المقدمة:
إن فن الحرب دائم التطور، حيث تحل النظريات العسكرية الحديثة، محل النظريات، التي تقادمت، وتأتي النظريات الجديدة، متوافقة في الظروف السياسية والاقتصادية، والاجتماعية، والتطور التقني، وكل حرب جديدة تتطلب إعادة النظر، في كل ما سبق، ويعود أصل نظرية "الحرب الخاطفة" إلى ألمانيا. فبعد أن أصبح هتلر سيد ألمانيا، عام 1933م عكف، مع قادته، على إيجاد نظرية جديدة للحرب، تتمشى مع تقنيات التسليح المتوافرة، وما يمكن تطويره مستقبلاً، وبما يحقق أهدافه التوسعية بشكل سريع وحاسم، وعكف قادته على دراسة القواعد والنظريات العسكرية، عبر التاريخ، وما هو سائد في حينها، سواء في الشرق أو الغرب، بشكل عام.
أخذت النظرية، من العصور القديمة، "الاقتراب غير المباشر"، و"قوة الصدمة"، ومن سن تزو "الحرب الحاسمة"، ومن أيبامينونداس، "تركيز الجهود"، ومن الإسكندر الأكبر، "خفة الحركة وسرعة الحسم"، ومن بليزير، "الهجوم الخاطف" و"الإغارات العميقة" و"التحليل النفسي للخصم"، ومن المعارك والحروب الإسلامية، تعزيز النجاح والمناورة بالجهود وتركيزها ضد مركز ثقل العدو، والهجوم في الدفاع والدفاع في الهجوم، ومن جنكيزخان، "الحرب الصاعقة" و"حرب الحركة"، ومن فردريك الثاني، "خفة الحركة" و"العمل من خطوط داخلية"، و"التفوق في النقطة الحاسمة"، ومن كلاوزفيتز، "مركز الثقل للحلف المعادي" و"تحديد طبيعة الاشتباك"، ومن الحروب الأهلية الأمريكية، "إستراتيجية الإجهاد" و"خفة الحركة"، ومن فون مولكته، "ضرب الحركة" و"تجزئة العدو وتدميره على التتابع"، ومن لودندورف، "الحرب الشاملة" و"التسلل"، ومن فوللر وليدل هارت، "الحرب الميكانيكية" و"السيل المنتشر"، و"الاقتراب غير المباشر"، و"المبادئ الأولية للحرب الخاطفة"،) وتبلورت النظرية وأخذت طريقها للتطبيق في الحرب العالمية الثانية، وحققت نجاحاً مذهلاً لألمانيا على المسرح العسكري.
من أبرز تطبيقات نظرية الحرب الخاطفة، في العصر الحديث، تطبيق إسرائيل للنظرية في جميع الجولات العربية الإسرائيلية، وإن كان بعضها
بأشكال جديدة، مرتبطاً بتقنيات التسليح، وما طبقه ماك آرثر، القائد الأعلى للقوات الأمريكية في الشرق الأقصى، خلال الحرب الكورية 1950. ولذا عُدت نظرية الحرب الخاطفة، البداية، التي انطلقت منها، جميع النظريات العسكرية الحديثة، وعنها تطورت.
أ
ولاً: النظرية الجديدة للحربمهما قيل، عن أخطاء هتلر في أهدافه وإدارته للحرب، فإنه يجب أن ينسب إليه الفضل في الانتصارات، التي أحرزتها ألمانيا في المراحل الأولى من الحرب العالمية الثانية، وإيجاد آلة الحرب، التي تستطيع أن تحقق أهدافه السياسية، وكان مسؤولاً عن تطوير أنواع جديدة من الأسلحة، والتكتكيات، والإستراتيجية العسكرية، وبتشجيع هتلر للأفكار الجديدة عن الميكنة والحرب سريعة الحركة، فإنه بذلك مهد الطريق لنظرية الحرب الخاطفة. بعد النجاح الخاطف لقوات هتلر، في عامي 1939م، 1940م شاع استخدام مصطلح "الحرب الخاطفة" Blitzkrieg، وصورته بعض الأوساط بأنه صورة من صور الهجوم، التي أغرقت دفاعات الحلفاء بطوفان من الدبابات وقوة النيران معتمدين على تفوق المدرعات الساحق. وفي الحقيقة كان ذلك بعيداً عن الواقع، إذ إن الألمان تمكنوا من هزيمة الحلفاء، بواسطة الاستخدام الجيد للقوات، الناتج عن الفكر العسكري، وليس التفوق العددي، حيث كان الحلفاء في فرنسا، يتمتعون بتفوق عددي، في كل من المشاة والمدرعات، وكان جوهر الفكر العسكري الألماني يرتكز على:
"اختراق دفاعات العدو، في عدة نقاط مختارة، تليها هجمات سريعة لاستغلال الاختراق، وذلك لتحقيق الاختراق العميق، ثم تدمير القوة الرئيسة لدفاعات العدو".
تدرب الألمان على أساس مبدأ "الهدف، الذي لا حد له" وذلك لوعيهم بنظريات رواد الإصلاح، مثل لودندورف، وفوللر، وليدل هارت، فبنوا تكتيكاتهم على الأساس الآتي:
1. يتولى الاستطلاع الأولي أو المخابرات، تحديد الثغرات، أو نقط الضعف في مواجهة العدو، من مستوى الفرقة وحتى مجموعة جيوش.
2. هجوم عام على مواجهة واسعة، بهدف تثبيت القوات المدافعة.
