مقدمة
على رغم مرور أربعين عاما على هزيمة إسرائيل في حرب أكتوبر 1973، فلا تزال إسرائيل في الذكرى السنوية لهذه الحرب،كما تفعل كل عام، تستعيد ذكريات هزيمتها المريرة في هذه الحرب، وتقلب في أوراقها، وكأنه لم يندمل جرحها بعد، وعلى رغم عاصفة الانتقادات التي ثارت بعد الحرب في إسرائيل،وطالت قادتها السياسيين والعسكريين على السواء،
وبخاصة في ما يتعلق بإهمالهم في التنبؤ مبكرا بوقوع الحرب، على رغم كثرة دلائلها وشواهدها آنذاك، ونجاح المصريين في تحقيق المفاجأة بأبعادها السياسية والإستراتيجية والتكتيكية، ما أربك القيادات السياسية والعسكرية الإسرائيلية آنذاك، وشل قدرتهم على التخطيط وإدارة الحرب بشكل سليم، ما أفقد رئيسة وزراء إسرائيل آنذاك (جولد مائير) منصبها،وكذلك وزير دفاعها الجنرال موشى دايان، وأيضًا رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الجنرال ديفيد أليعازر ومدير مخابراتها الجنرال الياهو زيمرا،الذين تمت الإطاحة بهم لمسؤوليتهم عن الهزيمة التي لحقت بالجيش الإسرائيلي في هذه الحرب، طبقًا لتقرير "لجنة إجرانات" التي كلفت بالتحقيق في هذه الهزيم – تقول، على رغم كل هذا الاهتمام الإسرائيلي بدرس وتحليل نتائج هذه الحرب طوال الأربعين سنة الماضية، فلا تزال أسباب هزيمة إسرائيل فيها موضع اهتمام، وبحث وتحليل المتخصصين هناك في النواحي الإستراتيجية والسياسية والمخابراتية،ولاسيما بعد إفراج الأرشيف الإسرائيلي بقسميه السياسي والعسكري مؤخرا،عن الوثائق التي تتضمن بروتوكولات جلسات الحكومة الإسرائيلية واجتماعات قادة هيئة الأركان العامة الإسرائيلية يوما تلو الآخر،وهو ما يترتب عليه عاصفة من هجوم المحللين السياسيين والعسكريين.
ومنذ عشر سنوات بدأت مجموعة من العسكريين الإسرائيليين السابقين والباحثين (30 شخصا)،البحث وراء المنظومة العسكرية الإسرائيلية والوقوف على سلبياتها واقتراح الحلول لعلاجها،
وللوصول إلى الفاعلية القصوى للأمن القومي الإسرائيلي، ولكن سرعان ما أدركوا أن هدفهم هذا لن يتحقق إلا بعد دراسة متأنية للمعارك التي خاضها الجيش الإسرائيلي في هذه الحرب،
بل والأهم من ذلك الأحداث والوقائع والتقارير الاستخباراتية التي سبقت وقوع الحرب، ومحاضر الاجتماعات التي تمت على المستوى الوزاري ورئاسة الأركان العامة طوال الأسابيع التي سبقت الحرب،ومدى الجاهزية الفعلية للقوات المسلحة الإسرائيلية عشية الحرب، وأطلقت هذه المجموعة من العسكريين المتقاعدين على نفسها "منتدى الغيردو"، وذكروا أن مهمتهم تكتنفها صعوبات كثيرة، بسبب رفض الأوساط السياسية والعسكرية- وبخاصة الاستخباراتية- الحديث عن الحرب تحت ذريعة الأمن، ولكن استطاعت هذه المجموعة أخيرًا أن تحصل على مجموعة من المعلومات التي أهلتها لكتابة الفصل الأول من كتاب تحت عنوان "انتصار منخفض الاحتمالات"، تناول فيه المحرر العقيد احتياط "شيمون ميندز" من خلال جزأين،الرئيس الراحل أنور السادات، وأشرف مروان، صهر الرئيس الراحل عبدالناصر، مشيرا في مقدمته إلى أن حرب أكتوبر كانت "حرب السادات" بالمعنى الحرفي للكلمة، وأن السادات هو من خطط وأعد لها، وأنه صاحب فكرة إرهاق إسرائيل قبل اندلاع الحرب،مشيرا إلى العلاقة التي كانت تربط بين "السادات" و"مروان" على اعتبار أن الأخير كان سكرتير الرئيس للمعلومات، قبل أن يترك هذا المنصب قبل حرب أكتوبر، وشكك في احتمال أن يكون "مروان" عميلا مزدوجا وليس عميلا فقط لإسرائيل، وهو ما أكد عليه مدير المخابرات الإسرائيلية الجنرال "زعيرا".
الجزء الأول من الكتاب (السادات.. الرجل والرئيس)
يتناول "ميندز" حياة الرئيس الراحل من خلال أدق تفاصيل حياته، وكيف أن ظروف فترة نشأته الأولى كانت سببا في صياغة فكر "السادات" في مقتبل عمره وأثرت عليه بقية حياته،
وأن حادث العدوان الإنجليزي على الشعب المصري في قرية دنشواي كانت بدية صياغة العالم الأيديولوجي للرئيس الراحل، كمصري وطني مخلص لبلاده،
ثم أشار المؤلف إلى زمالة "السادات" مع الرئيس الراحل "عبدالناصر" في أثناء فترة الدراسة بالكلية الحربية،وعملهما معا في جمعية الضباط الأحرار قبل ثورة 23 يوليو وفي أثنائها وبعدها حتى وفاة "عبدالناصر" 1970، ولكن كان السادات أكثر تعمقا وفكرا من عبدالناصر،ثم انتقل الكاتب إلى الجانب الإيماني والروحي في شخصية "السادات"، وكيف أثر ذلك في سياسة الصبر الطويل التي مارسها السادات حتى تحقق هدفه في استعادة سيناء بوسائل عسكرية وسياسية.
