الطريق نحو السيطرة على العالم!!!
2007
قد تبدو مناطق الشرق الأوسط، وبحر قزوين، والقرن الإفريقي، متباعدة جغرافيا. ومع ذلك فإنا لا نستطيع أن نعرف حقيقة ما يجري في أحدها، دون معرفة ما يجري في بقيتها، فما يجري في بحر قزوين له تداعياته على الشرق الأوسط والقرن الإفريقي، وما يجري في الشرق الأوسط له تداعياته على القرن الإفريقي ومنطقة بحر قزوين، وهكذا دواليك. إنها حرب تستعر بين القوى الكبرى للسيطرة على العالم، حرب وقودها الضعفاء.
"حلم السيطرة على العالم"، هو المحرك الحقيقي لجميع الحروب والصراعات السياسية التي نعيشها حاليا، رغم ما تحاول الدول المعتدية دائما تسويقه من حجج واهية لتبرير تدخلها في شؤون هذا البلد أو ذاك عبر وسائل الإعلام.
ولتوضيح علاقة هذه المناطق ببعضها البعض، فإني سأبدأ أولا من منطقة حوض بحر قزوين، ثم سأنزل إلى الشرق الأوسط، ثم إلى منطقة القرن الإفريقي كمدخل إلى القارة السوداء.
لكن قبل أن أبدأ، هناك حدث مهم لا يستقيم الأمر بدون الإشارة إليه، لأنه قلَب السياسة الدولية رأسا على عقب. إنه حادثة قطع النفط العربي عن الدول الغربية إبان حرب أكتوبر 1973م. فمنذ ذلك الوقت، أصبح تأمين مصادر الطاقة، وطرق إمدادها، وإيجاد مصادر بديلة عن النفط العربي، هو ما يحدد الأجندة الخارجية والإستراتيجية العسكرية للدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، والتي حرصت دائما على السيطرة على أماكن الطاقة الإستراتيجية، وعلى طرق إمداد العالم بها، كوسيلة للسيطرة على العالم بأسره.
تطل على بحر أو بحيرة قزوين، التي تحتوي على مخزون هائل من الغاز والنفط، خمسة دول هي إيران، وروسيا، وتركمانستان، وكازاخستان، وأذربيجان. تحديد وضع "قزوين" كونه بحرا أم بحيرة، له أهمية كبيرة جدا، لأنه يحدد نصيب كل دولة مشاطئة له في ثرواته.
حسب العُرف الدولي، فإن كل دوله مشاطئة للبحيرة يحق لها 30 كم كمياه إقليمية، و30 كم أخرى يمكنها استغلالها اقتصاديا. أما البحر، فإنه يحق لكل دولة مشاطئة له 20 كم كمياه إقليمية، و300 كم يحق لها استغلاله اقتصاديا. صيغة "بحر" تناسب تركمانستان وأذربيجان، بينما صيغة "بحيرة" تناسب روسيا وكازاخستان. أما إيران، فلا فرق واضح يبدو بين الصيغتين بالنسبة لها بحكم موقعها.
لقد أدى هذا الوضع المتشابك والمصالح المتضاربة، إلى توتر العلاقات الدبلوماسية بين هذه الدول، فكل منها يريد فرض الصيغة التي تمكنه من الحصول على أكبر قدر من الثروات الطبيعية في قاع البحيرة.
* "أينما تجد النفط، تجد أمريكا":
هذا الوضع القانوني المعقد لبحر قزوين، هو الذي مهد الطريق لأمريكا كي يكون لها موضع قدم في المنطقة. فقد حرصت على التدخل لدعم الدول التي توافق مصالحها سياسيا وعسكريا. وذلك لإحكام سيطرتها على العالم من خلال الطاقة، ولتنويع مصادر الطاقة للاستغناء عن النفط العربي، أو التقليل من نسبة الاعتماد عليه، وكذلك لحرمان روسيا وإيران من أكبر قدر ممكن من ثرواته.
ومن أجل ذلك، أنشأت قواعد عسكرية لها في كازاخستان، وجورجيا، وأذربيجان، وأوزباكستان. كما ضمت أيضا بعض دول المنطقة إلى حلف الناتو. أضف إلى ذلك، عزمها على إنشاء درع مضاد للصواريخ في كل من بولندا وتشيكيا بالقرب من روسيا، الأمر الذي اعتبرته روسيا تهديدا مباشرا لأمنها القومي.