3. قوات الضربات الرئيسة، التي أساسها القوة المدرعة، تقوم بمهاجمة
.
.كل من الثغرات، التي تم تحديدها، وتحقيق اختراق في مواجهات محدودة، وتقوم المدرعات، ومعها الأسلحة المعاونة، بتحقيق الاختراق العميق لخطوط العدو، مع قطع خطوط إمداداته، وإرباك مراكز مواصلاته، وبعد ذلك تقوم المشاة الميكانيكية باللحاق بالقوات المدرعة، وتستغل الاختراق وتحقق النتيجة الحاسمة.
4. على أن تتولى المشاة تأمين أجناب ثغرات الاختراق، عند بدء مرحلة الاختراق.
طبق الألمان النظرية، أثناء الحرب الأهلية الأسبانية، ومن خلال دراستهم الدقيقة في إيجاد جميع التفاصيل اللازمة لإيجاد إستراتيجية عسكرية، ذات تحديد دقيق، وجدوا أن كل نقطة اختراق على مواجهة الفرقة، لا تحتاج إلى أكثر من مواجهة اختراق بعرض حوالي من 1ـ 2 كم، وكان هذا كافياً لتحقيق من 2ـ 3 اختراقات في هجوم رئيس، ونصّوا أيضاً، في تعليمات التدريب، على إجراء التجميع اللازم للقوات المطلوبة، لكل مرحلة من مراحل عملية الاختراق.
وواجهتهم مشكلتان في النظرية: الأولى منها خاصة بتعرض القوات القائمة بالاختراق. إلا أنهم، اعتمدوا على المفاجأة والسرعة، وهما عاملان كافيان لتحطيم معنويات العدو، لدرجة لا تمكنه من القيام برد فعل أو هجوم مضاد منسق، قبل قيام قوات المشاة الميكانيكية من اللحاق بالقوة المدرعة. أما المشكلة الأخرى فخاصة بصعوبة توفير المعاونة المباشرة بعد إتمام الاختراق، وكذلك مشكلة احتلال الأرض، حيث إن المدفعية لا تتوافر لها خفة الحركة للحاق بالدبابات، كما أن المشاة يصعب عليها التقدم بسرعة كافية لاحتلال الأرض، التي استولت عليها الدبابات، وكان الحل في استخدام الطيران للمساعدة التكتيكية، خاصة القاذفات المنخفضة، وبذلك أمكن توفير المعاونة النيرانية بأسرع تقدم للدبابات، كما حُلّت المشاة، باستخدام المشاة الميكانيكية المحملة على عربات نصف جنزير، لتوفير سرعة ملاحقة الدبابات بالمشاة.
في مايو 1940م غزت ألمانيا غرب أوروبا، بدبابات يقل عددها عن دبابات الحلفاء، حيث كانت للقوات الألمانية 2574 دبابة، مقابل 3500 دبابة للحلفاء، أي بنسبة 1.4 : 1 لصالح الحلفاء، كما قام الألمان بتجميع فرقهم المدرعة، وحشدها في ثلاثة فيالق مدرعة، كل منها في 3-4 فرق مدرعة، وتركّز الهجوم في مواجهة محددة، حيث وصلت إلى حوالي 3ـ4 كم، وهي درجة من التركيز تجعل عملية الاختراق مؤكدة، وعندما حدث
.الاختراق، لم تكن لدى القوات المدافعة أي خطة تكتيكية تستطيع التعامل مع الموقف.
ثانياً: المجال القومي ونظرية الحرب الخاطفةتعتمد نظرية الحرب الخاطفة في أساسها على مفهوم "التسلل" على المستوى العسكري، ولكن يسبق هذا التسلل إجراءات أخرى على المستوى القومي، في إطار مفهوم التسلل على المستوى السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، بهدف تفتيت مقاومة العدو أو إضعافها، وقهره من الداخل، بأقل تكاليف، وفي أقل زمن متاح، فالمهاجم يبحث عن أضعف نقطة في العدو، وقبل إعلان الحرب، يتسلل من خلالها.
1
. التسلل السياسييهدف إلى تدمير البنيان السياسي للعدو أو تفتيته أو إضعافه، ويستخدم في ذلك العملاء، والمندوبون، وأساليب الحرب النفسية، مثل: الشائعات، وتشويه الحقائق، والتضليل، وبث التفرقة بين المجتمعات، مثل تعظيم مشكلات الفتنة الطائفية والصراعات الحزبية، أو الطبقية، أو بين النظام الحاكم والشعب.
2. التسلل الاقتصادييهدف إلى تدمير البنية الاقتصادية للعدو، باستغلال المنافسة والصراع الاقتصادي، والأحلاف والتكتلات الاقتصادية، وأساليب الاحتكار، والإغراق، والحصار الاقتصادي.
3. التسلل الاجتماعييهدف إلى شرخ، البناء الاجتماعي للعدو أو تدميره أو إضعافه، ويشمل كل ما يتعلق بالمجتمع والسكان، ويتحقق بأساليب التفرقة، والحرب النفسية؛ لإضعاف الروح المعنوية للعدو، ويؤدي الصراع الثقافي وحرب الإعلام دوراً مهماً في هذا المجال.
4
. في النهاية، بعد تحقيق الأهداف السياسية والسياسية العسكرية من التسلل في المجال السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، يأتي دور التسلل العسكري، الذي يكون ذا طبيعة هجومية، لسرعة حسم الموقف العسكري، وتحقيق هدف الحرب.