بقلم: محمد بن المنتصر
"إنها ليست حرب ضد الإرهاب، ولا هي حرب ضد أسلحة الدمار "الشامل، بل من المنطقي أن نسميها حرب البترول " Oil War" إنها غزو عسكري لضمان الموارد العراقية النفطية الكبيرة وتأمينها للشركات النفطية الأمريكية". شارلز لوفنسكي
الحلقة الثانية
بوش وصياغة السياسة الخارجية الأمريكية
طبعا كان صعود بوش إلى سدة الحكم بقرار المحكمة العليا يعكس في حد ذاته أزمة الديمقراطية الأمريكية تلك التي تأسست في بداية الموجة الثانية إذا استعملنا تقسيم التوفلريان للتاريخ الحضاري.
لم يكن بوش شخصية لها ثقل كبير في الميزان السياسي، غير أن تركيبة الحزب الجمهوري التي أفرزت هذا المرشح كانت تعكس إلى حد بعيد فقدان الطابع الجمهوري الذي يعكسه الاسم إلى طابع عشائري قائم على عائلات قوية من بينها عائلات التكساس، الولاية الفقيرة قبل اكتشاف البترول والتي تحولت إلى مركز نفوذ كبير جدا.. لا أحد في امريكا مقتنع أن مواصفات الرئيس الجديد تؤهله إلى أن يحكم أمريكا.. بيد أن إرادة القوى المتنفذة في السياسة الأمريكية أرادت أمرا آخر..
ويتذكر الأمريكيين إجابة بوش في لقاء تلفزيوني شهير قبل الانتخابات عن رأيه في برويز مشرف فتلعثم وهربت الكلمات من رأسه واعترف انه لا يدري من هو مشرف، الحاكم العسكري في باكستان، رغم أن باكستان كانت ولا تزال أحد الحلفاء الاستراتيجيين للولايات المتحدة الأمريكية..
وتحركت الدعاية الأمريكية الموالية للجمهوريين في الداخل للتأكيد على أن بوش الابن سيركز على الهم الوطني ولن يهتم بالشؤون الدولية.. لكن رموز الحكومة الأمريكية التي كونها بينت أن هناك كثيرا من صقور الحرب الذين تم إحاطتهم به، وأن القوى التي نصبت الرئيس الجديد في أمريكا تبحث عن أمر ما.. وكانت أحداث 11 سبتمبر ذريعة كافية للخروج من قوقعة الهم المحلي إلى الهم الدولي في صورة حرب الإرهاب الإسلامي، الذي يشكل خطرا على المدنية الغربية!!.. والعودة إلى صياغة هتنتونغ وبريجنسكي في صورة صدام الحضارات..
لقد برز العامل السياسي الاستراتيجي العام ولكنه من جهة أخرى طفت إلى السطح خلافات النخب الأمريكية، عندما بدأت الأهداف الاستراتيجية تبرز بشكل أوضح وذلك باستهداف العراق ومنابع النفط بدلا من مطاردة فلول القاعدة وتحولت إلى معركة فئوية شرسة بين دعاة الحرب ورافضي الحرب..
هذه الانقسام وحده كاف للدلالة على أن الأهداف ليست استراتيجية لخدمة الشعب الأمريكي ولكنها استراتيجية لخدمة هؤلاء الذين يقفون وراء الرئيس الأمريكي الجديد..
وفهم الجميع في وقت مبكر أن بوش له برنامج واحد: الحرب.
ودخل المرشح السابق للرئاسيات الأمريكية الديمقراطي آل غور ليظم صوته إلى أصوات المعارضين لهذا الانزلاق غير المحسوب العوائق.. ولأول مرة تصبح أوزان ثقيلة في المجتمع السياسي الأمريكي تعارض بشكل مباشر السياسة الرسمية الحكومية..
والإجماع الذي تحقق بعد 11 سبتمبر تم تقويضه بسبب هذا التمدد في المواقف التي ستؤدي إلى تنامي الكراهية إلى الشعب الأمريكي.. فقد خرج آل غور عن صمته بشأن موضوع العراق باتهام بوش بتبديد نوايا العالم الحسنة تجاه أمريكا!! وقال إن الحرب ضد صدام حسين سوف تحط من قدر السعي الأمريكي لتعقب هؤلاء الذين قتلوا أكثر من 3000 أمريكي في 11 سبتمبر 2001.
وتشابهت تصريحات جور مع تصريحات جنرالات أمريكيين أدلوا بشهادتهم أمام لجنة من مجلس الشيوخ الأمريكي في إطار استعداد الكونجرس لإصدار قرار يخول مهاجمة العراق. بل ذهب آل غور إلى اتهام بوش الابن بمحاولة تغيير القانون الدولي بمفهوم جديد هو أنه ليس ثمة قانون إلا ما يراه رئيس الولايات المتحدة مناسبا. وقال:"لا أعتقد أننا يجب أن نسمح لأي شيء بأن يقلل من تركيزنا على ضرورة القصاص لـ 3000 أمريكي قتلوا، وتفكيك شبكة الإرهابيين الذين نعلم أنهم كانوا مسؤولين عن قتلهم." ثم أردف قائلا:" حقيقة أننا لا نعلم مكانهم، لا يجب أن تجعلنا نوجه اهتمامنا بدلا من ذلك إلى عدو آخر من السهل تحديد موقعه.. الأمم العظيمة تثابر ثم تنتظر، ولا تقفز من مهمة غير مكتملة إلى أخرى". كانت الكلمة التي ألقها آل غور في كاليفورنيا عن العراق، ضربة سياسية تحمل مخاطرة كبيرة وهي مخاطرة من النوع الذي يحتاجه المرشح إذا أراد أن يستمع إليه الناس باهتمام للمرة الثانية على التوالي بعد هزيمته قبل سنتين بقرار من المحكمة العليا.
