تحلل اجتماعي .. فساد .. تعدد ثقافات .. بناء قواعد عسكرية علي أراضي دول أخري
والاعتقاد بأن هناك مهمة ورسالة يجب عليها أن تبشر بها وتنشرها في
العالم، هي كلها مظاهر تجمع بين الامبراطورية الأمريكية وبين
الامبراطورية الرومانية القديمة التي هيمنت علي العالم لما يقرب من ثمانية
قرون.
محيط - ترجمة : حنان سليمانفي هذا الكتاب "هل نحن روما؟ قصة سقوط امبراطورية ومصير أمريكا" الذي صدر في شهر يونيو الماضي
(2007)، يعرض الكاتب الصحفي الأمريكي كالن ميرفي في مجلة "فانيتي فير"
الأمريكية موضوعا مثيرا للغاية اذ يتعرض لعوامل تحلل وسقوط الامبراطورية
الرومانية القديمة ويعقد مقارنات عدة بينها وبين الامبراطورية الأمريكية
ليطرح تساؤلا هاما في 272 صفحة هي عدد صفحات الكتاب وهو: هل تسقط أمريكا
مثلما سقطت روما؟
يقول المؤلف في أحد اللقاءات الثقافية التي أعدت
للترويج لكتابه ان هناك انطباع عام بأن أمريكا أصبحت امبراطورية تشترك في
كثير من الخصائص مع الامبراطورية الرومانية لكن لا يوجد اجماع أمريكي في
الموقف العام من ذلك. فهناك فريق في مقدمته الرئيس الأمريكي جورج بوش
والمحافظين الجدد يرى أن الوقت قد حان لكي يكون العالم كله أمريكيا علي طريقة
Pax Americana. هذا الفريق الذي تندرج تحته الادارة الأمريكية الحالية كما
يوضح المؤلف يرغب في فرض املاءاته علي العالم بالطرق التي يريدها.
أما
الفريق الآخر فهو علي النقيض تماما اذ يدعم سياسة خارجية متواضعة.
امبراطورية روما ونظيرتها
الأمريكية
بداية .. فان ميرفي يوضح في مقدمة كتابه أن هناك
بعدين للتشابه بين الامبراطوريتين مؤكدا أن النقاش والمقارنة مع الامبراطورية
الرومانية كان موجودا في المجتمع الأمريكي منذ وقت طويل ، البعد الأول في
أوجه التشابه هو بعد تاريخي، فالامبراطورية الرومانية كانت ملكية في البداية
ثم تطورت عبر الزمن الي جمهورية أما أمريكا فهي جمهورية انبثقت عن الملكية
البريطانية. ويلفت المؤلف إلى الطراز المعماري للعاصمة الأمريكية واشنطن اذ
أنه يمثل طرازا معماريا رومانيا خالصا ، أما البعد الثاني وهو بعد حديث يدور
حول نشر جيش كلا الامبراطوريتين في أنحاء مختلفة من العالم.
وبعد
انهيار الاتحاد السوفيتي وبروز الولايات المتحدة في العالم باعتبارها القوى
العظمي الوحيدة المهيمنة، ظهر النقاش والجدال حول تشابه روما وأمريكا من
جديد.
يعدد المؤلف أوجه التشابه بين روما وأمريكا فكلاهما يعاني مما
وصفه ب"التعفن الاجتماعي" وغياب الفضائل والأخلاق العامة في المجتمع الذي
يعاني من التفرقة وعدم المساواة بين مواطنيه واتساع الفجوة بين الطبقات
الاجتماعية فتجد الطبقة المتخمة وطبقة تعاني الفاقة الشديدة والعوذ ، وفي
روما كانت نسبة طبقة الصفوة للطبقة العادية خمسة آلاف إلى واحد ، بينما في
أمريكا فإن الدخل المتوسط لأي مدير تنفيذي هو أربعمائة أضعاف دخل العامل
العادي!.