ليس هناك من فائدة تذكر إن هي سيطرت على النفط نفسه، بدون أن تسيطر على طرق تصديره للعالم. لذا فقد دعمت إنشاء خط الأنابيب، الشرقي الغربي، المتمثل في خط أنابيب باكو ـ جيهان، رغم أنه الأعلى كلفة (4 مليارات دولار)، على حساب كل من الخط الجنوبي الذي يمر في إيران، والذي يعتبر الأقل كلفة، والخط الشمالي الذي يمر في الأراضي الروسية، وذلك لمنعهما من التحكم في نفط المنطقة، ولتكون هي المسيطرة عليه بدون منازع.
أما الخط الآخر، والذي تخطط لإنشائه، فهو الذي يمر عبر أراضي أفغانستان. وهنا تظهر لنا جليا، الأسباب الحقيقية لاحتلال أفغانستان، فهي بموقعها الإستراتيجي، تمثل محورا لعبور نفط وغاز قزوين إلى الأسواق الآسيوية في المستقبل القريب. وبذلك تتيح للولايات المتحدة التحكم في شرايين الطاقة المتجهة إلى الصين، والهند، واليابان. وهذا بدوره سيساعد كثيرا الولايات المتحدة، في إبقاء هذه الدول تحت الهيمنة الأمريكية.
أما روسيا، فإنها تحاول بأقصى ما تستطيع من وسائل أن ترد على الاكتساح الأمريكي لمنطقة تعتبرها منطقة نفوذ طبيعي لها، كونها وريثة الإتحاد السوفييتي السابق.
وكان أقوى ردودها هو تحالفها الإستراتيجي مع إيران. إذا، روسيا بأمس الحاجة لإيران لسببن: أولهما، هو دعمها لفرض صيغة "بحيرة"، لتتمكن من الاستفادة من أكبر قدر ممكن من ثروات بحر قزوين. وثانيهما، هو الرد على الاختراق الأمريكي لمنطقة نفوذها، وذلك بدعم موقف إيران في منطقة نفوذ الولايات المتحدة، الشرق الأوسط. ولا ننسى أن الصين تدعم إيران أيضا للضغط على الولايات المتحدة لسببين أيضا: أولهما، إجبار واشنطن على التخلي عن دعمها لتايوان، والتي تعتبرها الصين جزءا منها. وثانيهما، الرد على تهديد واشنطن لمصالحها في قارة إفريقيا، كما سيتبين لنا لاحقا.
من هنا يتضح لنا أن هناك تحالفا بين الدول الثلاث، تحولت بموجبه إيران إلى رأس حربة لمحاربة النفوذ الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط. وفي مقابل ذلك، تقوم كل من روسيا والصين بدعم إيران في مجلس الأمن، بأن تسعى جاهدة لتعطيل صدور قرارات مجلس الأمن، أو تخفيفها على أقل تقدير، لتضييع أكبر قدر ممكن من الزمن.
كما تقدم روسيا بموجبه التكنولوجيا النووية، والسلاح الروسي المتقدم إلى إيران، وهذا واضح من بناء روسيا لمحطة بوشهر النووية الإيرانية. وقد تكرس هذا التحالف في "مؤتمر شنغهاي للتعاون"، حين التقى زعماء الدول الثلاث في قمة تاريخية خطيرة.
إن تشابك المصالح، وإدراكا من إيران لخطورة الدور الذي تلعبه، لصالح كل من روسيا والصين، هو ما يفسر لنا لا مبالاة إيران بالتهديدات الأمريكية، ونبرة التحدي والقوة التي تستخدمها في الرد على تلك التهديدات.
عبر البوابة الإيرانية، نكون قد وصلنا إلى أهم وأخطر منطقة في العالم، إنها منطقة الشرق الأوسط. فإيران تعتبر حلقة وصل الأحداث بين منطقة بحر قزوين، وبين هذه المنطقة. ولكي نفهم جيدا حقيقة ما جرى في الماضي، وما يجري حاليا، وما سيجري في المستقبل إن بقي الحال كما هو عليه، يجب أن نعلم أن لدى الدول الغربية إستراتيجية عليا، لا تحيد عنها مهما اختلفت، أو تضاربت مصالحها، وهي ألا يتكرر ما حدث عام 1973م، من قطع للنفط أو شن للحرب.