ثم انتقد الكاتب الإسرائيلي تقديرات أجهزة المخابرات الإسرائيلية
التي رشحت أحد أفراد حاشية "عبدالناصر" لتولي حكم مصر عقب وفاته، وتضمنت "علي صبري" و"شعراوي جمعة" و"محمد فوزي"، واستبعدت "السادات" على اعتباره "غير مستقل فكريا من الناحية السياسية،وأنه سياسي رمادي ليس له لون مميز،وعديم النفع غير قادر على المساهمة بشكل مستقل في إدارة الدولة،وأنه يفتقد المقومات القيادية، كما تنقصه المعلومات الأساسية التي يحتاجها للسيطرة على السلطة"، وتهكم "ميندز" على تقرير الباحث الإسرائيلي "شيمون شامير" عن شخصية "السادات"، قائلا: "إن هذا التحليل الذي أخذت به أجهزة المخابرات الإسرائيلية لضابط مصري بدأ بالتمرد على الحكومة المصرية بينما كان ضابطا صغيرا، تحليل خاطئ لشخص بادر بعد ثورة يوليو 1952 بتأسيس جريدة الجمهورية للتعبير عن الثورة،وهو الشخص نفسه الذي كتب عشرة كتب"، وأضاف: "المشكلة لدى المنظومة الأمنية الإسرائيلية أنها لا تتابع إلا التغيرات الجذرية التي يمكن أن تقلقها،ولا تنظر إلى التغيرات البسيطة، وهو سبب نجاح السادات في خداع إسرائيل والمصريين أنفسهم،ففي الوقت الذي كان يجهز فيه السادات للحرب، كان الجميع- داخل مصر وخارجها- يرونه رجلا بلا موقف ولا يستطيع اتخاذ قرار، ومجرد تابع لعبدالناصر".
وتحت عنوان: (ماذا فعل السادات في سبيل بلاده؟)
قال الكاتب الإسرائيلي: "إن السادات كان مختلفا تماما عن سلفه عبدالناصر، حيث جعل هدفه الأول والأخير هو الانتصار على إسرائيل مهما كان الثمن، في الوقت الذي كان فيه عبدالناصر يضع خططًا قصيرة المدى للدفاع فقط دون هجوم،وهو ما كان يرفضه السادات بشكل قاطع"، ثم تابع: "وعلى رغم أن السادات كان صديقا لعبدالناصر، فإن أيديولوجية وأصل السادات جعلاه مختلفا فكريا عنه وأراد الدفع بالبلاد إلى الغرب الرأسمالي،حيث إنه رأى فعليا مساوئ النظام الاشتراكي الثوري، ووهب نفسه لهدف واحد فقط هو الانتصار عسكريا على إسرائيل،وحتى مع إقراره أمام وزير الخارجية الأمريكي، هنري كيسينجر، بأنه إذا كان استطاع أن يحقق الانسحاب الإسرائيلي الكامل إلى حدود 67 من خلال المفاوضات، لما كان دخل تلك الحرب (يقصد حرب أكتوبر 1973)، فإنه لم يكن ليتنازل أبدا من داخله عن الانتصار في ساحة الحرب".
ثم يدلل الكاتب الإسرائيلي على صدق كلامه بقول المؤرخ العسكري الروسي "كارل فون كلاذرفيتز": "إن الحرب هي امتداد للسياسة بوسائل أخرى"،
وهي مقولة تنطبق على السادات باعتراف خصومه أنفسهم، وفي ذلك كتب ميندز: "بشكل عام، قليلون فقط هم من استطاعوا الربط بين السياسة والحرب، وربما لم يتمكن من هذا إلا قادة الثورات وليس رؤساء الحكومات، إلا أن السادات كان فريدا من نوعه، وقد كان ذلك في مجالات عديدة".
أما بشأن القدرات العسكرية للجيش المصري في العام الأول لتولي السادات الحكم، فيشير الكاتب الإسرائيلي إلى أن السادات كان على علم بنقص القدرات العسكرية لجيشه وشعبه، وأدرك أنه كان عليه أن يغير الكثير من الأشياء، إلا أنه في الوقت نفسه أدرك أن هذا التغيير كان لا بد أن يبقى في حدود القوى المسموحة لتلك التغييرات".
ثم أضاف: "دون تحيز، كان السادات في حاجة إلى التعلم من عناصر النكسات الثلاث السابقة، وبخاصة 1948، و1956، و1967، وللأسف كان الجيش الإسرائيلي أيضًا في حاجة إلى إدراك عوامل الانتصار، ولكنه لم يدرك ذلك".
