هل لا تزال أميركا في وضعها العالمي قوة مهيمنة؟ وبالتالي هل لا
تزال تستطيع فرض تصوراتها وإستراتيجياتها التي رسمتها خلال العقود
السابقة؟كل الإشارات توصل إلى نتيجة هي أن أميركا لا تزال
في وضعها السابق، وأنها تستمر في سياساتها ذاتها. وهي سياسات مرفوضة لدى
قطاعات من السياسيين ومقبولة لدى قطاعات أخرى.
ولهذا يجري التعامل مع الواقع الآن من هذا المنظور بالتحديد. البعض لا يزال يرفض سياسات أميركا
التي هي السياسات التي تتعلق بالسيطرة والنهب والتفكيك. والبعض الآخر لا
يزال يأمل في أن "تتدخل" من أجل تحقيق شعاراتها "الإنسانية"، شعارات الحرية
والديمقراطية، حتى وإنْ افترض ذلك التدخل العسكري.
إذن أميركا هي أميركا التي نعرفها منذ أن أصبحت هي القوة الإمبريالية المسيطرة بعد رحيل
الاستعمار القديم وانقسام العالم إلى "معسكرين": المعسكر الرأسمالي
والمعسكر الاشتراكي.
ولا شك في أن انهيار النظم الاشتراكية منذ سنة
1989 إلى سنة 1991 قد سمح باندفاع أميركا إلى أن تفرض سيطرة أحادية على
العالم، وأن تتحكم في منابع النفط والأسواق، وأن تستخدم خطاباً أيديولوجياً
يستند إلى فكرة الحرية والديمقراطية. وهو الخطاب الذي كان يغري قطاعات من
النخب والأحزاب وكثيرا من الشيوعيين الذين مالوا نحو الليبرالية. ومن ثم
أصبح هؤلاء يعتقدون بأن أميركا هي رأس حربة "التحرر" من النظم الاستبدادية،
التي ليس ممكناً إسقاطها دون هذا الدور.
في المقابل أدت هذه السياسة الإمبريالية إلى اندفاع نخب وأحزاب، ومنها أحزاب شيوعية، إلى
الإعلاء من الصراع ضد الإمبريالية التي تزحف من أجل فرض "الشرق الأوسط
الجديد"، وتفكيك الوطن العربي واستثارة الصراعات الطائفية والإثنية
والقبائلية. وكان هذا التحليل صحيحاً، حيث إن السيطرة الإمبريالية
الأميركية قامت على تأسيس واقع بعيد المدى ينطلق من تنفيذ هذه العناصر.
لكن هذه السياسة الأميركية نبعت من أن الأزمة العميقة التي تعيشها أميركا،
والتي كانت تتمظهر في تصاعد العجز في الميزان التجاري وفي الميزانية وتراكم
المديونية، كانت تفرض السيطرة على العالم تحت مسمى العولمة من أجل حل
مشكلاتها من خلال عملية معقدة لنهب العالم.
وهي عملية نهب باتت تتخذ شكلاً "بدائياً" (ما يسمى التراكم الأولي)، عبر نهب المواد الأولية،
وملكيات الدول والأرض، وتحويل الاقتصاد إلى اقتصاد ريعي يقوم على التوظيف
في العقار والسياحة والخدمات والاستيراد، وتسهيل كل أشكال النشاط المضارب
والمافياوي. وكانت السيطرة على النفط والمنطقة العربية عنصراً جوهرياً في
هذه السياسة للنهب حيث توجد الفوائض المالية الهائلة، وللتحكم في التنافس
مع الرأسماليات الأخرى (الأوروبية واليابانية).
كان هجوم السيطرة على العالم نتيجة أزمة تراكمت في الاقتصاد الأميركي
منذ بداية سبعينيات القرن العشرين، ومن أجل حلها عبر استخدام "الأسلوب
التقليدي" القائم على الحرب والسيطرة والنهب.
لكن سنة 2008 أوضحت أن كل ما حاولته منذ انهيار النظم الاشتراكية لم
يمنع تصاعد الأزمة وتفجّرها. فقد تفجّرت أكبر أزمة بعد أزمة "الكساد
العظيم" سنة 1929.
سنة 2008 يجب أن يُنظر إليها على أنها لحظة فاصلة في التاريخ العالمي.
حيث ظهر أن السيطرة على العالم لم تمنع انفجار الفقاعة، وأن النهب الشامل
الذي قامت به خلال كل هذه العقود لم يحل مشكلاتها الاقتصادية، حيث تصاعدت
المديونية وباتت أكبر من الدخل الوطني، وتصاعد العجز في الميزان التجاري،
رغم أن عجز الميزانية جرى حله لبعض الوقت.
