يبدأ كتاب "توماس إف. مادين" المعنون"إمبراطورية الثقة" بقصة غزو روما لـ"لوكري" وهي (مدينة - دولة) إيطالية صغيرة.
كان
المكلف بالمحافظة على الأمن في تلك المدينة ضابطا رومانيا يدعى
"بليمينيوس"، كان يتبع في عمله أساليب قاسية، حيث كان لا يتورع عن سلب
ونهب المزارات الدينية المقدسة، واستعباد أهل المدينة وتكليفهم بالعمل
بنظام السخرة. وعندما ذهب وفد من "اللوكريين" فيما بعد إلى قاعة مجلس
الشيوخ في روما، فإنهم لم يكونوا ذاهبين لطلب العفو والإحسان - كما توقع
شيوخ كثيرون - وإنما لتقديم شكوى من"بليمينيوس"، الذي اتهموه بأنه طاغية.
وقال أحدهم عنه:"ليس هناك شيء إنساني فيه سوى وجهه ومظهره".وصاح آخر:"ليس
هناك أي علامة تدل على أنه روماني سوى ملابسه ولغته".
وعلى رغم
أنهم تمردوا على روما فيما بعد - عندما وقفوا في صف عدوها اللدود"هانيبال"
ـ إلا أنهم كانوا يتوقعون من روما أفضل مما كانت تقدمه لهم. وقال "مادين"
عن ذلك:"لقد كانوا واثقين أن الرومان سيتصرفون بمسؤولية، وحتى عندما خان
الرومان تلك الثقة، فإنهم كانوا واثقين أنهم سيعيدون الأمر إلى نصابه في
نهاية المطاف". إلى هذا الحد بلغت شهرة الرومان في النزاهة والعدل، وإلى
هذا الحد كانوا معروفين بالالتزام بمسؤوليات القيادة.
نحن لسنا رومانيين بالطبع، كما أن ألويتنا المقاتلة الحالية تختلف عن الفيالق
الرومانية القديمة وهو ما أوضحه "مادين" بالطبع. ولكننا في القوات المسلحة
الأميركية نشبه الرومان في الالتزام بالقيم العليا، كما يتوقع منا
دائماً أن نفعل الصواب، وعندما نخطئ، ألا نتردد في تصحيح موقفنا.كما فعل الرومان قبلنا
لقد
عرفنا بعد سبع سنوات من الحرب في أفغانستان أن الثقة هي أهم شيء، وإن
بناءها يستغرق وقتاً، وأن فقدها لا يستغرق سوى ثوانٍ، وإن المحافظة عليها
ربما يكون هو أهم أهدافنا، وأصعبها على الإطلاق.
لعل هذا السبب
الذي يجعلنا نقول إن صور المعاملة السيئة للسجناء في جوانتانامو، لا تزال
تعمل كأداة لتجنيد المزيد من المتطرفين في صفوف "القاعدة"، وهذا هو أيضاً
السبب الذي يجعل سقوط أي ضحية مدنية حتى لو لم نكن مسؤولين عن سقوطها
مسؤولية مباشرة، يؤخر جهودنا الرامية لكسب المزيد من الثقة وسط الأفغان،
ويعيدها إلى الوراء شهوراً، إن لم يكن أعواماً.
وليس مهماً أننا
نحاول جاهدين ألا نلحق الأذى بالأبرياء ـ ونحن نبذل قصارى جهودنا بالفعل
في ذلك، وليس مهما هنا أيضاً أننا نحاول استخدام قدر متوازن من القوة،
وليس مهماً أيضا الدقة التي نضرب بها، وليس مهماً أن العدو يختبئ وراء
المدنيين، وإنما المهم هو الموت والدمار الذي ينتج عن العمليات التي نقوم
بها، والاعتقاد الذي يساور البعض بأنه كان بمقدورنا تجنب كل ذلك، وأننا
مهما حاولنا التبرير، فإن الحقيقة البادية هي أننا، على نحو ما، نقتل نفس
المدنيين الذين نقول إننا نسعى إلى حمايتهم.
لن يكون بوسعنا أن
نهزم تمرداً بهذه الطريقة. نحن نستطيع بالطبع إرسال المزيد من القوات، كما
نستطيع قتل أو أسر قادة "القاعدة" و"طالبان" الذين نعثر على مكانهم - وهو
ما يجب أن نفعله- كما نستطيع أن نطهر الملاذات الآمنة، وأن نقضي على تجارة
المخدرات، ولكن مالم نثبت أننا قادرون، بمساعدة حلفائنا وشركائنا الأفغان،
على حماية السكان، فإننا لن نتمكن أبدا من نشر السلام والرخاء في ربوع
أفغانستان.
يجب أن نعرف أننا إذا ما فقدنا ثقة الناس هناك،
فسنخسر الحرب. ولحسن الحظ أن وثائق "مراجعة الأوضاع في أفغانستان" تقر
بذلك، وتسعى إلى إتخاذ مقاربات عسكرية، واقتصادية، وسياسية ، ودبلوماسية
ومعلوماتية من أجل استعادة تلك الثقة. إننا نعرف أن الناس هم الأمل طويل
الأمد للنجاح، وأنه ليس هنا حل واحد، أو إجراء وقائي واحد، سيكون كافياً
لحمايتهم.
