حيث تفشل فرنسا في استعادة أمجادها الديجولية تجاه شعوب العالم الثالث،
أو إزاء التحدي الأميركي لها في معظم مناطق نفوذها، بل واضطرارها -المخزي-
لمشاركة الأميركيين سياساتهم في الخليج وسوريا ولبنان، لا تجد فرنسا مجدها
إلا في إعادة كتابة التاريخ، وخاصة التاريخ العربي ذي العلاقة معها، علاقة
الاستعمار الفرنسي البائس طبعاً والذي شل أجزاء كبيرة من الوطن العربي،
وامتد إلى أقاصي الأرض من الهند الصينية إلى أميركا الوسطى• لقد أطلق عدد
من أحرار فرنسا على هذه المراجعة ’’حرب الأمجاد الفرنسية’’، وأسماها آخرون
’’الحرب على التاريخ الفرنسي’’، وذلك حين تقدم برلمانيون كثر وخاصة من
اليمين الفرنسي بـ’’مشروعات قوانين’’ للنص على تمجيد ’’الدور الإيجابي’’
للاستعمار الفرنسي، وإعادة بناء ذاكرة الفرنسيين•
هذا ما صمم اليمين الفرنسي، وأغلبية الجمعية الوطنية الفرنسية عموماً،
على تأكيده، في القانون رقم 158 في 23 فبراير ،2005 والذي رفض البرلمان
الفرنسي التراجع عنه بناء على طلب نسبة من النواب في نوفمبر الماضي، وكانت
مجموعة برلمانية تحاول الاستجابة لمطالب أطراف عديدة مثقفة وتعليمية -في
فرنسا- فضلاً عن احتجاجات بلدان المغرب العربي وخاصة في الجزائر•
والموضوع يتمثل في هجمة اليمين والوسط الفرنسيين مؤخراً لوقف ميول بعض
الدوائر الفرنسية للتحرر من النفوذ الأميركي، والاقتراب من بلدان الجنوب،
في صور مختلفة كان أحدها في العالم العربي، في محاولة فرنسية للاحتفاظ
بمكانتها في اتحاد أوروبي مستقل• وقد نجح هذا اليمين، ضمن نجاحاته
السياسية والاقتصادية، في مهاجمة البعد الثقافي والفكري الذي يبقى لفرنسا
في علاقاتها مع هذه العوالم الخارجية، وضمن ذلك إعادة صياغة التاريخ
والوقائع التاريخية نفسها لصالح فئات إمبريالية وضد الهويات الوطنية
لشعوبنا في بلدان الجنوب•
كشف عن ذلك مؤخراً صدور القانون الذي اشتهر بـ’’قانون 23 فبراير ’’2005
حول الدور الإيجابي للوجود الفرنسي في مستعمراتها، وإلزام المؤسسات
التعليمية والجامعية بالتعبير عن ذلك في تدريس التاريخ• وتلزم هنا القراءة
الدقيقة لبعض مواد هذا القانون الذي ينص في مادته الأولى على أن ’’تعبر
الأمة عن عرفانها بالدين للنساء والرجال الذين شاركوا في العمل الذي قامت
به فرنسا في مستعمراتها وخاصة في الجزائر والمغرب وتونس والهند الصينية•••
وأن تعترف (الأمة الفرنسية) بالآلام والتضحيات التي تحملها النساء والرجال
والعسكريون••• في هذه الأقاليم•’’
أما المادة الرابعة في القانون فتنص على ’’أن تمنح مقررات الجامعة
المكانة المناسبة التي يستحقها وجود فرنسا فيما وراء البحار خاصة في شمال
أفريقيا••• ولابد أن تعترف برامج التعليم المدرسي بالدور الإيجابي الذي
حققه الوجود الفرنسي فيما وراء البحار وخاصة في شمال أفريقيا، وعليها أن
تسجل المكانة اللائقة التي يستحقها هذا التاريخ وتضحيات أفراد القوات
المسلحة الفرنسية •
وفي مثل ذلك من صياغات القانون وقوانين سابقة يذكر البرلمان قوانين
خاصة بإنشاء مؤسسة لإعادة بناء كتابة التاريخ ودراساته في الجزائر بشكل
خاص، وذكر كلمة ’’حرب الجزائر’’ بدلاً من ’’قوات حفظ النظام’’ حتى يحصل
بعض الفرنسيين على وضع ’’المحاربين القدامى’’ دون غيرهم من أبناء الجزائر
الذين حاربوا فرنسا ضد إخوانهم أثناء الثورة الجزائرية (الحركيون وعددهم
حوالى 200 ألف جزائري)•
حين أبدأ بلوم موقفنا كمثقفين عرب في السكوت على صدور مثل هذه
التشريعات ذات الطابع العنصري فعلياً في البلدان الغربية، فإنني أريد