والأخطر هو أن الاقتصاد كله بدا كفقاعة تفجّرت محدثة صدمة هزت كل الاقتصاد العالمي، وكشفت أن
الأزمة لم تعد أزمة إنتاج وأسواق وتنافس، بل أزمة تراكم هائل للمال الذي
خرج عن أن يكون جزءا من كتلة الرأسمال المالي لأنه خرج من التوظيف في
"الاقتصاد الحقيقي" (الصناعة والزراعة والتجارة والخدمات)، وبات يفرض تأسيس
قطاعات جديدة طفيلية لأنها لا تنتج فائض قيمة، بل تؤسس لزيادة وهمية في
القيم، منها المشتقات المالية والمديونية والمضاربة في أسواق الأسهم
والعملة.
والقطاعات السابقة هي التي باتت تشكل 90% من مجمل الكتلة المالية،
وبالتالي باتت تهيمن على الاقتصاد الحقيقي وتوجه سياسات الدول وتفرض
تشكيلاً عالمياً جديداً طابعه طفيلي ومافياوي.
وهذا التشكيل لا حل
لأزماته لأنه بطبيعته ينتج الأزمات ويفاقمها، حيث إنه اقتصاد فقاعات. وكانت
أميركا هي البلد الأكثر تأثراً في هذا التشكيل لأنها هي التي صنعته من
خلال تمركز التراكم المالي في يد الطغم المالية الأميركية.
ولهذا تراجعت أميركا كبلد صناعي وزراعي، وبات المال هو صناعتها المفضلة.
الأمر الذي وضعها في موقع المركز للأزمة، والمتأثر بها إلى حدّ العجز عن
حلها. فقد حاولت إدارة بوش الأب حلها عبر فرض السيطرة على العالم من خلال
الحرب على العراق.
وحاول بيل كلينتون الاستفادة من الهجوم العسكري
الأميركي للحصول على امتيازات اقتصادية هائلة وبالقيام بعدد من الحروب. لكن
بوش الابن قرر السيطرة العسكرية على العالم، فاحتل أفغانستان والعراق ونشر
قواته في معظم مناطق الوطن العربي وآسيا وأفريقيا. لكن الأزمة تفجرت ولم
يحلها كل ذلك، على العكس فقد ظهر أن "الحل التقليدي" بات يشكل عنصراً
مراكماً للأزمة بدل أن يحلها.
الآن، ما يجب أن يكون واضحاً هو أن الأزمة باتت "تأكل" أميركا. وأنها لم تعد قادرة على حلها عبر السياسة التي
كانت تقوم على أساس السيطرة الشاملة على العالم، خصوصاً وأن الاقتصاد
الأميركي يسير نحو انفجار فقاعة جديدة، وبالتالي انهيار مالي جديد. وترابطه
مع الاقتصاد الأوروبي جعله معرضاً لأزمة المديونية الأوروبية. وأن
الانكماش المالي الذي يشمل العالم نتيجة تصاعد البطالة والفقر يؤدي
بالضرورة إلى زيادة أزمة القطاعات المنتجة، ومن ثم انهيارها.
أميركا في وضع انهياري إذن، وإذا كانت تعمل على تجاوز هذا المصير خصوصاً
منذ أن سعت للسيطرة على العالم فقد أظهر انفجار الأزمة أنها لم تعد قادرة
على حلها عبر السيطرة، وأن وضعها العالمي المسيطر قد انتهى، بالتالي عليها
أن تراجع كلية وضعها لكي تحافظ على أميركا.
نجح باراك أوباما بفعل الأزمة التي تفجرت قبيل الانتخابات بقليل، وحاول أن يستمر في السياسة
الخارجية ذاتها على أمل تجاوز الأزمة من خلال السياسة الاقتصادية التي
اتبعها، والتي قامت على زيادة الضرائب وإعانة الفئات الفقيرة صحياً.
لكن الأزمة استمرت حيث لم يتحسن وضع الاقتصاد وظل النمو هامشياً. بل إن
احتمالات حدوث انهيار مالي ظلت ترفرف مربكة كل أمل بتجاوز أسوأ أزمة في
تاريخ الرأسمالية.
لهذا شكلت سنة 2010 لحظة جديدة ومفصلية في وضع
أميركا، لأنها اللحظة التي فرضت إعادة النظر في كل الإستراتيجية الأميركية.
فظهر واضحاً أن أميركا تقرر "الانسحاب" من العالم، والتركيز على الحفاظ
على وجودها. بمعنى أنها تخلت عن فكرة أن وجودها يعتمد على مدى سيطرتها
وتحكمها في العالم، وأنها القوة التي يجب أن تظل مهيمنة على العالم، والقوة
الأقوى التي تستطيع ردع كل المنافسين.