ثم أشار الكاتب إلى مقولة وزير الدفاع الإسرائيلي إبان حرب 1973 "موشى ديان": "إن البذلات لا تصنع الجيش،
والرتب العسكرية لا تصنع القادة"وهذه كانت مشكلة السادات في ما يتعلق بجيشه،حيث إن كثيرين عُيِّنوا خلال فترة عبدالناصر دون أن يكون لديهم أدنى معلومات عن ساحات القتال" أما على مستوى الجنود، فيشير الكاتب الإسرائيلي إلى أن الجيش المصري في تلك الفترة كان يعتمد على المجندين البسطاء،إلا أن السادات أصدر قرارًا بضم حملة المؤهلات العليا والتعليم العالي إلى الجيش، وبذلك رفع مستوى الجيش".
وخلل آخر أشار إليه الكاتب الإسرائيلي بشأن فشل المخابرات الإسرائيلية في التعامل مع السادات والتنبؤ باندلاع الحرب، يكمن في عدم تعامل المخابرات الإسرائيلية بجدية مع تصريحات السادات بعد توليه الحكم، والتي أكد فيها أنه ليس نسخة من عبدالناصر، وأنه مختلف عنه،وفي ذلك يقول "ميندز": "إن إسرائيل نظرت إلى عبدالناصر على أنه أكثر بريقا منه، إلا أن السادات كان أكثر عمقا وفهما للأمور وبواطنها وأكثر عملية من سلفه"، ثم أضاف: "السادات كان مثقفا متنورًا وصاحب معرفة تاريخية،تعلم معرفته العلمية من جامعة (الشارع) والحياة، ونظر إلى نفسه مثل (تشرشل) و(شارل ديجول)، وآمن أن القدر اختاره لإنقاذ مصر، وكان وطنيًا أكثر من عبدالناصر نفسه".
ولفت “ميندز”إلى أن السادات على رغم أنه لم يشارك شخصيًا في الحروب السابقة، لكنه أعد نفسه لإدارة المعركة الإستراتيجية بأكثر من مجرد خبرة عسكرية،وإنما من خلال السياسة التي استطاع بها الدخول في أكبر لعبة في تلك الفترة، وأضاف: "نجح السادات في أن يجعل الحرب هوية لرئاسته للدولة،وجعل تحرير أرض سيناء مهمته الأولى والأخيرة، واستطاع وضع خطة حربية منظمة يقبع في نهايتها هدف سياسي خالص، استطاع الحصول عليه بكل جدارة".
وكانت إحدى الأزمات التي أرَّقت السادات- بحسب قول الكاتب الإسرائيلي- هي الالتزامات التي تعهد بها عبدالناصر إلى الروس في مقابل الأسلحة والمعدات العسكرية والخبراء،
ولأنه كره هذا الالتزام ظل يحصل منهم على الأسلحة حتى آخر لحظة التي عندها امتنعوا عن الاستجابة لطلباته من المعدات الحديثة اللازمة لعملياته الهجومية في سيناء (مقاتلات قاذفة للضرب في العمق، ومروحيات هجومية، والدبابات ت – 72، والمركبات المدرعة القتالية ب. م. ب-2، صواريخ الدفاع الجوي سام-6 بأعداد كافية"،عند ذلك طرد الخبراء والمستشارين الروس، وهو ما دفع إسرائيل إلى استبعاد خيار الحرب حينها،لأنهم ظنوا أن السادات بطرده الروس قد أضعف جيشه، ولم تدرك المخابرات الإسرائيلية حقيقة مهمة وراء قرار السادات بطرد الروس،وهي أنه بذلك أراد أن يكون قرار الحرب مصريا خالصًا لا فضل لأحد آخر فيه،وقد أثبتت الحرب أن الجيش المصري لم يضعف بعد طرد الخبراء الروس، بل زادت ثقة القادة والضباط في أنفسهم، وقدرتهم على تخطيط وإدارة عمليات هجومية إستراتيجية دون معاونة من آخرين.
ولم يكتف الكاتب الإسرائيلي بامتداح السادات لقدرته على خداع إسرائيل بشأن الحرب فقط،
وإنما استطاع أيضا خداع وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسينجر وجذبه إلى الملعب السياسي الذي أراد السادات الوصول إليه في النهاية بشروطه هو، حيث لم يدرك كيسينجر أن قرار السادات بطرد الروس كان يطمع به في اللعب على المدى البعيد، وليس القريب،وأراد المكسب البعيد في مقابل الخسارة القريبة المؤقتة، وهو ما تمثل في إدخال الإدارة الأمريكية في الأزمة بين مصر وإسرائيل، وإشراك أمريكا في إجبار إسرائيل على الانسحاب نهائيًا من سيناء، وتحميل الإدارة الأمريكية هذه المسؤولية على اعتبار دعمها ومساندتها المطلقة لإسرائيل.
