الرئيس أوباما حاملا كتاب العالم ما بعد أمريكا
«العالم ما بعد أمريكا» هو عنوان الكتاب الأخير للمنظر الديمقراطى فريد زكريا رئيس تحرير «نيوزويك» السابق، واكتسب هذا الكتاب شعبية جارفة بين قراء العالم، وفاز كسابقه «مستقبل الديمقراطية» بلقب أكثر كتاب تحليلى مبيعا حول العالم فى تصنيف «نيويورك تايمز»، وما زاد من قيمة الكتاب فى الأوساط السياسية والثقافية هو الصورة التى التقطها أحد المدونين الجمهوريين للرئيس أوباما وهو يحمل هذا الكتاب، ونشرها على موقع «تويتر» وعلق عليها متهماً أوباما وفريد زكريا بالتخطيط لإسقاط الولايات المتحدة.
- اقتباس :
- الشعور بالاستثنائية وسخط العالم الخارجى مرض أصاب فرنسا نابليون وألمانيا بسمارك والاتحاد السوفيتى ما بين ستالين وخروشوف وتعيشه أمريكا منذ عهد ريجان
وكعادته أيضاً استخدم «زكريا» عنوانا يستفز القارئ ويثير فضوله، فللوهلة الأولى يستشف البعض من العنوان أن الكتاب يدرس مرحلة ما بعد سقوط الإمبراطورية الأمريكية وصعود إمبراطورية دولية أخرى، إلا أن الكتاب لا يدرس العالم ما بعد انهيار النفوذ الأمريكى بقدر ما يدرس العالم ما بعد صعود قوى أخرى تشارك العملاق الأمريكى القيادة.
بدأ فريد زكريا كتابه من حيث انتهى زميله فى هارفارد جيمس روبنسون فى كتابه الذى صدر سنة 2012 بعنوان «لماذا تفشل الأمم؟» أوضح فيه سيناريوهات سقوط الأمم، كيف تبدأ ومتى تنتهى؟ وارتأى «زكريا» أن فشل الإمبراطوريات -كفشل أى أمة- له أيضاً سيناريو من خطوات محددة تمر بها الإمبراطورية فى طريقها إلى الغرق.
يبدأ سيناريو هبوط الإمبراطورية «بالاطمئنان»، حيث تقنع القيادة السياسية بأن دولتها تربعت على عرش العالم وأن العالم استوعب ذلك وقبِله. هو ذلك الشعور الذى عاشته فرنسا نابليون وألمانيا بسمارك وبريطانيا باكس- بريطانيكا، والاتحاد السوفيتى ما بين ستالين وخروشوف، وتعيشه القيادة السياسية فى الولايات المتحدة منذ عهد ريجان وحتى يومنا هذا. ينتج عن هذا الشعور عدة ظواهر: أقلها أهمية العنجهية، لأن علاجها سهل وهو التراجع، على حد قول «زكريا».. أما الظاهرة الأخطر فهى حالة الاستقطاب الداخلى واستخدام السياسة الخارجية لتطويع الداخل، وهو ما سماه زميل هارفارد صامويل هانتنجتون أستاذ العلاقات الدولية «أدلجة السياسة الخارجية»، هذه الظاهرة تؤدى إلى حرب باردة ما بين القوتين العظميين داخل الإمبراطورية نفسها، مثل حالة اليمين واليسار فى الجمهوريات الفرنسية الأولى، والحكومة والمملكة فى بريطانيا العظمى، وبالطبع حال الجمهوريين والديمقراطيين فى الولايات المتحدة، وهذه الظاهرة هى الأخطر لأنها «معدومة المرونة»، فكل حالة «تراجع» عن قرار أو إطار للسياسة الخارجية يعتبر هزيمة أمام المعسكر الآخر، وهو ما يفسر مثلا عدم تراجع فرنسا عن التوسع بعد نابليون، ويفسر اليوم إصرار الجمهوريين على الحرب المزعومة على الإرهاب رغم بروز فشلها فى العراق وأفغانستان. كما أشار «زكريا» إلى أن هذا الانقسام لا يحدث فى حالة وجود خصم قوى فى الخارج، وهو ما يبرهن عليه بمقارنة عدد مشاريع الكونجرس المشتركة فى عهد الحرب الباردة بعدد المشاريع المشتركة ما بعد الحرب الباردة.