الفساد استشرى ، وفق مؤلف الكتاب ، بمؤسسات كلا
الإمبراطوريتين ، والتي تم إضعافها بأشكال متعددة من الخصخصة ، فتجد أن
المهام الحكومية توكل لشركات خاصة ، وتشترك الإمبراطوريتان في القدرة
العسكرية والثقافية والاقتصادية والتكنولوجية الكبيرة التي خلقت نظاما يجبر
العالم على السير بركبه.
من جهة أخرى كلا الإمبراطوريتين ترحبان
بالمواطنين الجدد والمهاجرين من العالم ، وتبدي استعدادا لتقبل الآخر المختلف
وحتى الدين المختلف .
كلا الامبراطوريتين أيضا آمن من يقودهما بوجود
رسالة معينة علي بلاده أن تبشر بها وتوصلها للعالم ، وفي هذا السياق فان قيصر
روما وجورج بوش الابن عملا علي نشر قواتهما العسكرية في دول مختلفة لتكمل هذه
"الرسالة" وكأن بوش والقيصر رسل لا يكتفون بالبلاغ وانما يجبرون الناس علي
الطاعة والامتثال لما يريانه صائبا.
وبالطبع فإنهما أثناء ممارسة هذا
الدور "الملائكي" لا يحملان للمجتمعات المستهدفة سوي نظرات الدونية التي تحط
وتقلل من شأن ثقافاتهم وعقائدهم فالعالم بالنسبة لهم لا يضم سواهم ولا يهم أي
رأي آخر، بحسب مؤلف الكتاب.
الخصخصة
والفساد
تنبأ المؤلف بسقوط الإمبراطورية الأمريكية ، حيث أشار
لخصخصة المؤسسات الحكومية عن طريق تكليف أفراد وشركات تجارية بتنفيذ المهام
الحكومية باعتبارها مؤشرا مشتركا يعيد للأذهان التجربة الرومانية وينبئ بسقوط
أمريكا ، حيث أظهرت دراسة أجريت بأواخر التسعينات لتضاعف تحول الوظائف
الحكومية لخاصة ، حيث يقدر عدد الأفراد العاملين بالقطاع الخاص مع أدائهم
مهاما حكومية فيدرالية بنحو 8,5 مليون شخص.
لم تكن الخصخصة شيئا جديدا
يطرأ علي المجتمع الأمريكي بل كان نية مبيتة له ؛ ففي الثمانينيات، شكل
الرئيس رونالد ريجان لجنة رئاسية مهمتها الغاء الحدود بين الوظائف العامة
والوظائف الخاصة ومنح القطاع الخاص كافة أشكال الدعم وهي نفس الرؤية التي
حملتها ادارة بيل كلينتون في التسعينيات. وهكذا أصبح المواطن الأمريكي مضطرا
لدفع مقابل مادي لخدمات كثيرة كان يحصل عليها بالمجان في الماضي مثل احصائيات
مكتب الاحصاء الأمريكي الذي كان يقدم خدماته للجميع بدون أي مقابل لكن
معلوماته الآن أصبح ثمنها مرتفع بحيث لا تستطيع سوى الشركات الكبيرة
دفعه.
ومن أمثلة الوظائف الحكومية التي تمت خصخصتها، الاشراف علي بنية
الطرق السريعة والتفتيش الغذائي ومراقبة وتأمين الحدود وحتي حماية النفايات
النووية.
ويقول المؤلف ان هؤلاء الموظفين الذين يؤدون هذه الأعمال
تنقصهم الخبرة كما أنهم غير أكفاء فلا يوجد ما يشغل بالهم سوى كيفية زيادة
أجورهم دون أي اعتبار للمصلحة العامة ، ويضرب مثالا على ذلك بفشل الهيئة
الفيدرالية لادارة الطوارئ -التي يعمل بها أشخاص تم تعيينهم وفقا للانتماءات
السياسية رغم عدم خبرتهم- في الاستجابة السريعة لاعصار كاترينا فكانت النتيجة
كارثية.
وأشار الكاتب لكتاب آخر نشر عام 1976 بعنوان "حكومة الظل" حذر
فيه المؤلفان دانييل جاتمان وباري ويلنر من انتقال الوظائف الحكومية
للمستشارين التجاريين ومراكز الأبحاث السرية التي لا يحاسبها أحد لتتحول بذلك
قطاعات حكومية كاملة الي تجارة .