أما تكتيك السادات في التفاوض مع إسرائيل فقد اتبع منهجًا وصفه الكاتب الإسرائيلي على النحو التالي:-
"استطاع السادات أن يلعب اللعبة بقواعده هو داخل حدودها التي فرضتها الولايات المتحدة، ولكن متمسكا بهدفه بعيد المدى وهو تحرير كامل سيناء من الاحتلال الإسرائيلي، لذلك انتهج تكتيك التنازل جزئيا عن طلباته في البعد التكتيكي وليس الإستراتيجي، وكان دائما ما يتعمد تقديم لائحة بمطالب يتأكد أن إسرائيل لن تقبلها،فيعود للتنازل عنها، حتى يحين الوقت الذي يرغب فيه بتقديم طلباته الحقيقية، فيتذرع بأنه تنازل عما يقرب من 90% من طلباته،ويتساءل حينئذ: إلى أي حد يمكن أن يتنازل أكثر من ذلك؟ إلى الدرجة التي تحرك كيسينجر نفسه ويدفع في المقابل جولد مائير لتقول ذات مرة: "هل يظن السادات نفسه أنه انتصر في 67؟"،
وكان هدف السادات من لعبة التنازلات تلك هو جر كيسينجر – على غير دراية – إلى اللعبة بالإعلان عن مهلة بحلول نهاية شهر سبتمبر لإسرائيل لقبول تلك المطالب، ولم يحدد ماذا سيفعل بعد انتهاء تلك المدة، ولكن أحدًا في إسرائيل أو أمريكا لم يهتم.
وكانت إحدى اللحظات الفاصلة في خطة السادات، هي المطالب التي أرسلها مع مبعوثه الشخصي، حافظ إسماعيل،إلى وزير الخارجية الأمريكية كيسنجر، لإنهاك إسرائيل وأمريكا معا، فقد وافق كيسنجر حينها بالفعل على بعض التنازلات الطفيفة من جانب إسرائيل، وحينها غضب السادات جدا، ولكنه فضَّل احتواء غضبه للاستمرار في دفع كيسينجر إلى السقوط في الفخ الذي نصبه له بعد أن يبادر بالحرب ويعود إلى طاولة التفاوض، وفي ذلك يقول مينذر: "تجدر الإشارة إلى أن كل تحركات السادات كانت تفضي في النهاية إلى الحرب، ولا يمكن فهمها إلا في إطار الاستعدادات للحرب، بدءًا من حرب الاستنزاف،وعلى رغم أن مصر انتهكت شروط وقف النيران خلال حرب الاستنزاف، فإن إسرائيل وواشنطن فضلتا التغاضي عن تلك الانتهاكات، لأن المصلحة كانت تقتضي ذلك".
وكان أحد أسوأ المفاهيم التي صاغتها المخابرات الإسرائيلية عن القيادة المصرية- بحسب الكتاب- هو أن القيادة المصرية لا تخرج للحرب أبدا إلا قبل أن تحقق طفرة في سلاح الطيران يجعله على مقدرة لمنافسة سلاح الطيران للخصم، وبشكل عام فإن هذا واقع، إلا أن السادات حذّر جنوده وضباطه من التفكير بشكل نمطي، وهو ما جعله يستبق الأمور ويبادر بالحرب.
وأضاف الكاتب: "في صيف 1972، أدرك السادات أنه سيخرج للحرب بالأسلحة الروسية- على رغم قصورها في تحقيق التوازن الكمي والنوعي مع نظيراتها الإسرائيلية- ولهذا قرَّر أن يعمل على عنصر المفاجأة والابتعاد عن التفكير النمطي"، وقد أكد الكاتب الإسرائيلي أن "جهاز المخابرات العسكرية الإسرائيلية (أمان) فشل بشكل ذريع في تلك الحرب".
وأضاف "ميندز": "تعقتد مجموعتنا بشكل عام أن السادات لم يكن ليخرج إلى الحرب أبدًا إلا لو كان على علم بقدرته في قلب الانتصار المتوقع– المحدود ربما– إلى انتصار سياسي إستراتيجي، ولم ترتكز ثقة السادات على الخيال، وإنما على ثقته في نفسه وبأنه يفهم طريقة كيسنجر، واستطاع التنسيق مع الدول العربية لاستخدام سلاح النفط"، ولفت الكاتب الإسرائيلي إلى أن "السادات تحكم في مجريات الأمور والقرارات الإستراتيجية خلال فترة الحرب، وعلى رغم أنه لم يتدخل فعليا في عمل القادة الآخرين، فإن تحركات السادات كانت تشير إلى أنه قائد عسكري حذر ومخضرم".
ثم يضيف الكاتب: "فور أن انتهت الحرب، بدأت المعركة السياسية، وفاجأ كيسينجر مجددًا، بعدما اقترح الأخير تنازلات ضخمة من الجانب الإسرائيلي، في حين طلب السادات تنازلات ضئيلة، ويبدو أن الفارق الثقافي بين الاثنين هو السبب في مفاجأة كيسينجر، حيث إن طبيعة السادات الشرقية تجعله متوجسا من الانتصار الضخم لأنه سيعد آخر انتصار له، على عكس الغربيين الذين لا يرغبون في انتصار ضخم وفوري".
ثم أنهى الكاتب الإسرائيلي الجزء الأول من الفصل الأول، مؤكدا أن المصريين انتهكوا بنود وقف إطلاق النار مرات عدة خلال الاتفاقية، مضيفا: "غير أن المتابع لطبيعة المصريين لن يتعجب كثيرا، حيث إن المصريين يعتبرون أن أي اتفاق غير نهائي ما دام الحديث مستمرا، وهو ما دفع السادات إلى القول لمناحم بيجين رئيس وزراء إسرائيل ذات مرة: "هذه سوق والبضاعة ثمينة"، إلا أن رئيس الوزراء الأسبق لم يفهم مغزى حديث السادات عندئذ، وهو ما يشير إلى أن السادات كان ينوي استغلال تلك الطبيعة لانتهاك بنود اتفاقية السلام، تحت دعوى أن من انتهك الاتفاقية فعل هذا دون الرجوع إليه، أو أنه لم يفهم أن هذا كان ضمن بنود الاتفاق".