- اقتباس :
- سيناريو هبوط الإمبراطورية يبدأ باطمئنان القادة إلى أن دولتهم تربعت على عرش العالم وينتهى بمرحلة تصعيد ضد الآخرين يقودها «أحمق» ضعيف الإمكانيات
ثم تأتى خطوة «الشعور بالاستثنائية»، وهذه القناعة تتبناها القاعدة الشعبية نتيجة لما تراه من القيادة السياسية وما ينشر لها من مراكز الأبحاث والإعلام وغيرها من المؤثرات الاجتماعية. وفى هذا السياق يسخر فريد زكريا من تكالب مراكز البحوث والجامعات ووسائل الإعلام ما بعد الحرب الباردة إلى إعلان أن الولايات المتحدة آخر الإمبراطوريات، وهو أمر يراه «فريد» غير واقعى ولا منطقى ولا حتى مرغوبا فيه. وبدراسة تحركات مراكز البحوث ووسائل الإعلام وما شابهها ما بعد الحرب العالمية الأولى ثم الثانية يوضح لنا «زكريا» أن «الشعور بالاستثنائية» أمر حدث لكل الإمبراطوريات الدولية فى العصر الحديث، ويشير إلى أن السبب الأساسى وراء هذا الشعور الشعبى هو «استسهال» النخبة المثقفة التى تأخذ أقصر الطرق إلى قلوب القراء عن طريق إرضاء غرورهم ومغازلة «الأنا» فى نفوسهم، بدلا من عرض الحقيقة التى قد يخسرون بسببها نقاطا شعبية وسياسية. هذا «البعد عن الواقعية» على المستويين الشعبى والنخبوى سيطر على الولايات المتحدة منذ عهد ريجان وحتى انتخاب بوش الابن. وهو ما أدى إلى «الانعزالية» كنتيجة طبيعية للاطمئنان والشعور بالاستثنائية، حيث أصبح العالم بالنسبة للأمريكيين «نحن» و«باقى العالم».
وجاء زلزال 11 سبتمبر 2001، هذه الهزة الكونية التى تمثل المرحلة الثالثة فى سقوط الإمبراطورية. ويشير «زكريا» إلى عدة أمثلة حدث فيها مثل هذه الزلازل التى تهز عرش الإمبراطورية العظمى، وعلى رأس تلك الأمثلة ثورات شرق أوروبا فى أواخر الثمانينات التى أسقطت إمبراطورية الشرق (الاتحاد السوفيتى). ويعرف «كيسنجر» هذه المرحلة بأنها حدوث «تحرك دولى مباغت» يكشف للإمبراطورية أنها كانت تسىء تقدير قوتها مقارنة بقوة «باقى العالم»، أسماها «العصيان الدولى».
ونتيجة لانعدام الرؤية عند القادة الذين مكثوا فى وهم «الاطمئنان»، وشعور الشعب بالغربة عن بقية العالم نتيجة «الانعزالية»، مع ظهور سخط العالم الخارجى على الإمبراطورية وتحديه لقواعدها الدولية، تدخل الإمبراطورية مرحلة «التصعيد ضد العالم». ويرى «زكريا» أن هذه المرحلة غالبا ما يقودها «أحمق» ضعيف الإمكانات يداعب شعب إمبراطوريته وشعوره بالاستثنائية من خلال تأليبه على العالم. مرحلة التصعيد هذه تؤدى إلى صدام، وبما أن الكل دائما أقوى من الفرد، يكتب هذا الصدام سطر نهاية الإمبراطورية العظمى، وفى هذا الصدد يلمح «زكريا» بأن نهاية الولايات المتحدة قد تكون «الحرب على الإرهاب». فإذا افترضنا أن قوة الولايات المتحدة تضاهى عسكريا وأمنيا واقتصاديا قوة العالم كله مجتمعا، فإن السقوط قد يحدث بسبب عدم قدرة الولايات المتحدة أن تجمع قواها بسبب الحرب الباردة بالداخل، فيحدث لها «ضمور ذاتى» على طريقة الاتحاد السوفيتى فى أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات.