الخطوط العريضة لهذه الإستراتيجية تقوم: أولا، على الوجود العسكري الدائم في المنطقة لتأمين منابع النفط. وثانيا، على إبقاء المنطقة على الدوام، منطقة قلاقل وحروب وعدم استقرار، لإضعاف الدول الواقعة فيه سياسيا وعسكريا، حتى لا تملك قرارها السياسي، فتصبح غير قادرة على استخدام النفط كسلاح إستراتيجي تهدد به الغرب، ولتفقد كذلك قدرتها على اتخاذ قرار بشن حرب تكون هي صاحبة المبادرة فيها.
بمعنى آخر، فإنه غير مسموح لأي من دول المنطقة بأن تكون لها قوة عسكرية، تمكنها من أن تصبح قوة إقليمية تهيمن على المنطقة، وبالتالي النفط. وهذا بالضبط هو سبب ما جرى للعراق، وما سيجري لإيران.
وتطبيقا لهذه الإستراتيجية، دخلت منطقة الشرق الأوسط في مسلسل طويل من القلاقل والحروب، وعدم الاستقرار.
فمن الحرب العراقية الإيرانية، إلى احتلال الكويت، إلى حصار العراق، وصولا إلى الاحتلال الكامل للعراق، الذي لم يمكن أمريكا من النفط العراقي فحسب، بل مكنها أيضا من السيطرة على أسعار النفط العالمية أيضا.
أما في الوقت الراهن، واعتمادا على نفس الإستراتيجية، فإن الاستعدادات تجري على قدم وساق لتوجيه ضربة جوية قاصمة لقدرات إيران العسكرية، وخاصة النووية منها. وتتزايد احتمالات هذه الضربة كلما زادت ضغوط الكونجرس على البيت الأبيض لجدولة الانسحاب من العراق. إذا إن خروج الولايات المتحدة من العراق في ظل إيران نووية، يعني تقديم المنطقة وما فيها من موارد طبيعية، هدية خالصة للهيمنة الإيرانية، وبالتالي للهيمنة الروسية ـ الصينية. وهذا يعني عمليا فقدان سيطرتها على العالم.
وهي إن فعلت ذلك، فهي كمن يحفر قبره بيده. لكن ما نراه جليا أن أمرا كهذا مستبعد تماما عن خيارات الإدارة الأمريكية، وهذا ما تشهد به جميع التحركات السياسية والعسكرية الأمريكية.
بالطبع، فإن ضربة كهذه لن تكون تحت غطاء الأمم المتحدة ومجلس الأمن، بسبب الدعم الروسي والصيني لإيران، الذي قد يصل لحد استعمال حق النقض الفيتو الذي تتمتعان فيه. ولكن مع ذلك فإنهما، لن تدخلان في مواجهة عسكرية مع الولايات المتحدة، وإيران تعلم ذلك جيدا.
ولكن روسيا بالذات، وفي حالة وصول الأمر إلى المواجهة، فإنها قد تزود إيران ببعض الأسلحة الروسية المتطورة جدا، من قبيل صواريخ إس 300، المضادة للطائرات، والتي تعتبر الأكثر تفوقا على مستوى العالم بالنسبة لأنظمة الدفاع الجوي. هذه الصواريخ تشكل مصدر قلق لسلاح الجو الأميركي في كل مرحلة تستعد خلالها الولايات المتحدة لخوض حرب جديدة. وحسب اعتقادي فإن الولايات المتحدة لن توجه أي ضربة جوية لإيران، قبل أن تتأكد عما إذا كانت موسكو قد زودت طهران بها، لأن ذلك يعني فقدان أمريكا عمليا لتفوقها الجوي، الذي تعتمد عليه كثيرا في حروبها.
إلى مكان آخر من العالم، إلى إفريقيا، وهنا يسأل العربي المسلم؛ ماذا تريد أمريكا من السودان والصومال؟! .. يقع السودان بين منابع النيل، ومنطقة البحيرات العظمى، والقرن الإفريقي، وملتقى المستعمرات القديمة؛ الفرنسية في تشاد وإفريقيا الوسطى والكونغو، والإنجليزية في مصر وكينيا وأوغندا، والإيطالية في إثيوبيا وليبيا، ويطل كذلك على البحر الأحمر بساحل يتجاوز طوله 300 كيلومتر.
إنه بلد مترامي الأطراف، حيث تبلغ مساحته حوالي 2.5 مليون كيلومتر مربع، ويضم بين جنباته نحو 120 مليون فدان صالحة للزراعة والرعي، أي أكبر من الأراضي الصالحة للزراعة في مصر 40 مرة، ومع هذا لم يُستغل منها إلا 16 مليون فدان فقط. وإذا ما أضفنا إلى ذلك الثروات الطبيعية الهائلة، من نفط، وغاز، ونحاس، وذهب، ويورانيوم، فإنا سنجد أنفسنا أمام دولة يسيل لها لعاب أي دولة استعمارية.
في جنوب السودان، دعمت الولايات المتحدة "مبادرة الإيجاد"، للتسوية بين الحكومة في الشمال والحركة الشعبية في الجنوب بكل ثقلها. وفي نفس الوقت عارضت المبادرة المصرية الليبية لتسوية نفس الخلاف. وذلك لسبب بسيط وهو أن الأولى تمهد لفصل الجنوب عن طريق إقرارها لحق تقرير المصير لأهل الجنوب، بينما الثانية تحدثت عن وحدة السودان. وفي سبيل إجبار السودان على "مبادرة الإيجاد"، ضغطت على حكومة الخرطوم بكل ما تستطيعه من أشكال الضغط، فمن دعم لحركة التمرد في الجنوب، إلى الإيعاز لحلفائها الدوليين مثل بريطانيا وإسرائيل، والإقليميين من دول الجوار الإفريقية بتقديم الدعم لنفس الحركة.
وكانت النتيجة أن رضخت الحكومة للشروط الأمريكية، ووقعت على "اتفاقية مشاكوس" عام 2002م، والتي تعطي للجنوبيين حق تقرير المصير بعد فترة انتقالية مدتها 6 سنوات. ثم كانت "وثيقة الإيجاد" 2003م، والتي تتضمن آليات اقتسام النفط والسلطة، لتعطي مزيدا من الدعم للجنوب على حساب الشمال.
أما في إقليم دارفور، والذي تعادل مساحته مساحة فرنسا، ويبلغ عدد سكانه 6 ملايين نسمه من عرقيات عربية وإفريقية، وكلهم مسلمون، فإن أزمة "رعي" بسيطة، طارت بها آلة الدعاية الأمريكية والصهيونية وحولتها إلى أزمة أممية تتصدر نشرات الأخبار، ويجتمع من أجلها مجلس الأمن ويصدر قرارات في شأنها. إنها أزمة بين بدو رحل من القبائل العربية، وبين القبائل الإفريقية المستقرة في المناطق الريفية، على مصادر الكلأ والماء. وقد اعتاد البدو الرُّحل أن يتنقلوا في مناطق المزارعين أثناء فترات الجفاف بعد جني الثمار، في عملية يتم تنظيمها بين القبائل في اتفاقيات محلية.
هذا لا يمنع بالطبع من حدوث بعض المناوشات، التي كانت سرعان ما يجري حلها. لقد وجدت أمريكا في هذه الأزمة مدخلا مناسبا يؤمن لها موطئ قدم في هذه المنطقة. وكما فعلت في الجنوب، فلن ترضى بأقل من اتفاق يمهد لانفصال دارفور، وسوف تضع العراقيل في وجه كل تسوية لا تسير في هذا الاتجاه، وستواصل الضغط على حكومة البشير إلى أن ترضى باتفاق مشابه لاتفاق مشاكوس.
وقبل أن نحلل الأسباب التي دعت الولايات المتحدة لمحاولة فصل هذين الإقليمين عن السودان، لابد أن نشير إلى أن معظم الثروات الطبيعية السودانية، توجد في الولايات الجنوبية وفي ولاية دارفور. لذا فإن أول هدف كان هو حرمان السودان العربي المسلم من هذه الثروات الطبيعية، التي لو أحسن استغلالها، لتحول إلى قوة إقليمية، يحسب حسابها ليس في ميزان القوى الإقليمية فقط، بل حتى العالمية.
فقلما نجد دولة تجتمع فيها كل هذه المميزات من خصوبة الأرض، ووفرة الماء، والثروات الطبيعية، والموقع الإستراتيجي. إن كل واحد من هذه العوامل يعتبر مصدر قوة للدولة، فما بالك عندما تجتمع كلها في دولة واحدة، كما في الحالة السودانية. لقد كان السودان قبل اكتشاف هذه الثروات يسمى "سلة غذاء العرب"، فماذا سيسمى الآن بعد هذه الاكتشافات؟! .. لذا كان لابد من تفتيته.
الهدف الآخر الذي لا يقل أهمية عن سابقه، هو ربط جنوب السودان بعد استقلاله مع دول البحيرات العظمى الغنية بالموارد الطبيعية في إطار تحالف قوي يضم كل من أوغندا، وإثيوبيا، وإيريتيريا، والكونغو، وجنوب السودان.
هذا الحلف يُمكن الولايات المتحدة من السيطرة على الثروات الطبيعية الموجودة في هذه المنطقة، كما يُمكنها من التحكم في منطقة حوض النيل وإخضاع الدول الواقعة فيه للسياسات الأمريكية. ومن أجل تحقيق ذلك، تحولت سياسة البيت الأبيض تجاه السودان من "الاحتواء والعزل"، والتي كانت متبعة في عهد كلينتون، إلى "الارتباط والبناء"، فكان ما كان من مشاركتها الفاعلة في اتفاقية مشاكوس التي أشرنا إليها مسبقا، تمهيدا لفصل الجنوب وضمه إلى هذا الحلف الاستراتيجي.
أما سبب حرصها على إيجاد موطئ قدم لها بدارفور بأي حجة كانت وبأي شكل كان، فبالإضافة لما سبق، فإنها ترغب في إيقاف نفوذ فرنسا التاريخي في غرب إفريقيا الغني بالنفطـ وخاصة تشاد الجار الغربي لدارفور، والتي تعود إليها أصول بعض القبائل الإفريقية الدارفورية.
وإذا ما استمر سيناريو التدويل هذا، فإنا سنشهد اتفاقا على غرار اتفاق "فاشودة"، والذي قسم المصالح والنفوذ في شمال إفريقيا بين فرنسا وبريطانيا عام 1904م، ولكن هذه المرة سيكون بين فرنسا والولايات المتحدة. أما الهدف الأهم من الوجود في دارفور بالنسبة لأمريكا، فهو محاربة النفوذ الصيني المتنامي في إفريقيا عامة وفي السودان خاصة، من خلال وجودها بالقرب من الحضور الصيني عند آبار نفط جنوب وغرب السودان.
اليهود أيضا كان لهم حضور وأجندة بارزة جدا في الجنوب ودارفور. يقول ديفيد بن جوريون أول رئيس وزراء إسرائيلي: "نحن شعب صغير، وإمكانياتنا ومواردنا محدودة، ولا بد من العمل على علاج هذه الثغرة في تعاملنا مع أعدائنا من الدول العربية، من خلال معرفة وتشخيص نقاط الضعف لديها. وخاصة العلاقات القائمة بين الجماعات والأقليات العرقية والطائفية، بحيث نسهم في تفخيم وتعظيم هذه النقاط، لتتحول في النهاية إلى معضلات يصعب حلها أو احتواؤها".. انتهى كلامه .. لم يتوقف بن جوريون عند حد الكلام بل انتقل إلى العمل، فشكل فريق من الخبراء الإستراتيجيين توصلوا إلى ثلاثة ركائز إستراتيجية سارت عليها السياسة الإسرائيلية تجاه العالم العربي. وهي أولا : بناء قوة عسكرية متفوقة قادرة على حماية أمن إسرائيل. ثانيا: محاصرة العالم العربي عن طريق التحالف مع الدول الهامة المحيطة به مثل تركيا وإثيوبيا وإيران (أيام الشاه واستبدلت الآن بالعراق ) لتطبيق سياسة "شد الأطراف". ثالثا: التحالف مع الأقليات العرقية والطائفية في الوطن العربي.