الجزء الثاني.. أشرف مروان الرجل العميل
يشير مؤلف الكتاب "شيمون ميندز" في الجزء الثاني من كتابه إلى قصة أشرف مروان مع المخابرات الإسرائيلية عام 1969، حين دخل إلى السفارة الإسرائيلية في لندن وعرض معلومات ووثائق ومستندات بالغة السرية مقابل 200 ألف دولار للمستند الأول، و150 ألف دولار عن كل مستند جديد يقدمه إليهم، وبالفعل تحققت الدوائر الأمنية في إسرائيل من صحة الوثائق التي قدمها لها، وأصبح بمثابة "دعوة" للحصول على كل ما يجري في غرفة صناعة القرار لـ"السادات".
وأشار "ميندز" إلى أنه على رغم أن مسألة كون مروان عميلا مزدوجا أم لا، وهو ما رفضه مدير الاستخبارات العسكرية الجنرال "إلياهو زعيرا"، مؤكدًا أن "مروان" كان عميلا لإسرائيل فقط وليس مزدوجا، فإن هناك عوامل عدة قد تحسم تلك المسألة، على رأسها أن المصريين أنفسهم لم ينكروا أن "مروان" كان عميلا لإسرائيل، وأضاف: "كما أن مروان كان زوجا لابنة عبدالناصر التي كانت تقول للسادات: (يا عمي)، وهو كان يقول لها: (يا ابنتي)، فكيف يمكن لزوجها أن يتجسس عليه، وكان قد عينه سكرتيرا له لشؤون المعلومات، كما كلفه بعقد صفقات أسلحة لصالح الجيش المصري مع دول عربية وشركات تسليح غربية".
وأشار الكاتب الإسرائيلي إلى أنه يعتقد أن "مروان" كان بمثابة "حصان طروادة" في قلب إسرائيل، كان "مروان" هو الممثل، بينما كان السادات هو المخرج والمؤلف لتلك المسرحية التي خدعت أجهزة المخابرات الإسرائيلية، وتابع: "لم ينكر المصريون كونه عميلا لإسرائيل، كما أن الحفاظ على موقعه حتى بعد مقتل السادات ومنحه ميدالية بعد وفاته في 2007 يثير الشكوك، إضافة إلى أن ابنته تزوجت نجل وزير الخارجية الأسبق، عمرو موسى، وفي اعتقادي كان مروان جزءًا من لعبة الاستخبارات والخداع التي مارسها السادات بفطنة وذكاء ونجاح باهر".
وثيقة تكشف سعي إسرائيل للسلام قبل حرب أكتوبر
وفي إطار إفراج الحكومة الإسرائيلية عن 27 وثيقة سرية مهمة، برزت وثيقة تكشف سعي إسرائيل للسلام مع مصر قبل حرب أكتوبر، حيث لجأت جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل إلى ألمانيا لتتوسط مع مصر لإقناع السادات بعملية السلام، وأن مائير أجرت محادثات مع المستشار الألماني ويلي برانت قبل ثلاثة أشهر من حرب أكتوبر 1973، وعرضت خلالها البدء بمفاوضات سلام مع الرئيس المصري الأسبق أنور السادات من وراء الولايات المتحدة ومن دون معرفتها، وذلك على أساس إعادة غالبية سيناء، وشرط عدم العودة إلى حدود 1967، إلا أن مصر رفضت هذا العرض وواصلت الإعداد للحرب.
وجاء كشف هذه الوثيقة مع اقتراب مرور 40 عاما على حرب أكتوبر، وبعد أشهر قليلة من نشر وثائق اتهمت جولدا مائير بأنها فوتت الفرصة لإدارة مفاوضات مع السادات، وتسببت بذلك في حرب أكتوبر، وأهم ما في هذه الوثيقة الكشف عن لقاء بين جولدا مائير وبرانت عقد في 9 يونيو 1973 في مقر رئاسة الحكومة في القدس الغربية، كما تتضمن هذه الوثيقة السرية تصريحا لرئيسة الوزراء تقول فيه للمستشار الألماني برانت إن بإمكانه الاجتماع بالرئيس السادات، والقول إنه خرج بانطباع من لقائها بأن إسرائيل معنية بالسلام وليست معنية بالاحتفاظ بكامل سيناء، ولا بنصف سيناء ولا بغالبية سيناء، لكنها في الوقت نفسه ليست مستعدة للانسحاب إلى خطوط 1967، كما أنها مستعدة لإعادة غالبية سيناء لمصر ورسم الحدود ما بين حدود 1967 وخط وقف إطلاق النار من حرب ذلك العام، وقالت مائير إنها تتفهم مصاعب السادات في العالم العربي، ولذلك لا تطلب محادثات علنية، ومستعدة لبدء مفاوضات حول هذه المبادئ بشكل سري.