وهناك عامل جد خطير يعمل لغير صالح الدولة العظمى وهو الانتحار الضمني والدور شبه المفجّر والذي تمثله حكومة شارون الحالية وسياساتها المتخبطة، والتي تجد نفسها محاصرة لا تملك سوى خيارات محدودة جدا، مما يجعلها أكبر المتحمسين لبداية حرب أوسع من دائرة أفغانستان وتنظيم القاعدة.. لأن السياسة الحالية في إسرائيل تريد أن تتغذى من وضع دولي يتجاوز العمليات المحدودة والمشتتة للقاعدة والتي لا تعطي المبرر الكافي للمجتمع الدولي لإعادة ترتيب أوراق المنطقة في الشرق الأوسط بما يحفظ مكانة الكيان الصهيوني.
وعلينا أن لا ننسى أن المجتمع السياسي الصهيوني يعاني أيضا من حالة انقسام، لأن معارضة شارون لاتفاقات أوسلو عندما كان خارج السلطة غذت بشكل مباشر اغتيال رابين أحد مهندسي الاتفاقات ورئيس الوزراء السابق في الكيان الغاصب.
صراع الحضارات أم صراع المصالح
يمكن المجازفة بالقول أن إدارة الرئيس الأمريكي اختارت الوصفة السحرية التي أبدعها هتنتونغ لأن سيناريو صراع الحضارات كما طرح منذ مطلع التسعينات بقي مجمدا في ثلاجة البيت الأبيض بعد صعود الديمقراطيين.. وهذا السيناريو المعروف لدى العديد من المسؤولين الأوروبيين البارزين كان حبكة أكاديمية ذكية صنعها كل من مستشار الأمن القومي السابق بريجنسكي وصديقه الوفي صموئيل هتنتونغ لإعطاء السياق التاريخي لحرب مرتبة في أروقة البنتاغون.
والواقع أن هذه العقيدة ذات الطابع الأخلاقي كانت تحظى بشعبية كبيرة لدى الدوائر المالية الأمريكية القوية وأعضاء من كتلتي الحزبين وداخل جزء هامّ من المكاتب الرئيسية في إدارة بوش بنفسه. وليس خافيا على متابع السياسة الأمريكية الدور البارز الذي لعبه كل من ريتشارد بيرل وولفويز اللذان يرمزان لحالة مثالية من كبار المسؤولين الذين يترصدون داخل المواقع الرسمية من أجل توجيه السياسة العامة وجهة غير تلك التي يقرها الشعب الأمريكي.
واللعبة الإسرائيلية داخل الكيان السياسي الأمريكي لا تحتاج إلى تذكير ولذلك اجتمعت هذه العوامل لكي تعطي دفع لأصحاب المصالح الواسعة والتي لا تقف عند حدود كي تصنع لنا وضع الحرب العالمية من نوع جديد ولحسابات ضيقة بعيدة عن أفق التسامح والتسامي..
وهذا السيناريو الذي سبق غزو العراق، يخفي وراءه خدعة سينمائية مغلفة ببعد فكري وقالب معرفي لخدمة مصالح الفئات النافذة على طريقة الفيلم الرائع الشهير بعنوان "لعب الكلب" بطولة روبرت دينيرو ودوستن هوفمان والذي نال عدة جوائز.
الفيلم يحكي قصة رئيس الولايات المتحدة الذي يريد تجديد عهدته الرئاسية ولكنه محاصر بفضائح تزكم الأنوف فيستعين بصديقه رجل المخابرات السابق دينيرو، الذي تتفتق ذهنيته العابثة عبث السياسة الأمريكية، عن خطة جهنمية بإعلان الحرب في ألبانيا.. ولكن هذه الخطة تنقصها الموارد المالية وعدم موافقة قادة الجيش.. فوجد نفسه مضطرا إلى الاستعانة بمخرج من هوليودي مشهور (دوستن هوفمان) من أجل إعداد مشهد لبضعة ثواني فقط تظهر فيه فتاة شقراء تشبه بنات ألبانيا المسلمة وهي تدور وتصرخ داخل الأستوديو المطلي باللون الأزرق.. وعن طريق الكمبيوتر والمكساج يتحول المشهد إلى حرب كاملة وفتاة مسكينة تصرخ من شدة أهوال المدافع والصواريخ.. ثم يتجند الفنانون ورجال الإعلام وأهل الرأي والسياسة للحديث عن أوهام صنعها رجل المخابرات، ومعه رجل الإعلام.
والذين شاهدوا الفيلم قبل سنوات يكبرون لغته التوقعية السابقة لأوانها وكأنه اليوم يملي على آل جور ما يقوله في حملته السياسية التي تكثفت هذه الأيام..