وقد ظهرت هذه الإستراتيجية في كتاب صدر عن مركز دايان التابع لجامعة تل أبيب بعنوان "إسرائيل وحركة تحرير جنوب السودان.. نقطة البداية ومرحلة الانطلاق". وقد شرح الكتاب بالتفصيل كيفية دعم المخابرات الإسرائيلية لمتمردي الجنوب، عن طريق إمدادهم بالمال والسلاح، وتدريب قادتهم، وحشد التأييد الدولي لصالح حركتهم. وهذا ما تفعله الآن بالضبط مع متمردي دارفور، وإلا بماذا نفسر الاحتفال اليهودي المنقطع النظير بصدور قرار مجلس الأمن 1706، الداعي إلى إرسال قوات دولية إلى دارفور تحت البند السابع. ومن الواضح أن إستراتيجية "شد الأطراف" متحدة مع الإستراتيجية الأمريكية "الفوضى البناءة"، قد تحولت إلى "تقطيع الأطراف"، بعد أن أيقنت ألا أحد سيقف في وجه مشاريعها.
إن مستقبل السودان بناء على التفكير الأمريكي الإستراتيجي الجديد بعد أحداث 11 سبتمبر، والذي يهدف إلى إعادة تشكيل الكثير من المناطق الجيواستراتيجية، ومن أبرزها منطقة الشرق الأوسط، بما فيها شمال إفريقيا، والذي يقوم على عملية الفك والتركيب، لا يخرج عن شكلين من السيناريوهات. أولها : أفرقة السودان لإبعاده عن هويته العربية والإسلامية، والتأكيد بدلا عنها على الهوية والانتماء الإفريقي. ثانيهما : تفكيك السودان بالكامل وتكون البداية من الجنوب، ثم دارفور، ثم تشجيع أقاليم أخرى للمطالبة بنفس الشيء، وقد ظهرت بعض بوادر ذلك في الإقليم الشرقي المتاخم لإريتريا وإثيوبيا. بالطبع فإن النتيجة هي دول هشة يسهل على الولايات المتحدة السيطرة عليها، وما تبقى من السودان هو إقليم لا يملك مقومات الاستمرار.
إذا انتقلنا إلى الصومال، فإنا سنرى مشهدا مأساويا آخر لدولة عربية مسلمة تقطع إربا إربا أمام أنظار العالم أجمع دون أن يحرك ساكنا. لقد اتحدت على الصومال إستراتيجية "الفوضى البناءة" الأمريكية، و"شد الأطراف" اليهودية، وقد وصلنا الآن إلى مرحلة "التهام الأطراف"، ورئيس أكبر دولة عربية يقول إنه يتفهم أسباب دخول القوات الإثيوبية إلى الصومال، ولا أدري حقيقة ما الذي يتفهمه سيادة الرئيس.
لست بحاجة لأن أسهب في شرح أسباب ما يتعرض له الصومال حاليا، لأن نظرة خاطفة منك أيها القارئ إلى خريطة الصومال ستكشف لك أثر "عبقرية المكان" دونما عناء. إنه بشواطئه التي تمتد حوالي 3000 كيلو متر مربع، يتحكم بمفترق طرق التجارة الدولية. إنه من أكثر المناطق الإفريقية إستراتيجية، كونه يسيطر على مداخل ومخارج كل ناقلات النفط المتجولة بين آسيا، وإفريقيا، والشرق الأوسط، ويشرف كذلك على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، وهو المدخل إلى دول القرن الإفريقي، والتي تضم إضافة إليه كل من جيبوتي، والسودان، وإثيوبيا، وكينيا، وإريتريا.
لقد كان القرن الإفريقي أحد أهم مناطق الحرب الباردة قبل انهيار الإتحاد السوفييتي، وللسيطرة عليه كان لابد من السيطرة على أهم دوله وهي الصومال. وهذا ما يفسر لنا سر الحملات العسكرية المتواصلة عليه منذ عملية إعادة الأمل في ديسمبر 1992م، أي بعد سنتين فقط من انهيار الإتحاد السوفييتي، الذي كان يقف بالمرصاد ضد المحاولات الأمريكية للسيطرة على هذه المنطقة الحيوية، ولكن عندما انهار زال العائق، وأصبح الطريق مفتوحا أمامها للسيطرة عليه سواء باحتلاله مباشرة، أو عن طريق حكومة عملية.