المرتزقة .. جيش مأجور
خدم أمريكا وروما
محور آخر يتضمنه هذا الكتاب المثير وهو محور
طالما تحدث فيه الاعلام وهو جيش المرتزقة الذي جمعته الولايات المتحدة من
شركات عسكرية خاصة ليحارب معها في
العراق.
ونظرا
للرؤية المختلفة التي تنظر بها قيادة الامبراطوريتين للجيش باعتباره
أداتها لاكمال نشر أفكارهما في العالم، فانهما كانا في حاجة الي جنود
مأجورين يقاتلوا جنبا الي جنب مع الجيش الأصلي الذي لا يتناسب حجمه مع
المهام المطلوبة منه. ويشبه المؤلف هذا الدور بالدور الذي لعبه
المقاولون والتجار في عهد قيصر روما حيث دأبوا علي مرافقة القادة
العسكريين في الحروب وامداد الجيش بما يحتاجه والقيام بأي خدمات أخري
مقابل أجر كبير يتناسب مع قدر المخاطرة التي يتحملونها.
يقول المؤلف "في عام 1960 كان
عدد ضباط الشرطة يزيد بكثير عن حراس الأمن المأجورين أما الآن فقد أصبح عدد
الحراس المأجورين ضعف عدد ضباط الشرطة بعدما أصبح قطاع الأمن الخاص قطاعا
رائجا ينمو بسرعة كبيرة في المجتمع الأمريكي.
حتي أكثر وأخطر المهام
السرية المرتبطة بالمخابرات الأمريكية من أعمال ترجمة ومراقبة اليكترونية
وتحقيقات وتحليلات وتقارير وملخصات توكل الي شركات خاصة هادفة للربح. ويذكر
المؤلف أن هناك ما لا يقل عن 90 مسئولا سابقا في وزارة الأمن الداخلي وفي
مكتب الأمن الداخلي في البيت الأبيض يعملون حاليا في شركات
خاصة.
وينقل المؤلف عن أحد المحللين بجامعة جونز هوبكنز قوله ان حجم
المقاولين زاد بشكل يصعب معه الادعاء بأن الحكومة لها أي سيطرة عليهم. ويدلل
ميرفي علي هذا التحليل بقوله انه لو كانت الادارة الأمريكية لها أي سيطرة علي
هذه الشركات الخاصة التي توكل اليها أعمالا كبيرة وهامة ليس علي الأراضي
الأمريكية فحسب بل في العالم كله، لما كان الفساد سيستشري بهذه الصورة في
عمليات اعادة اعمار العراق التي شاركت فيها شركتي بيكتل وهاليبرتون؛ فالشركات
الخاصة معفاة من كثير من القوانين التي تلزم الشركات الحكومية وعلي هذا
الأساس لم تمنع العقوبات الأمريكية الرسمية علي ايران وليبيا والعراق ( قبل
الحرب) شركة هاليبرتون من القيام بعمليات تجارية عبر شركات تابعة لها مع هذه
الدول الثلاث المغضوب عليها.
الحدود والموانئ والجامعات
.. ادارات تجارية
وينتقد ميرفي تفكير الادارة الأمريكية في
اعفاء شرطة حرس الحدود من مهمتها واستبدالها بمقاولين متعددي
الجنسيات.
فقد ظل الأمريكيون منشغلين وغافلين عن خصخصة الوظائف
الحكومية الا انهم سرعان ما هبوا لوقف صفقة كانت ستتولي بموجبها شركة "دي.بي
وورلد" الاماراتية ادارة نصف كبري الموانئ الأمريكية. هذه الهبة كشفت لهم
أنهم كانوا في سبات عميق .. غافلين عن خصخصة عمليات الاشراف ومراقبة الموانئ
التي بدأت منذ ثلاث عقود حتي بات الآن حوالي 80% من الموانئ الأمريكية تحت
ادارة شركات أجنبية وعلي رأسها الشركات الصينية.
