هناك فكرتان جوهريتان ينطوي عليهما الدين، جلب المصلحة ودفع المفسدة، لكن الحديث عن ضابط هذه المسألة غير يسير لأننا سنذهب لنحتكم إلى الأفهام، والأفهام شديدة التفاوت. والفقهاء يقولون إن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وابن القيم يقول: (وقاعدة الشريعة والقدر تحصيل أعلى المصلحتين وإن فات أدناهما ودفع أعلى المفسدتين وإن وقع أدناهما)، غير أن عقول المسلمين مع شديد الأسف تقع في التخليط -إلا ما ندر- وهذا التخليط آفة خطيرة تعطل فكرة الدين وأثره وتنسفها نسفا، وهؤلاء الذين يضيّقون الفقه وسعته لا يفعلون هذا لأنهم يريدون الإساءة إليه قدر ما يفعلونه، لأن عقولهم وقعت في أسر التخليط، وهو تخليط فقهي وسلوكي. وعقل الإسلام هو نفسه المحتوى الذي يفهمه العقل المسلم من الإسلام، فهو بهذا لا يبلغ منزلة -المُقَدَّس المُنَزه المُسْتَعلي- ولذلك فإن التفاوت يقع فيه، واحتدامات النزاع اللاهبة تنتج عنه. الاختلاف يأتي من هذه البذرة الكامنة وهي حقيقة لا فكاك منها، إننا لا يمكن أن نساوي بين الدين والتدين، ولا بين الإسلام والعقل المسلم، والمساواة بينهما مساواة بين المنبع والمصب. إن هؤلاء الذين يساوون بين هذه المفاهيم هم الذين يعطلون معانيهما فتتحول قيمة المفهوم إلى عدم وفقد، أو إلى النقيض البائس المؤذي، وكل صراع مذهبي هو ناتج سُمِّي لتأليه العقل وتقديس الصور الظاهرة للتدين، إن لم تكن المخادعة أحيانا أو المضللة أو المتأولة، وقد ذكرت ذلك من قبل في أزمة الضمير مع نفسه وأزمة الأخلاق مع مرجعياتها ومنظوماتها الذهنية. هذه المنظومات الذهنية لا تتغذى -فقط- من نزاهة النص المُقدس المُستعلي على الهوى والنقص قدر ما تتغذى على أفكار نفسها -أحيانا- وهي لا تشعر ثم تقيم الفكرة النزيهة حاميا لتلك الأفكار.
كل التصورات والتعصبات المذهبية -حين لا تتعقل- تتحول إلى قيمٍ ومعانٍ فرعونية أكثر منها دينية منزهة عن الخطأ، وهي تقع في هذا المأزق الأخلاقي لأنها تقع في خلط الدين بالأغراض والأهواء والميول والطباع وضغوطات الواقع. ولأن كل قيمة دينية محضة لابد أن تستعلي على حظ النفس وتخلعها من «أناها» فإن القول بنزاهة الفكرة السياسية -مثلا- حين خلطها بقيمة الدين لا يعطيها نفس الحصانة. ونحن حين لا نفهم أن نزعة الدين نزعة أخلاقية وأنها ضدٌ للنزعة الفرعونية فإننا نقع في توهم أن النزعة الدينية عند الأشخاص تجعلهم أولى بإدارة الشأن العام من غيرهم، وهو أمر غير مقنع، وهناك فرق بين الفكرة التي يشتغل عليها العقل لـ (يُفَرْعِنَها) بمبرر ديني، والفكرة التي يتلقاها العقل من النص لتمنع هي استبداد الأفكار. هذه في الواقع أنزه فكرة أخلاقية يغذينا بها الدين: أن نعلم أن الأصل فينا النقص واحتمال الخطأ لكي لا تتحول عقولنا إلى عقول خارجية، وبالتالي فهذا نزع قوي لفتيل النزعة الفرعونية في عقولنا. ليس هناك حياد دائم في العقل، لا المسلم ولا غير المسلم، لكن الأخلاق تقول له: عليك أن تغذي هذا الحياد حتى لا يموت، وحتى لا يفنى، لكي يبقى له نفَسٌ ولو ضعيف. هذا الحياد الذي نظنه أحيانا معنى سلبيا هو الذي ينسف كل نَفَسٍ فرعوني عند الناس، إنها متتالية نفسية مهمة: النص الديني المقدس إذا تلقاه العقل الذي يفقه، يملأه بالنزعة الأخلاقية النزيهة التي تمنعه من المغالاة في فهم نفسه، فيكون محايدا، فلا يعطي رأيه أكبر من قيمته، فتنتفي بذلك أفكاره الفرعونية. إذا أعطى العقل نفسه الثقة المطلقة فإنه يكون قد وقع في السطوة المعنوية الفرعونية، وإذا دافع عن فكرته بثقة مطلقة فإنه يكون قد انتقل إلى تنزيه فكرته عن الخطأ، فإذا تحول إلى العنف والتصفية فإنه يتحول بهذا إلى ما يمكن تسميته (العقل الفرعوني الخارجي)، هناك سبب -كان يمكن تحاشيه- لكل هذا الطوفان الهادر في تاريخ الأفكار والقناعات، سبب صغير، هو أننا لم نشك في أفكارنا غير المسنودة بيقين يعطيها قيمته، هذا الشك إذا فُقِدَ، يكاد العقل أن يؤله نفسه فيفعل الأفاعيل والموبقات وهو يظن أنه يحسن صنعا. هكذا يُفَرْعِنُ العقل أفكاره فيتحول هو إلى عبدٍ لها دون أن يتحرز من نفسه.
هناك نزعتان خطيرتان تضل معهما الأفكار وتتفرعن: الظن والهوى، والقرآن الكريم يشير إليهما في قوله تعالى: «إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس». لكن لماذا يساق العقل بالظن والهوى؟ مع أن الظن مجرد فكرة والهوى أيضا مجرد فكرة، هذا العقل حين لا يناقش الأفكار يكون قد فرعنها بالضرورة، وهو لا يناقشها لأنه يقع في عمى شهوة أو عمى بصيرة، وفي الحالين لا يكون محايدا، فلا يكون سيد نفسه. إنه يعطل سطوته لصالح أغراض غير أخلاقية، الظن غير أخلاقي والهوى أيضا غير أخلاقي، ولا يمكن تفكيك بنية هاتين الفكرتين إلا بإيراد الشك والسؤال عليهما، وهو ما فعله ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- مع العقل الخارجي الأول، إنه استطاع كسر فرعنة أفكار مجموعة كبيرة من أولئك الناس وهو بهذا أعاد عقولهم إلى طبيعتها المحايدة، وموضع السؤال: لماذا استعصى الآخرون؟ هل لأن حيادهم قد فَنِيَ؟ إن ذلك الحياد يبقى مبررا كافيا لنفي الأفكار واستبدالها، وكل العصبيات تتغذى من نقيضه، والصراعات المذهبية أعتى مثال لموت الحياد حين لا تتعقل .
محمد العمري
نقلآ عن صحيفة الشرق