وفي وثيقة سرية أخرى يتضح أن المستشار الألماني لم يتحمس كثيرا للفكرة، ولم يكن لديه استعداد للسفر بنفسه إلى مصر، فأرسل دبلوماسيا بدرجة منخفضة هو سكرتير وزارة الخارجية (لونار لان) إلى القاهرة، وطلب الأخير لقاء مستشار الرئيس السادات للأمن القومي (حافظ إسماعيل) الذي تلقى رسالة برانت على مضض، حيث يبدو أن السادات لم يكن محبذًا الوساطة الألمانية لاعتقاده بأن أوراق اللعبة كلها ليست في أيدي المانيا، ولكن في أيدي واشنطن، إلا أن المحاولات الألمانية استمرت في ما بعد وفي نهايتها رفض حافظ إسماعيل اقتراح إسرائيل بفظاظة قائلا: "إن هذه المفاوضات لمجرد مفاوضات، وإن مصر غير مستعدة للتفاوض مع إسرائيل إلا بعد أن تتعهد بأن تنسحب من الأراضي العربية التي احتلتها سنة 1967"، وسجلت إحدى الوثائق الأخرى على لسان حافظ إسماعيل قوله: "إن العرب أصبحوا من الآن فصاعدًا يملكون إرادتهم".
وثيقة تكشف عن تجاهل (دايان) معلومات استخباراتية مهمة عن قرب وقوع الحرب
وقد نشرت صحيفة "هاآرتس" مقالاً عن وثيقة سرية تعود إلى العام 1973 أفرجت عنها وزارة الدفاع الإسرائيلية مؤخرًا، وتتعلق هذه الوثيقة بمعلومات استخباراتية ذات مصداقية عالية تلقتها إسرائيل قبل اندلاع حرب أكتوبر، فإضافة إلى المعلومات التي أمدها العميل أشرف مروان والتي أكد فيها اتخاذ السادات قرار بدء القتال بالتنسيق مع سوريا، ركز المقال على المعلومات الجديدة التي احتوتها هذه الوثيقة النابعة من مكتب وزير الدفاع موشى دايان، حيث تؤكد هذه المعلومات الجديدة– حسب تفسير المقال–أن رئيس المخابرات العسكرية الجنرال إلياهو زعيرا، كان قد أكد هو الآخر معلومات ترجح نية مصر القيام بأعمال عسكرية، وأن زعيرا حضر اجتماعا للمجموعة العسكرية في صباح يوم 6 أكتوبر ونقل للقادة العسكريين معلومات تفيد تحريك سوريا لقواتها إلى مواقع هجومية، وكذلك برقية تمكنت المخابرات الإسرائيلية من فك شفرتها كان قد بعث بها سفير العراق في موسكو إلى بغداد، وقال فيها إن السوريين على وشك بدء القتال (ويلاحظ في هذا الصدد أن المستشارين الروس كانوا حتى بدء الحرب في سوريا، على عكس مصر التي طردتهم العام 1972، ومن ثم من المؤكد أنهم رصدوا استعداد الجيش السوري للحرب، ونقلوا ذلك إلى قياداتهم في موسكو).
وبالتالي فإن المقال الذي نشرته (هاآرتس) يشكك في النتائج التي خلصت لها لجنة أجرانات التي كانت شكلت بعد الحرب للتحقيق في الفشل المعلوماتي والاستخباراتي الذي أدى لفشل إسرائيل في التنبؤ بالحرب، فكما هو معروف خلصت لجنة أجرانات إلى إلقاء اللوم على المخابرات العسكرية (أمان)، وحمَّلتها وحدها مسؤولية التخبط العسكري في الأيام الأولى للحرب، ولكن الوثيقة الجديدة توضح بجلاء عدم تقاعس المخابرات العسكرية عن القيام بواجبها، وأن زعيرا لم يتعمد إخفاء أية معلومات عن القيادة العسكرية، كما زعم تقرير لجنة أجرانات.
وثيقة أخرى تكشف تفاصيل عن سير الحرب
ومن ضمن الوثائق التي سمحت الرقابة العسكرية الصارمة لوسائل الإعلام الإسرائيلية بنشر تفاصيل عن سير الحرب، ذكرت (هاآرتس) أن حالة من الهيستيريا سادت القيادة العليا للجيش الإسرائيلي، حتى إن وزير الدفاع في ذلك الوقت– موشيه دايان– قال جملة مشهورة: "فليُقتل من يُقتل، وليُخطف من يُخطف، المهم أن نواصل المعركة أمام الجيشين السوري والمصري" على حد تعبيره، وكان لافتا للغاية ما كتبه الجنرال احتياط الذي كان يخدم في شعبة المخابرات العسكرية (أهارون ليران)، حيث كشف لأول مرة أن أحد مهام أجهزة المخابرات الإسرائيلية (الموساد، أمان)، الحيلولة دون إشراك الأردن في الحرب لجانب سوريا.