نحن نعرف كذلك أنه يتعين علينا اتخاذ نهج إقليمي لأن
أفغانستان وباكستان تقاتلان عدواً مشتركاً، ولأن الإرهابيين يعاقبون
الدولتين معاً على محاولاتهما مقاومة أيديولوجية العنف الذي يزداد شراسة.
لذلك،
ومن أجل تحقيق فعالية أي مقاربة نتخذها في هذه الدولة، فإنه يتوجب علينا
إدماج التحديات الأمنية في أفغانستان وباكستان، وكذلك الدول المحيطة بهما
في تلك المقاربة إذا أمكن ذلك.
والنظر من خلال هذا المنظور
الإقليمي يبدو صعبا، إذا أخذنا في اعتبارنا العجز في رصيد الثقة المتبادلة
بيننا وبين باكستان. فهناك جيل كامل من العسكريين الباكستانيين، إما أنه
لا يعرف أميركا وإما أنه لا يثق بها أو الشيئين معا. أما الشيء الذي يعرفه
هؤلاء الضباط جيدا فهو أن هناك قيوداً مفروضة على تقديم المساعدات
العسكرية لباكستان بموجب ما يعرف بـ" تعديلات بريسلر" الصادرة عام 1990.
فبموجب تلك التعديلات قطعنا المساعدات عن باكستان لمدة 12 عاماً، وقطعنا
في الوقت نفسه الصلة الوثيقة التي كانت قائمة بيننا وبينها.
وقد
عبر أحد المسؤولين الباكستانيين عن هذا الوضع مؤخراً عندما قال:"لقد تخلت
الولايات المتحدة عن باكستان مما خلق نوعاً من عدم الثقة المتبادلة بينها
وبيننا... وهذا النوع من إنعدام الثقة لم يسمح لنا -ولا يزال - بالتوصل
لاستراتيجية موحدة لهزيمة الإرهاب".
إننا نعمل من أجل عكس هذا
الاتجاه، وهناك في الوقت الراهن، وحدة من الخبراء العسكريين الأميركيين
تقوم بتقديم المساعدة في التطوير المتخصص لمهارات المدربين الباكستانيين
العاملين في مقاومة التمرد، كما سيتم دعوة أعداد متزايدة من الضباط
الباكستانيين للتدريب في كلياتنا. وآمل في الوقت نفسه أن يتدفق المزيد من
المعونات والمزيد من المساعدات الفنية الأميركية على المناطق الباكستانية
المتاخمة لحدودها مع أفغانستان.
من ناحيتي، كنت حريصاً على جعل
مسألة تطوير علاقات شخصية أكثر متانة مع قائد الجيش الباكستاني الجنرال
"اشفاق كياني" وغيره من القادة العسكريين والمدنيين في ذلك البلد على رأس
قائمة أولوياتي. كما رتبت أن أذهب لباكستان في كل مرة أتواجد فيها
بالمنطقة. فنحن لا نستطيع أن نكتسب الثقة عبر سماعات الهاتف، وإنما نستطيع
بناءها مع شخص واحد فقط، وحول موضوع واحد فقط.
الرومانيون عرفوا
ذلك. فبعد أن استمع أعضاء مجلس الشيوخ الروماني لمطالب "اللوكريين "رتبوا
فورا لإرسال وفد منهم للتحقيق في دعاوى سوء المعاملة وعندما تبين لهم أن
تلك الدعاوى حقيقية قاموا باستدعاء الضباط الرومانيين العاملين هناك على
الفور، وتم إعادة النساء والأطفال اللوكريين إلى عائلاتهم كما تمت إعادة
الأموال المنهوبة مضاعفة ووضعها في دار خزانة "لوكري".
وهكذا
استطاعت روما استعادة الثقة التي عملت جاهدة من أجل استعادتها، ليس فقط
بدافع المصلحة الذاتية، وإنما بدافع المحافظة على الشرف وإعلاءٍ لمبدأ
الإيثار، وهو ما يرى "مادين" في كتابه أنه كان يمثل درساً يعتبر في نظره
"واحدا من أندر كنوز التاريخ".
ربما يكون الرجل على حق، لكن
الحقيقة أن هذا الدرس لا يبدو على هذه الدرجة من الندرة التي يزعمها
مادين. فأنا أرى نفس هذا النوع من الثقة وهو يتم بناؤه بواسطة قواتنا في
مختلف أنحاء العالم. فهذه القوات تبني المدارس، والطرق، والأسوار،
والمستشفيات، ومحطات القوى. كما تعمل كل يوم تقريباً في مجال إقامة البُنى
التحتية التي تمكن الحكومات المحلية من الوقوف على أقدامها والاعتماد على
أنفسها. فتلك القوات تساهم ـ في معظم الأوقات ـ في بناء الصداقة في نفس
الوقت الذي تقوم فيه بمطاردة العدو. إنها تبني الثقة بأسلوب ممتاز في
الحقيقة.
إننا لا نقوم دائماً بعمل الأشياء على النحو الصحيح،
ولكننا، وشأننا في ذلك شأن الرومانيين القدماء نبذل قصارى جهدنا في
النهاية لكي نقوم بذلك الشيء تحديداً، وهذا هو ما يصنع كل الفارق بيننا
وبين الآخرين.
مايك مولين
رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة