حتى من الناحية السياسية لم يكن الأسد واثقاً جداً من آيات الله في طهران، فـ "فضيحة إيران-كونترا" عام 1986 التي كشفت عن صفقة تسليح إسرائيلية إيرانية(24) بقيمة 100 (مليون دولار) بدءاً من عام 1980 (تاريخ اندلاع حرب الخليج الأولى) ـ والتي كشف الأسد نفسه خيوطها(25) ـ هزته بعنف، وشككته بقوة في إمكان الاعتماد على إيران في المواجهة الإسرائيلية مع ملالي لا يتورعون عن صفقات مشبوهة مع العدو، كما أن حادثة خطف السفير السوري في طهران "إياد المحمود" (في 2 تشرين الأول/أكتوبر 1986) من قبل جماعة إيرانية شيعية متطرفة يقودها "مهدي هاشمي" عززت المخاوف والريب لدى الأسد من ملالي الشيعة.
لم يكن الأسد في حقيقة الأمر يُسر لرؤية اللحى الشيعية الراديكالية الشعثاء في جبال لبنان وشوارع طهران، بل إنه كان يخشى أن يراها في شوارع دمشق؛ فهي تستثير مخيلته لتسترجع أحداث الثمانينيات الدموية، وتنقله من جهة أخرى إلى مشهد انقضاض الملالي على شاه إيران العلماني. وبحساباته السياسية – في الاستفادة من النزعة الدينية العنيفة للعب أدوار ونفوذ في المنطقة، وغريزته السياسية – قرر أن لا يسمح للملالي في طهران وتابعيهم في لبنان بتصدير ثورتهم إلى دمشق.
كان هذا أحد الأسباب التي جعلت الأسد حتى التسعينيات لا يسمح لأي من أعضاء حزب الله وقياداته بدخول سورية؛ إذ كان يعرف جيداً أنهم خمينيون يؤمنون بتصدير ثورة إمامهم في طهران، فضلاً عن أن "أساليبهم تمحو خط التمييز الفاصل بين نضال العرب المشروع من أجل التحرر الوطني، وبين الإرهاب"، وإن كان يريد الاستفادة "من كل ذرة من التصلب الشيعي"(26) في مواجهة إسرائيل في جنوب لبنان.
كان الأسد يقظاً للغاية، يحاول بكثير من الانتباه منع التبشير بالتشيُّع لمنع أفكار الثورة الإيرانية من التقدم إلى بلاده، وكان بانتظام وإصرار يلجم التواجد الإيراني، وفي كل مرة يشعر بتزايد النشاط الإيراني الشيعي يعمد إلى اتخاذ إجراءات لمواجهة تغلغل المؤسسات الإيرانية في المجتمع السوري، كإغلاق المعاهد والمؤسسات وحتى المستوصفات الممولة إيرانياً دون أن يقدم الأسباب، وباستمرار كانت تحركات السفير الإيراني والملحق الثقافي ومستشاره توضع تحت المراقبة، كان الأسد حازماً في ذلك، فقد كان دقيقاً في إدارة العلاقة مع إيران الشيعية: محور سياسي خالص يلعب دور توازن في القوى الإقليمية لمصلحته ومصلحة النظام الإيراني وليس أكثر من ذلك.
ـ جمعية المرتضى "قائد المسار"
بينما كان نظام الأسد يصارع من أجل البقاء إبان أحداث العنف التي اندلعت في المدن السورية، وبعد نجاح الثورة الإسلامية الإيرانية وأثناء أزمة الإخوان المسلمين أنشأ "جميل الأسد"(27) (شقيق الرئيس) عام 1981 جمعية إسلامية في مدينة اللاذقية لنشر الفكر الشيعي باسم "جمعية المرتضى الإسلامية"، غير أن الجمعية التي لم تكن تحمل أفكاراً شيعية صرفة، كانت تحاول أيضاً توسيع نطاق النفوذ العلوي في سورية، فعمد جميل الأسد إلى افتتاح مقرات للجمعية في مختلف أنحاء سورية، وركز بشكل أساسي على القبائل في منطقة درعا والجزيرة ومناطق الأكراد في منطقة القامشلي، وفي مدينة اللاذقية وقرى العلويين.
وعلى الرغم من أن أفكار الجمعية كانت منفرَّة للوسط السني إلا أنه انتسب للجمعية آلاف من المواطنيين السوريين في المدن السورية وأريافها المختلفة تحت وطأة الخوف من القمع الدموي الذي مورس ضد الإخوان المسلمين، وتحت الإغراءات التي قدمتها الجمعية، فأعضاء الجمعية المهمون كانوا يُسلحون وتقدم لهم سيارات الحماية من قبل سرايا الدفاع، الأمر الذي كان يشير إلى صلة أكيدة بين الجمعية ورفعت الأسد، قائد السرايا، وعلى هذا فليس من المستغرب أن تكون الجمعية بالأساس من بنات أفكار رفعت في سياق مواجهة الإخوان المسلمين.
ما كان جميل متديناً، لكنه كان أقل علمانية من أخويه، وسمحت له ميوله الطائفية الدينية بالتفكير بجمعية دينية تبسط له النفوذ السياسي، أي إنشاء "تجمع سياسي وراء واجهة دينية"(28)، كان زعيم الجمعية يسعى بشكل خاص إلى علونة البدو والمزارعين من الجزيرة والمناطق الصحراوية وشبه الجدباء من حمص وحماة "بحجة أن سكان هذه المناطق كانوا في الأصل علويين واضطروا تحت ضغط السلطات العثمانية أن يصبحوا سنيين"(29). عملت الجمعية بصورة علنية، وعقدت ندوات واحتفالات ومهرجانات في مختلف المناطق السورية، ورفعت يافطات الجمعية في المدن السورية، وفي معاقل شديدة التعصب ضد الشيعة(30)، وأصدرت وثائق وشهادات لمنتسبيها. وانتسب إلى هذه الجمعية ـ إضافة إلى السوريين – عدد من المسؤولين العلويين داخل النظام، وبعض كبار التجار وزعماء العشائر ممن يستهويهم التسلط. واستطاع جميل من خلال جمعيته أن ينشئ شبكة واسعة من الأتباع والمؤيدين، فكانت عشرات الحافلات تنقل مؤيديه إلى اللاذقية من شتى أنحاء سورية. وفي ظروف الحرب الدموية مع الإخوان المسلمين من الطبيعي أن تلعب هذه الجمعية دوراً استخباراتياً مهماً عبر اختراقها للوسط الديني السني.
حشد خلفه بالقوة والمال والسلطة الكثيرين، وطال تأثيره بشكل خاص مناطق العلويين والمناطق الكردية، وبشيء من الدعم الذي حظي به من قبل حزب العمال الكردي (PKK) لاقت جمعية المرتضى إقبالاً في القامشلي والحسكة والقرى والبلدات الكردية (مثل بلدة "عفرين" و"جنديرس" (شمال مدينة حلب) التي افتتح فيها مقرات لجمعيته؛ إذ روَّج جميل أسد وعوداً بالاهتمام بالشأن الكردي في سورية، وبتوزيع الأسلحة الفردية على أنصاره، وكان تأثيره في الأكراد قوياً قياساً إلى الوسط السني العربي(31).
لقد خلط جميل الأسد بين الفكر العلوي والعقائد الشيعية ربما على نحو قريب من أفكار الشيوخ الإصلاحيين في الطائفة العلوية الذين كانوا يؤمنون بعودة الفرع (العلوي) إلى أصله (الشيعي الجعفري الإمامي)، وجمع حوله رجال دين منتفعين من دور الإفتاء في دمشق وبعض القرى والمدن السورية، وخلع على نفسه لقب "الإمام المرتضى"! وفي وقت لاحق ومع تزايد أتباعه أطلق على نفسه "قائد المسار" (بموازة اللقب الذي أطلقه حافظ الأسد على نفسه "قائد المسيرة")، لم تكن شخصيته الانتهازية ولا سمعته ومماراسته السيئة والذائعة الصيت في الساحل تسمح بالقناعة به كقائد متدين، ولم يكن هناك شيء من مظاهر التدين يدل على "تدينه" سوى لحيته! لهذا لم يكن بين أتباعه سوى البسطاء والسذج والانتهازيين، الذين سيكون لهم دور لاحق وخطير في الغزو الشيعي لسورية.
سرعان ما أقام "الإمام المرتضى" علاقات مع الإيرانيين، وحظي بدعم ملالي الشيعة في إيران، لكن النظام الإيراني الرسمي نأى بنفسه، فعلاقته بحافظ الأسد لا تسمح له بالتورط في هذا النوع من النشاط التبشيري ذي الخلفية السياسية، وكان الإيرانيون يحاولون الدخول ـ بطرق شتى ـ إلى المناطق التي توجد فيها الطائفة العلوية، مستغلين ما يعتبرونه تقارباً مذهبياً مع أبنائها. وفي كل الأحوال كان الإمام الجديد "المرتضى" يحظى بدعم مالي ومعنوي من قبل المرجعيات الشيعية في العراق وإيران التي اهتمت بشكل كبير بتشييع الطائفة العلوية وتصدير الثورة؛ وبالتأكيد لم يكن يتورع عن استثمار هذا الدعم للإثراء غير المشروع، وفي هذا السياق افتتح "الإمام المرتضى" أيضاً عشرات الحسينيات في أنحاء سورية، وبشكل خاص في الساحل السوري حول مدينتي اللاذقية وطرطوس(32).