التنبيه بأن ذلك يمثل خطراً مباشراً على التعامل مع أبناء البلاد العربية
والأفريقية في البلاد الأوروبية على نحو ما يظهر في الموقف من الهجرة
العربية الإفريقية، والمساعدات الأوروبية للشعوب الأفريقية الفقيرة أو
استمرار الاضطهاد وسياسات الإفقار حتى في مجال الزراعة وليس فقط في قوانين
مواجهة الإرهاب، ذلك لأن الأوروبي سوف ينزع من نفسه نهائياً أي إحساس
بالذنب التاريخي عن فترة استعماره وقهره لهذه الشعوب ولابد أننا قد لاحظنا
الرفض الأوروبي الدائم لفكرة الاعتذار وطــــرح فترة تسامح جديدة بيــن
العالميــن•
وقد انتبه آلاف المثقفين الفرنسيين أنفسهم لمخاطر ذلك على وضع ومستقبل
الليبرالية والديمقراطية والاندماج الاجتماعي في بلادهم، فما بالك
ببلادنا، وخلال تلك الشهور التي مضت على صدور القانون قام أكبر أساتذة
التاريخ الفرنسي (كلود ليوزو وغيره) بإصدار بيانات مضادة للقانون مطالبين
الجمعية الوطنية بمراجعته، كما وقع أكثر من ألف مدرس وكاتب فرنسي بيانات
احتجاج على القانون، وكذلك فعلت جمعيات حقوق الإنسان ومناهضة العنصرية،
والحوار حول التاريخ الفرنسي، ثم مؤتمر جمعية القلم الدولية، مؤخراً
(يونيو 2005)• ويتركز الاحتجاج من جانب المثقفين الأوروبيين على الكثير من
جوانب القضية بعضها يتعلق بحرياتهم المباشرة في دراسة تاريخهم دون نص رسمي
من الدولة وصفه بعضهم بالأكاذيب الرسمية، ويتعلق الآخر بمبادئ حرية الفكر
والتعبير، أو بطبيعة صياغة الذاكرة الوطنية بناء على جدل تاريخي وليس على
الطبعة الموحدة وذكر البعض أن تمجيد تاريخ فرنسا الاستعماري يعني تمجيد
أعمال مجرمي حرب إلى حد طلب أعضاء الجيش السري الفرنسي في الجزائر وأصحاب
’’الأقدام السوداء’’ إقامة نصب تذكارية لهم في جنوب فرنسا•
وذكّر بعضهم بما جرى حول منع مناقشة مسألة الهولوكوست ’’المحرقة’’ في
قانون آخر منذ •1990 على الجانب الآخر من المتوسط، استشاطت أطراف كثيرة من
النخبة الجزائرية من صدور هذا القانون الذي ’’يمجد الاستعمار الفرنسي’’
وخاصة في الجزائر! بينما تسعى الشعوب للحصول على اعتذارات من بعضها تجاه
الآخر، بدأت به فرنسا نفسها باعتذار ألمانيا وتشغل القضية كلا من كوريا
والصين••• إلخ، وإذا بفرنسا تسعى بعد صدور هذا القانون الذي يخص الجزائر
دائماً بالذكر، بالحصول على معاهدة صداقة وتعاون خاصة مع الجزائر تتجاوز
كل المآسي لتنفرد بعلاقات خاصة جديدة في مواجهة النفوذ الأميركي الزاحف
على المغرب عموماً•
إن جوهر الانتباه في الحملة الواجبة على القانون الفرنسي 158- 23
فبراير 2005 هو أنه يطلب من الشعوب شطب ذاكرتها الوطنية في فترات بالغة
القسوة من تاريخها نتج عنها دفع حركات وطنية، واجتماعية جديدة ومحاولات
بناء حديثة، في الوقت الذي يمجد الدور الإيجابي للوجود الفرنسي، والوضع
اللائق الذي تستحقه القوات المسلحة التي ’’عملت’’ فيما وراء البحار• ومعنى
ذلك أنه يصبح علينا مراجعة تاريخنا الوطني الحديث الذي يقوم على المقاومة
الشعبية الشهيرة للحملة الفرنسية على مصر وبلاد الشام أو مقاومة الإنجليز
في السودان والعراق••• أما الأدبيات المغاربية فإنها تزخر بمآسي الاستعمار
الفرنسي ضد الثقافة والهوية والأرض والبشر على السواء، لذلك فإنني آسف أن
تقتصر إثارة هذه القضية الخطيرة على بعض مثقفي أو سياسيي الجزائر أو
المغرب وحدهم! لأننا جميعاً -مشرقاً ومغرباً- مطالبون بوقفة تستحقها
الأوضاع المتردية في المنطقة، شاملة المصالح المادية، والوضع السياسي،
وقضايا الهوية•