وبناء على السيناريو السالف ذكره، يرى «زكريا» حل «الأزمة الأمريكية» هو تجنب استكمال السيناريو، فبما أن مراحل «الاطمئنان» و«الاستثنائية» و«العصيان الدولى» أصبحت أمرا واقعا للولايات المتحدة، فالحل فى المدى القصير هو «تجنب الصدام»، ثم العمل على التحلل من الأزمات الثلاث الأخرى على المدى الطويل والمتوسط.
- اقتباس :
- أمريكا لديها فرصة تاريخية لتقسيم العبء مع المجتمع الدولى الجديد ويمكنها أن تحتفظ لنفسها بالصدارة لأن عالم اليوم لا يسمح لأى قوة بالحصول على كل شىء
كما أشار «زكريا» إلى واحدة من ثوابت صعود وهبوط الإمبراطوريات وهى «تغيير نوع القوة التقليدية على المستوى الدولى» فحينما كانت القوة الدولية التقليدية هى القوة الإمبريالية، تحديدا فى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، صعدت الولايات المتحدة ومعها الاتحاد السوفيتى من خلال مشروعين اقتصاديين هما بالتوازى «خطة مارشال» و«معاهدة وارسو» لتصبح القوة الاقتصادية هى القوة الأساسية فى اللعبة السياسية. ثم صعدت الولايات المتحدة على الاتحاد السوفيتى من خلال سياسة «الاحتواء» لتصبح القوة السياسية هى القوة الأساسية. لهذا تظل احتمالية سقوط الولايات المتحدة كقوة عظمى رهان صعود دولة (أو دول) أخرى بقوى غير تقليدية.
إذن فالمرض هو «الشعور الكاذب بالقوة»، وهو لا ينتج عن «ضعف» القوة العظمى بقدر ما ينتج عن اختلاف «منظومة القوة» فى المطلق، فتصبح القوة التقليدية -التى تبذل فيها كل الجهود لتعزيزها وتغذيتها- قوة ثانوية بالنسبة للمجتمع الدولى. فمثلا، فى عصر ما قبل الثورة الصناعية كان تعداد الجنود مقياسا فارقا للقوة، فكانت الإمبراطورية الأكثر من حيث عدد الجنود هى الإمبراطورية الأقوى، وهو ما اختلف كليا ما بعد الثورة الصناعية بما يعنى أن هذه الإمبراطورية لم تعد الأقوى بالمقاييس الدولية الجديدة.
ويرى «زكريا» أنه من «الحماقة» أن تعكف الولايات المتحدة على تغذية قوتيها التقليديتين: المعونة والجيش، اللذين زادت فيهما التنافسية ولم يعودا ميزة نسبية للدولة العظمى. الأوْلى أن تستبدلهما بما سماه «قوى غير تقليدية». وفى هذا الصدد يستعين زكريا بمصطلح زميله من هارفارد جوزيف ناى -العميد السابق لكلية السياسة- «القوة الذكية». وهى الميزة النسبية التى يحصل الفاعل الدولى عليها من خلال التوازن بين القوة الصلبة مثل القوة العسكرية والمالية والقوة الناعمة كالثقافة والفكر والأيديولوجية. تتميز القوة الذكية -بناءً على زكريا- بأنها لا تؤدى إلى تصادمات أو تحديات، لأنها غير قائمة على ألعاب صفرية بل «تفيد وتستفيد».
