الجامعة العربية: وقف القتال أم القتل / الدكتور ماهر الجعبري
يكاد المتابع للمؤتمر الصحفي الذي عُقد على إثر اجتماع المجلس الوزاري في جامعة الدول العربية يوم الأربعاء 31/12/2008 أن يشك في صحة سمعه وبصره، وهو يرى ويسمع قادة وزعماء تطالب بوقف "القتال"، فلا بد أن يشك أنه ربما قصد المؤتمرون وقف "القتل"، على أقل تقدير.
ولكنّه يدقق من جديد، فيتأكّد أن النظام العربي الرسمي مصرّ على أن يساوى بين الضحية والجاني، وهو مصر على أن يقف على مسافة متساوية من القاتل والمقتول، بعدما عجز أن يقترب أكثر من القاتل خوفا من مزيد من الاتهامات بالتواطؤ.
ليفني قالت في القاهرة قبل بدء "القتل المستحر"، في صلف وتحد من امرأة: "لقد طفح الكيل ... الوضع سوف يتغير". أما "الرجال" في الجامعة العربية فتقول في القاهرة بعد خمسة أيام من تواصل القتل المستمر: "وقف القتال". لم يجرؤ القادة أن يقولوا في نفس المكان: نفس العبارات: "لقد طفح الكيل ... الوضع سوف يتغير". لم يجرؤا حتى أن يقولوا أن "الخطاب" سوف يتغيّر. فتلك امرأة وهؤلاء "رجال" !
وكيف لهم ذلك وهم تعوّدوا أن يخطبوا ود هذا الكيان الغاصب؟ فهم كانوا قد أعلنوا مبادرة سلام عربية عام 2002، فرد عليهم شارون حينها بمجزرة جنين، ولم يجرؤا حينها حتى على أن يسحبوا مبادرتهم !
هذا النظام العربي الرسمي لم يسمع ذلك المغتصب الذي قابله مراسل الجزيرة في أول يوم من القصف على مشارف غزة، فخاطب أهل غزة ومن ورائهم المسلمين من عرب وعجم، في تحد صارخ، قائلا: "لا تلعبوا معنا". وها هو النظام العربي الرسمي يؤكد لذلك المغتصب أنّه لا يجرؤ على التفكير بأن يلعب معه لعبة القتال. فحق لذلك المغتصب أن يفخر بقادته، وحقيق على هذه الأمة أن تخجل من هذه القادة.
هذا النظام العربي الرسمي، لا يرى جثث الأطفال ولا يسمع صرخات الثكالى ولا تزعجه مشاهد سيل الدماء الزكية على أرض غزة، وهو يتمنّى أن تكون أرض غزة على غير هذه الأرض، وأن تكون لها سماء غير سماء هذه الأنظمة.
كيان الاحتلال يقصف بطائراته، قصفاً وحشياً وأهل غزة يقاومون العدوان بصدورهم، ويعانقون الصورايخ بأجسادهم. ويشاهد هذا النظام العربي الرسمي مئات الشهداء وألوف الجرحى، ومئات الألوف من الجوعى، ويعلم ويشاهد أيضا أن أطفال الكيان الغاصب يستمتعون بدفء المنازل ومذاق الحلوى، ومن ثم يصف الوضع بأنه "قتال" بين طرفين يجب أن يتوقف.
طائرات العدو تجوب أجواء غزة على تخوم مصر في أمن وسلام، دونما خشية من صاروخٍ يُسقطها أو طائرة تعترضها، بعدما نظّف النظام العربي الرسمي سماءه كما نظّف أرضه من كل صاروخ يمكن أن ينطلق باتجاه طائرات الاحتلال، فتروح وتغدو طائراته مسترخية، وهي تقصف البشر وتنسف الحجر، ثم يوصّف النظام العربي الرسمي هذا المشهد بأنه "قتال"!
لا شك أن هذا النظام العربي يقف موقف "المتفرج"، وهذا "المتفرج" قد تعلّم فنّ "الحياد" أمام المواجهة مع الأعداء، لأنه لا يستطيع ممارسة انحيازه "الطبيعي" للاحتلال، وهو اليوم مضطر إلى موقف "الحياد" لعلّ هذا الموقف يبطّئ من سرعة انهيار استقراره السياسي أمام غضبة الناس وافتضاح أمره، بعدما صار على المحك عندما انحاز للاحتلال ولراعي الاحتلال في أمريكا بما يكفي.
وبغض النظر عن الدقة اللغوية والسياسية في خطاب الجامعة العربية، فماذا تمخّض عن ذلك الاجتماع غير التوجّه لمجلس الأمن؟ وهل كان يرجى من النظام العربي أبعد من ذلك ؟ فهو الذي تخلّى عن مسؤوليته نحو القضية الفلسطينية منذ أن أعلن أن منظمة التحرير الفلسطينية هي "الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني"، فلا شأن له بغزة ولا بالضفة ولا حتى بفلسطين كلها. وما الفرق بين ما يطلبه هذا النظام (المنتسب للأمة) وما يطلبه أي نظام على وجه الأرض، إذا كان الأمر مجرد استجداء لمجلس الأمن أن ينعقد؟
تداعى الوزراء إلى مجلسهم في الجامعة العربية، بدل أن يتداعوا إلى غرف العلميات، ليحركوا جبهة المواجهة مع الاحتلال، تداعوا إلى اجتماعات "يفتشون" فيها عن الرد على مجزرة غزة، كأن الرد مجهول ! فهذه جامعة حملت دهرا ثم ولدت فأرا.
وهذا النظام العربي الرسمي قد شارك في حصار غزة، وهو يريد أهلها أمواتاً لا أحياءً، لأن حياتهم تذكّر هذا النظام بتقصيره وانحنائه أمام كيان الاحتلال، وتقض مضجعه. فلكم الله يا أطفال غزة ... ولكنّ الله يا نساء غزة ... ولكم الله يا أبطال غزة.
وهكذا في كل مرّة، يجتمعون، يأكلون ويشربون والناس جوعى في غزة، ثم يصدرون بيانهم يستعطفون مجلس الأمن أن "يسترهم" أمام شعوبهم فيوقف شلال الدم قبل أن يجتاحهم، فهؤلاء قادة تعلموا دعاء الستر: (اللهم استر)، ولم يتعلموا دعاء الحرب: (اللهم انصر). فلا يمكن أن نتوقع ردا من الجامعة العربية غير رد "الستر". وهل يمكن لعاقل أن يتوقع يوما أن تصدر الجامعة بيانا تقول فيه: "طفح الكيل ... إن لم توقفوا القتل، سنباشر القتال" ؟ إن مجرد التفكير بهذا الاحتمال هو سخف سياسي.
فمن يتحمّل مسؤولية فلسطين إذن ؟
إن رحم الأمة لن يعدم الرجال الرجال الذين يحملون الأرواح على الأكف، ويدركون الفرق بين الاستعلاء والاستجداء، ولا شك أن اشتعالهم يبدأ بشرارة، فهل يكون هذا العدوان الشرارة المشعلة، بعدما فشلت الشرارات السابقة في إشعالهم؟