وفي سياق تسليط الضوء على بعض الإنجازات الاستخباراتية من الدرجة الأولى للحرب التي حُفرت في الوعي الإسرائيلي بوصفها الإخفاق الاستخباراتي الأكبر في تاريخ إسرائيل، قال الجنرال متقاعد (لبران) بحسب ما نشرته صحيفة (إسرائيل اليوم) المقربة جدا من رئيس الوزراء الحالي بنيامين ناتنياهو، عن أن أحد أهم هذه الإنجازات هو التقدير بأن المملكة الأردنية لن تنضم إلى الحرب ضد إسرائيل، فعلاوة على المعلومات التي أنذرت بشكل مسبق عن انتقال فرقتين مدرعتين مصريتين من غرب القناة إلى شرقها (يوم 14 أكتوبر)، نوّه الجنرال الإسرائيلي المتقاعد أنه بعد الصدمة التي تسببت فيها مفاجأة اندلاع الحرب، لم يكن أسهل على الاستخبارات من تقدير أن الأردن سينضم إلى الحرب، لكن هذا لم يحصل ولم تقله الاستخبارات، وكان تقديرها سليما في هذا الشأن، الأمر الذي أتاح لرئيس الأركان آنذاك الجنرال ديفيد أليعازر– الذي انتحر في ما بعد– أن يتخذ قرارًا بنقل فرق احتياط من الحدود مع الأردن إلى جبهة الجولان لمواجهة الجيش السوري هناك بدلا من إبقائها في الضفة الغربية للدفاع عن القدس، على حد قوله.
وأشار أيضًا إلى أنه عندما قام بعض الجنرالات بالتحذير من أن نقل هذه الفرقة سيؤدي إلى جعل طريق القدس مفتوحا، جاء التقدير الذي تقدمت به شعبة المخابرات العسكرية، واستبعدت فيه فتح هذه الجبهة ليساعد باتخاذ القرار السليم، وتاليا بإنقاذ هضبة الجولان من الوقوع في قبضة الجيش السوري.
وزاد الضابط الإسرائيلي قائلاً: "إن ما لم يعرفه الجمهور الإسرائيلي هو أن الذي ساعد الاستخبارات على التوصل إلى هذا التقدير كانت التقارير اليومية التي نقلناها أنا ورئيس الموساد (الاستخبارات الخارجية) في حينه (تسفى زامير) عن الجبهة الأردنية، حيث اتخذ العاهل الأردني – الملك حسين – قرارًا متوازنًا تمثل في إرسال اللواء 40 مدرعة لمساعدة الجيش السوري، وذلك في اليوم السادس للحرب، وكذلك إرسال اللواء 60 ميكانيكيا عشية انتهائها".
ومن ناحيته كشف المؤرخ الإسرائيلي "إيلان كفير" النقاب عن أن إخفاق القوات الإسرائيلية التي كانت موجودة في جبل الشيخ كان مضاعفا، ذلك أنه على الرغم من الوعود والتحضيرات، فإن هذا الموقع الإسرائيلي البالغ الأهمية الإستراتيجية لم يكن جاهزا للحرب. علاوة على ذلك، فإنه في الأيام والساعات قبل اندلاع المواجهة الشرسة والمصيرية لم يعرف الجنود والضباط ماذا ينتظرهم، كما أن القيادة العليا في هيئة الأركان العامة لم تعر أي اهتمام لهذا الموقع، وتابع المؤرخ، والذي قامت صحيفة (هاآرتس) بنشر فصل من كتابه، قائلا: "إن الموقع بعد اندلاع الحرب لم يسمع صافرات الإنذار وهو الذي كان يسمى (عيون إسرائيل)".
كما كشف المؤرخ النقاب عن إخفاق أكبر من ذلك، حيث قال إن الجيش السوري كان يعرف كل شيء عن الموقع بواسطة عملاء عرب دروز من هضبة الجولان، والذين كانوا يعرفون كل شيء عن الموقع ويبلغونه إلى المخابرات السورية.
رؤية تحليلية
- تكشف هذه الوثائق التي أفرجت عنها الرقابة العسكرية الإسرائيلية أخيرًا عن حقائق عدة في شأن الانتصار المصري في حرب أكتوبر، وذلك على النحو التالي:-
لم يكن رهان الرئيس الراحل على نجاح الجيش المصري في تحقيق الأهداف والمهام القتالية التي كُلِّف بها في هذه الحرب، إلا لثقته في الله وقدرة الجيش على ذلك، وأنه ظُلم في هزيمة 1967، التي كانت لأسباب سياسية خارج إرادة ومسؤولية الجيش.
لذلك كان قرار السادات بخوض الحرب على رغم تشكيك كثيرين في الداخل والخارج على عدم وقوعها، لعدم قدرة الجيش المصري على ذلك في ظل خلل الميزان العسكري لصالح إسرائيل، إلا أنه على رغم هذا الخلل الجسيم على الصعيدين النوعي والكمي بين القوات المصرية والإسرائيلية لصالح الأخيرة، بسبب تكاتف روسيا وأمريكا معا على عدم تمكين مصر من حيازة الأسلحة الهجومية التي تمكنها من تحرير كامل سيناء عسكريا، وعلى رغم اجتماع إرادة الدولتين العظميين على رفض أي حل عسكري، وتفضيل أسلوب المفاوضات، فإن السادات قبل هذا التحدي بما هو متاح لديه من أسلحة ومعدات حربية تعتبر متخلفة تكنولوجيا بالنسبة لما كان في أيدي القوات الإسرائيلية من أسلحة ومعدات تستخدمها القوات الأمريكية في ذات الوقت، بينما الأسلحة والمعدات التي كانت في أيدي القوات المصرية ترجع إلى عقد الخمسينيات – قبل الميج 17 والسوخوي 7، بل وبعضها يرجع إلى زمن الحرب العالمية الثانية مثل الدبابة الروسية ت-34 التي استخدمتها الفرقة 18 مشاة في تحرير مدينة القنطرة.