لقد جن جنون السيد الأمريكي عندما دخلت قوات المحاكم الإسلامية مقديشو وأعادت الأمن والنظام إلى معظم الأراضي الصومالية، لأنه يعلم بأنها ستحرمه من الهيمنة على هذه المنطقة الإستراتيجية، فكان أن أطلق إثيوبيا، حبيسة الجغرافيا، والحالمة بمنافذ بحرية تطل منها على العالم الخارجي، لغزو الصومال والإطاحة بنظام المحاكم الإسلامية، لإعادة الحكومة الانتقالية العميلة إلى الحكم.
أعلم بأني قد أسهبت في شرح الحالة السودانية والصومالية، ولكني أعتقد بأن المقام يتطلب ذلك، فالكثير من العرب لا يعلم حقيقة ما يجري هناك، والمخطط أكبر بكثير مما يتصوره البعض، وما يتعرض له السودان والصومال حاليا ستتعرض له دول أخرى، كل حسب موقعه وأهميته، والأعذار والمبررات جاهزة، أو مُجهزة، والسيناريوهات تنتظر فقط يد المخرج الهوليوودي الأمريكي كي تخرجها من ظلام أدراج المكاتب إلى نور الواقع. لقد بدأت بهما لأنهما الأكثر أهمية بالنسبة لنا نحن العرب، وإلا فإن السيطرة عليهما جزء من مخطط يهدف إلى السيطرة على إفريقيا، وبالتالي العالم كله، عن طريق السيطرة على مقدراته.
لمدة طويلة من الزمن، أسقطت الولايات المتحدة أفريقيا من حساباتها الاقتصادية والسياسية، فتركتها للأوروبيين والصينيين يتنعمون بخيراتها بدون منغصات. ولكن حدث ما كانت تخشاه أوروبا والصين. لقد أفاقت أمريكا من سباتها، وأخذت تطالب بما تراه حقا لها، ولن ترضى بأقل من خيرات إفريقيا كاملة خالصة لها من دون العالمين، كونها القوة العظمى الوحيدة بدون منافس.
تسعى أمريكا جاهدة من أجل إعادة صياغة إفريقيا من جديد، بشكل يجعلها هي فقط المهيمن الأول على خيراتها ومناطق النفوذ فيها، بعد قرن كامل من تقاسم الأوروبيين لمناطق النفوذ والمواد الخام فيها، في وقت اكتفت فيه هي بعلاقات باردة مع أطرافها الشمالية. وتحقيقا لهذا الهدف، فإنه يتوجب عليها ليس فقط القضاء على النفوذ الأوروبي المهيمن على القارة فقط، بل عليها كذلك إبعاد الصين التي تغلغلت في الاقتصاد الإفريقي.
تستورد أمريكا حوالي 6% من احتياجاتها النفطية، وهذه النسبة سترتفع إلى 70% في غضون السنوات القليلة القادمة. لقد كانت تستورد 40% من حاجتها من منطقة الخليج العربي، و20% من إفريقيا. ولكن تشير الإحصائيات بأن هذه النسبة قد تتعادل في سنة 2010م، كما تؤكد الدراسات أن إفريقيا الغربية تحتوي على 40 مليار برميل من النفط، وهذا الرقم مرشح للارتفاع إلى الضعف.
ومع أن هذا الاحتياطي لا يقارن بالاحتياطي العربي، إلا أنه يبقى مغريا للولايات المتحدة. هذا النفط، مضافا إليه المحاولات الأمريكية الدءوبة للاستغناء أو التقليل من اعتمادها على النفط العربي، الذي لا تضمن واشنطن تدفقه الدائم إليها نظرا لاعتبارات سياسية كثيرة، يفسر لنا هذا الاهتمام المفاجئ من قبل الولايات المتحدة بهذه القارة.
ومن أجل إدخالها إلى بيت الطاعة الأمريكي، فقد سعت واشنطن جاهدة للسيطرة على المناطق الإستراتيجية فيها بالاحتلال المباشر لبعضها، وبإنشاء قواعد عسكرية دائمة في بعضها الآخر.
