العصبية في التاريخ القديم
إعلم أن العصبية كانت عاملاَ
مؤثراً في التاريخ منذ بدايات التاريخ البشري. و انطبقت قواعد التاريخ على التاريخ
القديم تماماً كما تنطبق اليوم على زماننا. و الأمثلة على الحرب الأهلية و الحكم
الاستبدادي كثيرةٌ، على أننا قَلما نجد مثالاً على الحرب المدمرة.
و تعتبر الحرب الفينيقية الثانية بين قرطاجة و روما أحد
أوضح الأمثلة في التاريخ القديم على نظرية الحرب المدمرة. إذ كانت قرطاجة و روما
في الجيل الثالث، أي في أوج ترفهما و فسقهما و ثرائهما. لكنّ أحداً منهم لم يكن
مستعداً للموت في سبيل وطنه. و كانت قرطاجة أشد غنىً و ترفاً لسيطرتهم على التجارة
البحرية في العالم آنذاك. فاعتمد قائد الجيش القرطاجي (هاني بعل) على المرتزقة. فعبر جبال
الألب و معه الفيلة ثم انتصر على الروم في معارك حاسمة، ثم فرضَ إسطول قرطاجة حصاراً بحرياً محكماً على روما وعزلها عن العالم الخارجي. فعيّن الرومان ديكتاتورا بدلاً من الحكم الديمقراطي
الضعيف الذي كان سائداً من قبل. و مع ذلك انتصر هاني بعل في معركة كانا الفاصلة. و لمّا طلب الإمدادات من وطنه قرطاجة ليغزو روما و يحسم
الحرب، بخِل تجّار قرطاجة بدفع المال له، و لم يكن لدى
هاني بعل المال الكافي ليدفع إلى المرتزقة.
و خلال تلك الفترة فإن الرومان، و من خلال عزلتهم عن العالم و الفاقة التي أصابتهم، و الهزائم المتوالية التي مني
بها جيشهم، و المدن الكثيرة التي خسروها، فإنّ هذا شكّل الظروف المثالية التي
أجبرت الناس على العودة إلى حال الجيش الأول من بذل النفس و المال في سبيل
الجماعة، و في العيش على الشظف القليل. و لذلك كانت قوّة روما تزداد تدريجيّاً.
ثمّ بدأت المدن الإيطالية تدريجيّاً تسقط أمام الرومان، حتّى إذا اكتملت الـ13 سنة
سقطت إسبانيا. و أخيراً غزا الرومان قرطاجة نفسها، و أُجْبِرَ الرومان القرطاجيين على توقيع معاهدة سلام
مُهينة.
لم يفقد هاني بعل أيّ معارك رئيسيّة في إيطاليا، و قد قتـَّلَ على الأقلّ 100،000 جنديّ رومانيّ في خمسة عشر
سنة، و دمّر الرّيف الإيطاليّ و 400 مدينة في إيطاليا الجنوبيّة وحدها. و مع ذلك
فشل أن يفوز بالحرب رغم عبقريّته العسكريّة و استخدامه للأسلحة المتطورة
(كالفيلة). لماذا؟ السبب أنّ أعظم ما يكون البخل
في الناس هو في الجيل الثالث، رغم كثرة ثرواتهم. و بالتالي فإن رفض مجلس الشيوخ قرطاجة
أن يمدّ هاني بعل بالإمدادات الكافية (سواءً بالنفوس أو الأموال) سبب كافٍ
للهزيمة. من النّاحية الأخرى، أصبحت روما أثناء 13 سنة، أمّة قويّة جدًّا.
إننا نلحظ بوضوح هنا الفرق بين
الحكم الديمقراطي و الاستبدادي. فقرطاجة كانت أكثر ديمقراطيّةً من روما، بل كان
الفينيقيون أشد الشعوب القديمة ديمقراطيّةً. و كان لدى هاني بعل المساندة
الشّعبيّة في قرطاجة نفسها و في كثيرٍ من المدن الإيطاليّة، مع إقرار المؤرخين
كلهم بأنه كان أكثر رحمةً من الروم. و بالرّغم من أنّ هاميلقار و ابنه هاني بعل
كانا قادرين أن يسيطرا على قرطاجة و ثمّ الحصول على قوّةٍ كافيةٍ للفوز بالحرب،
فلم يفكّر أحدٌ منهما بعمل ذلك لشدة تقديسهم للديمقراطية. و لذلك فإن الديمقراطية
تكون قوّةً للأمة في أوّلها لما يشترك الناس به من المجد على قوتهم و شجاعتهم. أما
في آخر عهد الأمّة فإن العصبيّة تضعف و النفوس تجبن و تخور، فتكون الديمقراطية
وبالاً على الأمّة لما تسبّبه من فوضى و ضعف و قلّة حزم.
على أيّةِ حال فبعد هزيمة قرطاجة، صار الغرب –للمرّة الأولى في التاريخ– هو القوّة المسيطرة على البحر
المتوسط و أغلب العالم القديم، و ذلك لوقت طويل حتى جاء العرب المسلمون فانقلب الأمر
إليهم من جديد. و الله يفعل ما يشاء، إنه عليمٌ خبير.