كما وضع السادات في اعتباره عند اتخاذ قرار الحرب أن الحرب وحدها هي التي ستعيد ثقة الضابط والجندي المصري في نفسه وقياداته وأسلحته، أما أسلوب المفاوضات- حتى وإن نجحت في إجلاء إسرائيل عن سيناء- فإنها لم تكن لتعيد هذه الثقة المطلوبة وبشدة بعد ما عانته القوات المسلحة نفسيا بسبب هزيمة 1967.
لذلك جاء قرار الحرب وخطتها متمشية تماما مع القدرات الفعلية للقوات المصرية، ولم تتجاوزها إلى تحرير كامل أرض سيناء، وهو ما كان خارج قدرات القوات المسلحة لافتقارها للمقاتلات القاذفة والمقاتلة التي توفر لها الحماية الجوية عند هجومها في عمق سيناء،
كذلك افتقارها للحجم اللازم من المدرعات الحديثة التي تكفل لها بناء احتياطات إستراتيجية تؤمن استمرار الدفع بالقوات في عمق الهجوم، مع تأمين الاتزان الإستراتيجي في الخلف، وبما يحرم القوات الإسرائيلية من تنفيذ تكتيكاتها المفضلة في تطويق القوات المعادية لها والالتفاف حولها وحصارها ثم تدميرها،
لذلك حددت القيادة العسكرية المصرية مهمة قواتها في اقتحام قناة السويس عنوة وتدمير العدو الإسرائيلي في خط بارليف، والوصول إلى خط بعمق 20كم والدفاع عليه، وصد الهجمات والضربات المضادة الإسرائيلية وتدميرها، مع الاستعداد لتطوير الهجوم شرقا طبقا للموقف في حينه"،
وقد نجحت القوات المصرية في تنفيذ هذه المهمة بامتياز، حيث استمرت الخمس فرق مشاة الموجودة شرق القناة في التمسك بدفاعاتها بعد تدمير خط بارليف، وتدمير جميع الهجمات المضادة المدرعة الإسرائيلية،
الأمر الذي اعترفت معه جولدا مائير وهي تصرخ في مكالمتها الهاتفية مع وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسينجر فجر يوم 9 أكتوبر، قائلة: "لقد خسرنا حتى اليوم 450 دبابة و120 طائرة، وأخشى أن نخسر سيناء"، فأجابها كيسينجر: "بل أخشى أن تخسروا إسرائيل ذاتها"
وكانت إجابة أمريكا بأن أقامت على وجه السرعة جسرًا جويًا عبر جزر – الآزور بالمحيط الأطلنطي نقلت عبره مقاتلات أمريكية وصواريخ مضادة للدبابات من الجيل الثاني مباشرة إلى مطار العريش، ومنه إلى الجبهة مباشرة في سيناء، فضلاً عن معدات إعاقة إلكترونية (شوشرة) على رادارات الدفاع الجوي المصري،
الأمر الذي تسبب في تحييد خطة تطوير الهجوم المصري شرقا يوم 15 أكتوبر، والاكتفاء بتدعيم رؤوس الكباري الخمسة المقامة شرق القناة، وعندما عمدت إسرائيل إلى نقل المعركة إلى غرب القناة لم تستطع أن تفعل ذلك عبر اختراق أحد رؤوس الكباري،
ولكن استغلت الثغرة الموجودة شرق البحيرات المرة بين الجيش الثاني والثالث وكانت خالية من القوات باستثناء كتيبة كويتية في منطقة فايد غرب القناة،
وهو ما أمكن لقواتنا غرب القناة من الإحاطة بهذه الثغرة واحتوائها استعدادًا لتصفيتها، وهو ما أبلغ به السادات كيسينجر، واعترف الأخير بقدرة الجيش المصري على ذلك،
ولكن أمريكا لن تسمح به لما يشكله من إبادة وتدمير للقوات الإسرائيلية الموجودة في الثغرة، لا سيما بعد أن تقطع القوات المصرية خط إمدادها شرق القناة،
عند ذلك قال له السادات: "إنني حاربت إسرائيل عشرين يوما، ولكني لست على استعداد لمحاربة أمريكا، وبالتالي على واشنطن أن تتحمل مسؤولياتها في إجبار إسرائيل على سحب قواتها من سيناء طوعا بدلا من الحرب،
وهو ما استجابت له واشنطن وبدأت بالفعل تحمل دورها في مفاوضات فض الاشتباك وسحب القوات الإسرائيلية من سيناء، حتى تم تحرير كامل تراب سيناء من الاحتلال الإسرائيلي وحتى آخر حبة رمل في طابا في أبريل العام 1982،
في الوقت الذي لا تزال فيه الأراضي العربية الأخرى في الجولان والضفة الغربية وغزة محتلة حتى اليوم، ومنذ أربعين سنة، وهو ما يؤكد صحة رؤية السادات الثاقبة في أن "99% من أوراق اللعبة السياسية في أيدي أمريكا"، وذلك بحكم كونها الراعية والداعمة لإسرائيل سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديا، واستغلال السادات للمكاسب العسكرية التي حققها الجيش المصري على الأرض في سيناء في تحريك القضية سياسيًّا، والتفاوض لاستعادة باقي الأرض، وهو ما لم يكن ممكنا تحقيقه من دون الانتصار العسكري الذي تحقق على الأرض، وأثبتت به القوات المسلحة المصرية ذاتها وقدراتها.