واذا عكسنا نظرية «ناى» على التطبيق الأمريكى فإن الميزتين النسبيتين للولايات المتحدة هما التعليم والهجرة. وبناء عليه يوصى «زكريا» باستثمار هذين القوتين وتغذيتهما. كما يرى «زكريا» أن صعود الصين والهند لن يقلق الولايات المتحدة إلا على مستوى القوة التقليدية. فإذا دخلت الولايات المتحدة سباقا للتسلح مع هذه القوى الجديدة سيخسر الكل، أما إذا توجهت لاستثمار برامجها التعليمية وجامعاتها وفرص الهجرة إليها ستحافظ الولايات المتحدة على قوتها التنافسية من خلال «الإحلال والتجديد الصناعى للسكان»، أو بمعنى أوضح استقطاب مواهب العالم (بما فيه الصين والهند وأى قوى أخرى تصعد). وبهذا تحافظ الولايات المتحدة على موقعها الدولى المتميز الذى سماه هنرى كيسنجر «منتصف الفلك الدولى».
ومن المنطلق النظرى السابق والتحليل الاستراتيجى للحالة الدولية والداخلية، استخرج الكاتب بعض التوصيات، منها، قبول واقع «الصعود الثانى للشرق»، حيث يرى «زكريا» فى هذا الصدد أن ردود فعل المجتمع الغربى تجاه صعود الصين والهند، والذى يتأرجح ما بين الذعر والاستنكار، سببه هو الارتباك غير المبرر. فمن وجهة نظر «زكريا» صعود الشرق هذه المرة، غير مبنى على أيديولوجية عدائية للولايات المتحدة، يعنى زيادة فى الاستهلاك والإنتاج تفسر إلى رخاء عالمى تستفيد منه الولايات المتحدة فى المقام الأول. فهو لا يجب أن يخيف الولايات المتحدة، ولا يجب أن تتغافل عنه، بل يمكن أن تستثمره لصالحها عن طريق قوتها الذكية الكامنة فى التعليم والهجرة للكفاءات من حول العالم.
ويرى «زكريا» أن الولايات المتحدة أمامها فرصة تاريخية لتقسيم العبء مع قيادات المجتمع الدولى الجديدة، بحيث تحتفظ لنفسها بالصدارة لكن بالتعاون مع اللاعبين الجدد. ومن الملحوظ فى هذا الصدد أن أوباما ترجم هذا فى سياساته حينما أعلن عن تبنى مبدأ «القيادة من الخلف» فى حملته الانتخابية الثانية.
وطالب الكاتب، المجتمع السياسى الأمريكى بأن يعى أن عالم اليوم لا يسمح لأى قوة بالحصول على كل شىء، ولهذا فعليه أن يرتب أولوياته ويحدد اهتماماته ودوائره الأنقى، ومن هنا يبدأ إنجاز أهدافه السياسية بمبدأ ستيفن كوفى «الأهم فالمهم».
أخيراً.. «هل أراد الكاتب «إسقاط الولايات المتحدة» كما قال المدون رافييل ماركوس؟».. أبدا، كل ما أراده كعادته هو إخراج النخبة الأمريكية من القمقم المحبوسين فيه وأن يروا العالم برؤية أكثر تجردا. بل إن أسلوب الكتاب ملىء بالتفاؤل والنظر إلى نصف الكوب المملوء، حيث رأى «زكريا» أن الحالة الدولية تنبئ «بتغيير» فى النظام الدولى تغييرا لا يشترط الإضرار بالمصالح الأمريكية. بل إنه يرى أن صانعى القرار فى الولايات المتحدة قد يستثمرون هذا التطور الدولى لصالح الولايات المتحدة، عن طريق فتح أسواق ومصانع جديدة حول العالم. كما شخّص المرض الذى يعانى منه العجوز الأمريكى فى «الشعور الخادع بالقوة» وسببه «قوة الولايات المتحدة التقليدية، والتى زاد فيها التنافس من القوى الأخرى ولم تعد حكرا للدولة العظمى». ثم وصف العلاج من خلال «تغيير نوع القوة الدولية للولايات المتحدة» من قوتها التقليدية المتجسدة فى المعونة والجيش إلى الميزتين النسبيتين الأكثر أهمية فى مجتمع اليوم وهما الهجرة والتعليم.
المصدر http://www.elwatannews.com/news/details/196567