لما بعث عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) محمد بن مسلمة لإخراج اليهود من خيبر
وتيماء وجاءهم محمد بن مسلمة، وكان رئيسهم يومئذ ابن الحارث، قال لهم: «إن
أمير المؤمنين يأمركم أن ترحلوا من جزيرة العرب». قال ابن الحارث: «لقد
أقرنا رسولكم على البقاء في الأرض نزرعها على شطر ما تخرج». فقال محمد بن
مسلمة: «كان ذلك أول الإسلام، ولكنه أوصى قبل وفاته أن لا يبقى في جزيرة
العرب دينان». فلما رأى ابن الحارث أن لا مناص من ذلك قال: «لشد
ما تُهْتُم علينا أيها الناس، فوالله ليكونن لهذا اليوم الذي أذللتمونا
فيه وفضحتمونا وأجليتمونا عن أرض آبائنا يوم مثله يكون لنا عليكم».
فقد جاء في كتبنا أنه سيجيء يوم تدخل اليهود عل أبناء يعرب هؤلاء
فيذيقونهم بأساً شديداً وعذاباً أليماً حتى تكون اللقمة في يد المسلم قد
أدناها إلى فيه فإذا على رأسه رجال من أشداء يهوذا تنفره حتى يدعها لهم،
ولتدخلنّ نساؤنا على نسائكم حتى لا تبيت امرأة من نسائكم إلا باتت بشر
ليلة مما لاقت من نسائنا، ولنسوقنّكم كما سقتمونا حتى نجليكم عن ديار
آبائكم وأجدادكم، ولنفعلنَّ الأفاعيل حتى تكون لنا الكلمة العليا ونحن
يومئذ أحق بها، واللهِ ما نصبر على ما آذيتمونا إلا انتظاراً وألماً لما
يكون غداً كما قال لنا أنبياؤنا، وكأني أنظر إلى غد فأرى وجوه الأحباب من
بني إسرائيل قد سقطت عليكم من كل فج كأنهم جراد منشر تأكل يابسكم وطريكم،
ولا تدع لكم موطئ قدم إلا كان تحته مثل جمر النار، وإنكم لتقولون: إن الله
قد ضرب علينا الذلة والمسكنة وقد صدقتم اليوم - إذ أمر آمركم - لتعلمن
غداً أننا شعب الله الذي لا يرضى له بالذلة والمسكنة، فقد كنا ملوك الأرض
فدالت دولتنا كما دالت قبلها دول. ولكن الله بالغ أمره، ويوم تدولون كما
دلنا ويعود الأمر إلينا، فنحن قوم أولو بأس شديد، ونحن أهل الكتاب الأول،
ونحن أتباع الحق، فإذا جاء ذلك اليوم - يا أبا عبد الرحمن - فستعلمون أينا
أشد بأساً وأشد تنكيلاً. فوالله لنتخذنّكم لنا أعواناً على أنفسكم،
ولنضربنّ غاديكم برائحكم ومقبلكم بمدبركم، ولنوقعنّ الفتنة بينكم حتى يصبح
الرجل منكم مؤمناً ويمسي كافراً، وليكوننّ لنا من أنفسكم رجال يخربون
بيوتهم وبيوت آبائهم وهم راضون ولنا مطيعون.
قال أبو عبد الرحمن -محمد بن مسلمة-: فسمعت الرجل يقول قولاً كبيراً فقلت:
«لئن صدق أنبياؤكم فكان ذلك فما صدقوا إلا ليصدقوا رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) في خبره فأنتم اليوم أشتاتٌ مبعثرون في جنبات الأرض،
وليزيدنّكم ربكم فرقة وشتاتاً، فإذا جاء ذلك اليوم فدخلتم علينا وعلا
أمركم من حيث يشاء الله فينا فلكي تتم عليكم كلمة الله، وليعذبكم ويستأصل
شأفتكم من أرضه، ولتكونوا عبرة للمعتبرين من أمثالكم، فقد قال الصادق
المصدوق عليه الصلاة والسلام: «تقاتلكم اليهود فتسلطون عليهم حتى يقول الحجر يا مسلم هذا يهودي ورائي تعال فاقتله».
فوالله ليكوننّ ذلك كما أراد الله، ويومئذ يعض طغاتكم وطواغيتكم أطراف
البنان من الندم، فالعرب يا ابن الحارث لا ينام ثائرها ولا يخطم أنفها
بخطام».
فقال ابن عمر (رضي الله عنهما): قلت يا أبا عبد الرحمن وإن ذلك كائن؟
قال: يا بني، ما علمي بالغيب؟ ولكنه إذا جاء فليقضين الله بيننا قضاء
ويكون يومئذ فناؤهم على أيدينا، فأمر المسلمين إلى ظهور وأمر يهوذا إلى
حكم الله الذي ضربه الله عليهم بالذلة والمسكنة إلا بحبل من الله وحبل من
الناس، والله يحكم لا معقب لحكمه.