بلغ نصيب إفريقيا من الاستثمارات الصينية حوالي 14%، فقد استثمرت الشركات الصينية عشرات مليارات الدولارات في نيجيريا، والسودان، وأنغولا، لشراء حق استخراج النفط، إضافة إلى التوصل إلى العديد من اتفاقيات التنقيب مع الكونغو الديمقراطية، وأثيوبيا، كما وقعت اتفاقيات نفطية مع تشاد بعد أن طرد رئيسها شركة شيفرون الأمريكية.
إن للصين اليوم في إفريقيا أكثر من 150 مركزا تجاريا ومكتبا تمثيليا، وأكثر من مائتي شركة ومركز توزيع. وتقيم علاقات دبلوماسية وتجارية مع أكثر من 45 دولة إفريقية. وتوجت هذا النجاحات المبهرة في القارة السوداء بتوقيع اتفاقيات تجارية، بلغت قيمتها 40 مليار دولار خلال استضافتها للمنتدى التجاري الصيني الإفريقي في نوفمبر من العام الماضي.
ما كانت أمريكا لترى كل هذه المليارات تتطاير شمالا إلى أوروبا، وشرقا إلى الصين دون أن تحرك ساكنا. إنها حرب باردة أخرى من نوع جديد، تخوضها الأطراف المتحاربة كل حسب طريقته التي يراها مناسبة. الصين تحاول استمالة الدول الإفريقية عن طريق المعونات والقروض الميسرة، لإقامة تحالف اقتصادي سياسي قد ينشأ منه قطب عالمي جديد في المستقبل المنظور.
أما الطريقة الأمريكية فتعتمد على إخضاع الأنظمة الحاكمة في إفريقيا عن طريق اسطوانتها المشروخة التي تكررها في كل مكان ترغب التدخل فيه، من قبيل قضايا حقوق الإنسان، أو مكافحة الإرهاب، أو التهديد بالمحاكم الدولية لمن لم ينفذ أوامرها، أو التدخل العسكري المباشر بأي حجة كانت لاختصار الوقت.
أينما وجدت مكانا إستراتيجيا في القارة، فاعلم أن أمريكا موجودة هناك، وذلك للمزيد من السيطرة على دول القارة. فمثلا لها قاعدة متاخمة لمنطقة البحيرات العظمى ومنابع النيل في أوغندا، ولها وجود في الساحل الغربي لتأمين خط أنابيب تشاد ـ الكاميرون، كما أبرمت اتفاقا مع دولة ساوتومي، التي تقع جنوب شرق خليج غينيا الغني بالنفط، والذي يصدر يوميا حوالي 5.4 مليون برميل يوميا، لإنشاء قاعدة عسكرية هناك.
ليس هذا فحسب، بل تعتزم أيضا إنشاء قوات طوارئ إفريقية، يصل عددها إلى 40 ألف جندي، لتكون قادرة على التدخل في جميع مناطق النزاعات في القارة. كما تعتزم وزارة الدفاع الأمريكية إنشاء قيادة خاصة للقوات الأمريكية في إفريقيا، لتعزيز مواقعها في القارة، وتعمل حاليا على اختيار موقع مناسب في إفريقيا للتمركز فيه.
وقد كانت شؤون القارة في السابق، مقسمة بين القيادة الأمريكية الوسطى المتمركزة في قطر، المسئولة عن القرن الإفريقي، وبين القيادة الأمريكية في أوروبا المتمركزة في ألمانيا، المسئولة عن باقي القارة. ولا ننسى كذلك قاعدتها الإستراتيجية في جيبوتي، والتي تمنحها مزيدا من السيطرة على منطقة القرن الإفريقي وممرات ناقلات النفط.
ختاما، أعلم أن لا فائدة من بث الروح في كلمات ميتة، لذا فإني لن أتحدث عن دور العرب في التصدي لهذه المخططات الاستعمارية الجديدة. لأن كلمات تقال بهذا الصدد هي كلمات ميتة، فالدور العربي تشبه أوصافه أوصاف الماء، فهو عديم اللون والطعم والرائحة، ويزيد عليه بأنه عديم الفائدة.