كان حافظ الأسد يغض الطرف عن الجمعية، وربما لأنه كان مستفيداً منها فيما يتعلق بالشق الاستخباراتي، ولكن بروز انشقاقات في صفوف الضباط إبان ظهور النقاش على خلافة الرئيس حافظ الأسد، بعد تشكيله "اللجنة السداسية"(33) لإدارة البلاد أثناء مرضه في تشرين الثاني/نوفمبر 1983، حيث كان كثير من الضباط العلويين الكبار يرون في رفعت الشخص الأقوى ليحل مكانه أثناء مرضه، لم يخف جميل تأييده العلني له، ويشير البعض إلى أنه أثناء مرض الرئيس أعلن تأييده لرفعت الأسد من خلال قيام عدد كبير من أتباعه بمظاهرة أمام قصر الضيافة بدمشق تطالب بتنصيب رفعت الأسد رئيساً للبلاد! وهذا يدل على أن الجمعية فعلياً تعود إلى رفعت الأسد؛ لهذا السبب وبمجرد أن أَبَلَّ الرئيس من مرضه قرر حل الجمعية تقليماً لأظافر رفعت وإضعافه، فأصدر في منتصف كانون الأول/ديسمبر 1983 قراراً بحلِّها(34).
وإثر حلها تم اعتقال عدد غير قليل من أعضائها، خصوصاً الأكراد(35)، ودخل "الإمام المرتضى" و"قائد المسار" غير المظفَّر، حالة غياب وبقيت له بعض الصلات بكثير من أعضاء الجمعية ما لبثت أن تحولت - مع انصرافه للاهتمام بالتجارة وتجارة التهريب ومزاولة الابتزاز في الموانئ والنوافذ الحدودية الجمركية - إلى عصابات مسلحة (عرفت باسم "الشبِّيحة") في العديد من المدن السورية، أثارت قلاقل للأمن والاستقرار الداخلي، وقد تحمل النظام أنواعاً مختلفة من الأنشطة غير المشروعة المتسمة بالعنف التي كان يقوم بها جميل الأسد وباقي الأفراد الأصغر سناً من أسرة الأسد الموسعة، بمن فيهم "فواز" نجل جميل، خاصة في منطقتي اللاذقية وطرطوس وقد تم كبح هذه الأنشطة فيما بعد ولو جزئياً، ولكنها بقيت مستمرة، حتى مطلع التسعينيات، حيث وَسّدَ إلى "باسل الأسد" التصدي لها. لكن الجمعية خلفت وراءها عدداً من المنتفعين وربما المؤمنين الذي تسربت إليهم بعض قناعات شيعية في مختلف أنحاء البلاد.
لقد شكلت جمعية المرتضى أول نشاط تبشيري "شيعي" سياسي واسع النطاق مورس على الأراضي السورية تحت سمع وبصر النظام، لكنه نشاط تبشيري لأغراض سياسية محليَّة وليست إقليمية تتعلق بالمحور الإيراني أو هلاله الشيعي.
ـ تشييع الطائفة العلوية
بقي العلويون في عزلة وعقائدهم توغل في كنف الأسرار والأساطير، ولم تدب اليقظة في الطائفة إلا مع مطلع القرن الهجري الثالث عشر (نهاية القرن التاسع عشر الميلادي) وعند بدايات ظهور الدولة الوطنية(36)، إلا أن جذور اليقظة قد تعود إلى سنة (1271ﻫ/1854م) عندما وقّع خمسة عشر من زعماء العشائر العلوية اتفاق "إلغاء العشائرية"(37) بعد أن بقيت عهداً طويلاً في صراع وتنافس مرير(38).
وشأن أي جماعة دينية عندما تريد الانخراط في العالم الجديد والخروج من عزلتها وفي الوقت نفسه تود أن تحافظ على هويتها فإنها تولِّد حركات إصلاح ديني، هي في جوهرها حركة لمواجهة تحديات العصر والبحث عن أسباب البقاء والاستمرار. ولانعرف بالضبط ما إذا شهدت الطائفة العلوية هذا النوع من الحركات من قبل، بل إن بعض الكتابات تشير إلى أن حركة الإصلاح الديني هذه جديدة كلياً في الطائفة(39) الغارقة في سبات منذ قرون طويلة جداً، وعموماً فإن حركات الإصلاح الديني تتجه غالباً لإخراج الجماعة من العقائد التي تتسبب بعزلها عن الجماعة الكبرى، وتدفعها ربما لتأويلها أو مدها بالتفسيرات العقلية، وإذا عجزت عن ذلك في بعض العقائد تبدأ بالتخلي عنها بطرق شتى تحت مسميات التقليد والخرافات والانحرافات عن العقائد الأصل. ومن المنطقي أن تكون أُولى سُبل التأويل إعادة الفرع العقدي إلى أصله، أو مقاربته بأصله، وفي حالة العلوية النصيرية يعني – بالطبع – إعادة الطائفة إلى أصلها الشيعي الجعفري الاثنى عشري، فمن الطبيعي إذاً أن يبدأ التفكير بالخروج من العزلة بأفكار تصب في النهاية في سلة الشيعة الجعفرية.
1. عودة الفرع إلى أصله
هذا ما حصل ربما في الطائفة العلوية مع بدء ظهور مصلحين دينيين في نهاية القرن التاسع عشر، وبافتتاح أول مسجد في جبل العلويين "في (بيت الشيخ يونس – صافيتا)؛ الذي شرع في ابتنائه كل من ... الشيخ غانم ياسين والشيخ عبد الحميد أفندي – الذي نُسب إليه آنئذ أعمال سياسية فنفي إلى طرابزون وتزوج منها وعاد مكرماً -، ثم أتم الجامع المذكور ... المرحوم الشيخ ياسين يونس والشيخ سليم الغانم سنة 1286هـ [1869م]. وقد قام المرحوم الشيخ ياسين – الآنف الذكر – بإمامة الجامع طيلة حياته وخلفه ولده الولي العلاّمة الشيخ محمد ياسين"(40)، وذلك في وقت كان العلويون يمتنعون عن إعمار المساجد في جبالهم(41).
أخذت يقظة العلويين بالنُّمو حتى قام الشيخ "علي عباس" و"افتتح في أواخر الحرب الكونية [الأولى] مدرسة في قرية العنازة بانياس جمعت أكثر من مائة وعشرين طالباً وستة معلمين كلهم علويون"(42) درس فيها أصول الدين واللغة. بدأت في هذه الفترة – على ما يبدو – تصعد أفكار الإصلاح الديني باتجاه الفكر الشيعي الإمامي، ففي فتوى لأحد زعماء الطائفة النصيرية الكبار (وهو من المنخرطين في الإصلاح الديني) "الشيخ سليمان الأحمد"(43) في مسألة جواز الجمع بين البنت وعمتها أو خالتها في ذمة رجل واحد(44)، ويلاحظ في الفتوى – التي صدرت في أوائل العشرينيات المنصرمة – ثلاثة أمور غاية في الأهمية: أولها التأكيد على أن المذهب الإمامي الجعفري "هو الأصل"، والطائفة العلوية النصيرية "فرع منه" وعليه فإن رجوع الطائفة إليه "في أصول الفقه وفروعه هو الواجب الحق الذي لا مندوحة عنه".
وثانيها أن هذا التأكيد على هذه العودة للأصل الشيعي يبدو بدعة جديدة ابتدعها الإصلاحيون الدينيون؛ فثمة تأكيد على ضرورة الصلة بين المذهب الشيعي والنصيرية؛ إذ كان سبب الانقطاع "بواسطة السياسة من مئات السنين حتى انتبه إليها في عصرنا هذا" أي أن فكرة العودة للأصل جديدة كلياً حتى ذلك الوقت.
وثالثها أن مرجعية العلويين الفقهية - أو بتسمية الشيخ الأحمد "الإرث وآداب الشريعة" – حتى ذلك الوقت كانت "أهل السنة؛ بحكم الوقت والأحوال والرخصة المعطاة لهم من أئمتهم حسبما يسمح به التأويل" على حد تعبيره.
في هذا المناخ الذي تهب عليه رياح الإصلاح الديني نشأ "عبد الرحمن الخيِّر"(45) الذي أسس (مع بعض أصدقائه) في عام (1925م) "جمعية اللاطائفية" كجمعية إصلاحية "لمكافحة التعصب العشائري والعزلة الاجتماعية، ومعالجة حالات الجهل والفقر والحرمان التي خلفتها العهود من ظلم المتسلطين وتجاوزهم بحق أبناء الطائفة"(46).
2. الديانة في دولة العلويين المستقلّة
كانت حركة الإصلاح العلوي الديني قد بدأت تستقطب عدداً من مثقفي وعلماء الدين من نخبة المجتمع العلوي، ففي عام 1936 وقع عدد من رجال الدين العلويين بياناً هو الأول من نوعه؛ إذ يوضح في بندين عقيدة العلويين بأنها عقيدة إسلامية: "البند الأول: كل علوي فهو مسلم يقول ويعتقد بالشهادتين، ويقيم أركان الإسلام الخمسة. البند الثاني: كل علوي لا يعترف بإسلاميته، أو ينكر أن القرآن كتابه وأن محمداً (ص) نبيه، لا يعد في نظر الشرع علوياً، ولا يصح انتسابه للمسلمين العلويين"(47). وهذا البيان لم يصرح أبداً بشيعية العقيدة العلوية، وإنما كان حريصاً على إسلاميته، وفيه مغازلة واضحة للمسلمين السنة، بالتأكيد على "الشهادتين" و"أركان الإسلام الخمسة".
ويبدو أن هذا البيان جاء في سياق الخلاف داخل الطائفة حول فكرة "الدولة العلوية" التي أراد الفرنسيون إنشاءها، ففي مقابل إثبات إسلامية العلويين وفي إطار تصاعد التيار الديني المتنامي والمنجذب نحو الشيعة كان ثمة توجُّه لدى بعض الشيوخ والزعامات النصيرية القويَّة للنأي بالطائفة عن الإسلام ذاته كدين بالكامل، واعتبار النصيرية ملَّة وأقلية دينية مستقلة، رغبة في دعم الفرنسيين لهم في إقامة دولة مستقلة، كان هذا واضحاً في العريضة التي قدمها قادة نصيريون إلى رئيس الحكومة الفرنسية "ليون بلوم" في 15 حزيران 1936، والتي يدعون فيها إلى استقلال العلويين بدولة خاصة بهم، وجاء فيها أن "الشعب العلوي ـ الذي حافظ على استقلاله سنة فسنة؛ بكثير من الغيرة والتضحيات الكبيرة في النفوس ـ هو شعب يختلف في معتقداته الدينية وعاداته وتاريخه عن الشعب المسلم [السني]" (48).
بعد ما يزيد عن شهر تقريباً من تاريخ توقيع هذه العريضة، وتحديداً في 27 تموز 1936: رفع رجال دين وزعماء عشائريون علويون عريضة إلى وزارة الخارجية الفرنسية يحتجون فيها على التبشير المسيحي الذي يقوم به الآباء اليسوعيون في أوساط العلويين بدءاً من عام 1930، باعتبار أن "هذه الحوادث التبشيرية ـ التي تكون معذورة لو أن الدافع لها اليقين والإيمان ـ إلا أن الشيء المشين في هذه الحوادث ـ وهنا موضع استيائنا وعليه احتجاجنا ـ هو استثمار واستغلال فاقة شعب فقير وشراء ضمائر ضعيفة كما تُشترى السلع لتمرُق من دين إلى دين آخر"(49)، ويطالبون بالوحدة السورية، ويؤكدون فيها بأن "العلويين شيعة مسلمون، وقد برهنوا طوال تاريخهم عن امتناعهم عن قبول كل دعوة من شأنها تحوير عقيدتهم، فهم يحتفظون بشدة بالعقيدة الشيعية الإسلامية". كان هذا التصريح الجماعي هو الأول من نوعه في تاريخ الطائفة النصيرية، وقد جاء هذا البيان وسابقه في سياق معترك سياسي وانشقاق بدأ يدب داخل الطائفة بسبب قضية استقلال العلوييين في دولة وخيار الانضمام للدولة الوطنية على مشارف خروج الاحتلال الفرنسي(50).
وفي عام 1938 وقَّع أحد عشر من رجال الدين العلويين وشخصياتهم البارزة جواباً على سؤال عن عقيدة العلويين، جاء فيه ـ على لسانهم ـ أن "مذهبنا في الإسلام هو مذهب الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام)"(51)، وهذه الوثيقة التاريخية تمثل ثاني بيان جماعي يُعلن فيه زعماء دينيون علويون انتساب الطائفة العلوية النصيرية إلى الشيعة الجعفرية(52)، وهو بمنزلة إيذان بانتشار الدعوة الشيعية وتحولها إلى ظاهرة في الطائفة.