يجب أن نلحظ، بالتالي، أن أميركا قررت أن تخفض من طموحاتها، لأنها بالضبط توصلت إلى أن قدرتها
الاقتصادية لم تعد تسمح لها بأن تكون القوة المسيطرة في العالم.
وأنها باتت تعاني من أخطار حقيقية تتهددها كدولة، وفي أساس ذلك الصين التي باتت
تمتلك أكبر كمية من العملة الأميركية (3 تريليونات دولار)، ومن سندات
الخزينة الأميركية (1.2 تريليون دولار)، والتي باتت سلعها تغزو أميركا كما
تغزو العالم، والتي تملك طموح السيطرة، وتعمل على تطوير قدراتها العسكرية.
هذا الوضع فرض عليها إعادة تحديد الأولويات، وإعادة بناء السياسات، انطلاقاً
من أنها في وضع ضعيف في عالم بدأ يعاني من أزمة عميقة، ومن تحولات تتجاوز
"الستاتيك" الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية ونتيجة موازين القوى التي
أفرزتها. لقد انتهى عالم القطبين (سنة 1991) وفشلت هي في تشكيل عالم أحادي
القطب (2010). لكن هل يمكن لها أن تصبح قوة في عالم متعدد الأقطاب تسعى
دول عديدة لفرضه؟ هذا أمر غير واضح إلى الآن، وأصلاً من غير الواضح أن عالماً متعدد الأقطاب
يمكن أن يتشكل نتيجة الأزمة العميقة التي تعيشها الرأسمالية كنمط، ولا
تعيشها أميركا فقط. فروسيا والصين اللتان تسعيان (بالتفاهم مع الهند
والبرازيل وجنوب أفريقيا) لتشكيل قطب بديل، تعيشان وضعاً لا يسمح بأن تحكما
العالم كما كان في النمط الرأسمالي في العقود الماضية.
من هذا المنظور أعادت الإدارة الأميركية (والرئيس أوباما) صياغة الإستراتيجية
العامة، وجسدتها في إستراتيجية عسكرية جديدة. لقد أعلن باراك أوباما
إستراتيجية جديدة في خطاب "حال الأمة" في يناير/كانون الثاني 2012، انطلقت
من نقل الأولوية من "الشرق الأوسط" إلى منطقة الباسيفيك.
وعلى ضوء ذلك حددت الإستراتيجية العسكرية الجديدة التي انطلقت من تخفيض عدد القوات بما في ذلك المارينز، وخفضت ميزانية الدفاع.
وأقرت بأن أميركا باتت غير قادرة على خوض حروب عديدة في الآن ذاته، بل إنها لا
تستطيع سوى خوض حرب واحدة، متخلية عن إستراتيجية رامسفيلد الذي قرر بأن
أميركا قادرة على خوض حربين كبيرتين وعدة حروب صغيرة في الآن ذاته.
ولأن الأولوية باتت لمنطقة الباسيفيك، فقد جرى نقل القطع البحرية من الخليج
العربي إلى هناك. وأصبحت مهمة قواعد الطيران الموجودة هي استخدام الطائرات
عند الضرورة فقط. المعنى هو أن أميركا تنسحب من المنطقة، وأنها لا
تزال تعمل على الحفاظ على منابع النفط، والحفاظ على بقايا وجودها دون مقدرة
على التدخل العسكري.
وإذا كان ذلك لا يعني ترك المنطقة بسهولة فهو يعني أن قدراتها على التأثير باتت أضعف كثيراً، وأن فاعليتها للسيطرة وكسب المواقع قد انتهت. فقد غدت معنية بالدفاع عن أميركا ذاتها، وهي في وضع يتسم
بانهيار داخلي كبير نتيجة الأزمة العميقة التي باتت تسيطر على اقتصادها.
الأزمة التي لا حل لها.
أميركا لم تعد قوة مهيمنة، وهي لم تعد تعتبر أن "الشرق الأوسط" هو أولوية، لهذا ليس من الممكن أن تكون ناشطة من أجل تحقيق تصورات وإستراتيجيات كانت في وقت سابق تعمل من أجل تحقيقها.
أميركا الآن تساوم لكي تبقى قوة كغيرها. لقد انكسر جبروتها وباتت مهددة
بالزوال، في وضع عالمي مأزوم، وقوى تستطيع منافستها فقط لأن أزمتها لم
تتفجر بعد. وهذا هو وضع روسيا والصين. كل ذلك يجب أن يجعلنا نتجاوز
كل الأفكار المسبقة والسابقة، وأن نراقب بالملموس سياسة أميركا الإمبريالية
المنهارة. فأميركا هي إمبراطورية في مرحلة الأفول، لكن معها يمكن أن يأفل
كل النمط الرأسمالي.