمال الأطلسي على الاعتراف بنفوذها في الحفاظ على الاستقرار في منطقة القوقاز.