لم تسلم أي من أنظمة
المياه والمجاري ولا المطارات أو المستشفيات العامة من سرطان خصخصة الوظائف
الحكومية. حتي الجامعات الحكومية التي يفترض أن تدعمها الحكومة -كل حسب
ولايته- تدهورت حالها وسحبت الجامعات الخاصة البساط منها لتتاجر في العملية
التعليمية.
الطريف في الأمر أن وزارة الداخلية الأمريكية اقترحت فتح الباب
أمام بيع أسامي المتنزهات العامة الأمريكية لمن يريد أن يستفيد من شهرتها وفي
نفس الوقت من يدفع أكثر وكأنها بلد يعرض كل ممتلكاته في مزاد علني أو بلد
يبيع نفسه.
ديموقراطية روما .. رشاوي ونفوذ
ومصالح
علي
الجانب الآخر تقف هناك بعض الاختلافات بين الامبراطوريتين وهي الأمل
الذي يعيش عليه بعض الأمريكيين ليدفعوا ببطلان النهاية الأليمة
المتوقعة لامبراطوريتهم بناءا علي أوجه التشابه الكثيرة -والتي تفوق
الاختلافات- بينها وبين نظيرتها الرومانية. من هذه الاختلافات نذكر أن
الامبراطورية الرومانية لم تكن لديها طبقة وسطي في المجتمع التي تعتبر
أساس المجتمع الأمريكي ، كما لم تنتج روما أفكارا وعلوما للعالم بالقدر
الذي أنتجته أمريكا وأصبحت بناءا عليه قبلة للعلوم والتكنولوجيا
والإبداع
، ومن ضمن الاختلافات أنه من
الناحية الاقتصادية كان اقتصاد روما ثابتا ومستقرا بينما الاقتصاد الأمريكي
يتمتع بالحيوية والديناميكية.
روما قبل أن تصبح امبراطورية كانت دولة
لآلاف من السنين بينما أمريكا قضت 200 عاما فقط قبل أن تتحول لإمبراطورية
عظمي.
علي مستوي الادارة والحكم، لم تكن الامبراطورية الرومانية
امبراطورية ديمقراطية مثل أمريكا وان كانت قد اتبعت أمثلة متواضعة
للديمقراطية، وكانت عاصمة الامبراطورية مكمن السلطة والنفوذ واعتمدت جميع
المدن والأحياء علي سلطة ومواهب الطبقة العليا.
ومنذ حوالي 50 عاما،
أجري المؤرخ البريطاني جيفري كروا من جامعة أوكسفورد بحثا متعمقا في كلمة
"سفراجيام" اللاتينية والتي تعني صندوق التصويت ليؤرخ للحياة السياسية
والنظام السياسي في امبراطورية الرومان ، ووفق هذا المعنى فان المواطنين في
البداية كان لديهم الحق في ممارسة نفوذهم وتأثيرهم للتحكم في اختيار المرشحين
لبعض السلطات ، وبالطبع كان لكبار رجال روما شبكات نفوذ واسعة مكنتهم من
تحقيق اراداتهم ، لكن "سفراجيام" لم تكن تطبق علي نطاق التصويت فقط بل أيضا
للحصول علي وظيفة أو للتأثير علي حكم قضائي، فكان يعد من قبيل التفاعل
الاجتماعي الروتيني.
ثم تطور الأمر ودخلت الرشاوي والعمولات في اللعبة
حتي أنه مع انهيار الامبراطورية الرومانية لم يكن هناك أي عمل يتم بدون دفع
رشاوى مالية وكان كل هدف الرومان العاملين في الوظائف الحكومية هو تحقيق أكبر
مكاسب ممكنة وعرفت "سفراجيام" صراحة بعد ذلك بأنها رشوة.
يقول المؤلف
ساخرا في لقاء ثقافي دار حول كتابه ان حجم التصفيق الحاد الذي يلقاه الرئيس
بوش في خطابات حالة الاتحاد State of the union يذكره بالناس كثيرة الهتافات
الذين كانت تستأجرهم القيادات الرومانية للتصفيق لهم ... لكن السؤال الأخير
للمواطن الأمريكي هو كم سيدوم التصفيق؟؟