استقطبت جزيرة ليلى الصخرية التي لا تبعد أكثر من مائتي مترًا عن السواحل المغربية أنظار العالم على مدي عشرة أيام، كثرت فيها الغيوم في العلاقات المغربية الأسبانية، وتحركت فيها البوارج والطائرات الحربية الأسبانية، وأوشكت شرارة الحرب أن تشتعل بين البلدين اللذين يطلان على مضيق جبل طارق مع أدنى تجاوز منها ثم ما لبثت الأزمة أن هدأت حدتها، وانزوت أحداثها بعيدًا مع انسحاب القوات الأسبانية من الجزيرة بعد الوساطة الأمريكية.
ورغم أن أزمة ليلى هدأت، وعاد الهدوء النسبي إلى الدولتين الواقعتين شمال وجنوب البحر المتوسط، إلا أنها أعادت فتح ملفات لم تغلق في العلاقات بين الرباط ومدريد، وأثارت كثيرًا من التساؤلات حول أسباب انشغالها واختفائها السريع، وانتقالها لتصبح أزمة عالمية، ثم خفوتها المفاجئ والسريع واختفائها من بؤرة الاهتمام وصدارة الأحداث الدولية.
وجزيرة ليلى جزيرة صغيرة تبعد حوالي 145 مترًا من سواحل المغرب على البحر المتوسط، وتبلغ مساحتها حوالي 33 فداناً، في حين أنها تبعد عن الأراضي الأسبانية 15 كيلومترًا، وتبعد عن مدينة سبتة المغربية التي تحتلها أسبانيا حوالي 4 كيلو مترًا، ويحجب رأس جبل موسي المغربي رؤية ليلى عن أعين المراقبين الأسبان في سبتة والجزيرة غير مسكونة ولا تتمتع بأهمية استراتيجية أو سياحية ذات معنى، وتنحصر أهميتها في عمليات الهجرة غير الشرعية من المغرب إلى أوروبا، وفي عمليات تجارة المخدرات.
وقد بدأت أزمة ليلى يوم الحادي عشر من يوليو عندما احتجت الحكومة الأسبانية على نشر المغرب 12 جندياً دركيًا في الجزيرة، وهو ما اعتبرته مدريد استفزازًا لها، وانتهاكًا لاتفاق مغربي - أسباني باعتبار الجزيرة أرض خلاء، أما المغرب فأعلنت دافعها لنشر جنودها في ليلى وهو أن الرباط استقت عملية إرهابية وشيكة كانت ستنطلق من ليلى تستهدف مضيق جبل طارق، وأنها أقامت هذا المركز الأمني لمنع وقوع هذه العملية التخريبية.
وأضافت المغرب أنها ليست المرة الأولى التي تنشر فيها قوات مغربية في الجزيرة لأسباب أمنية منذ انسحاب الوحدات الأسبانية منها في الستينات، ونفت أن يكون وراء قرارها بنشر جنودها في ليلى أي أهداف مغربية لإعادة فتح الملفات العالقة مع أسبانيا إلى واجهة الأحداث.
أما أسبانيا فتحركت سريعًا وتحرك معها الاتحاد الأوروبي في أثناء زيارة وزير الخارجية الأسبانية آنابلاسيو إلى بروكسل عاصمة الاتحاد الأوروبي أعلنت أنها لا تتذكر أنها قرأت في كتب التاريخ الأسباني أن هناك جزيرة أسبانية اسمها برخيل (ليلى) ثم تحركت الآلة الدبلوماسية والإعلامية الأسبانية تجاه الاتحاد الأوروبي الذي أصدر بيانًا سريعًا اعتبر فيه جزيرة ليلى جزءًا من الفضاء الأوروبي أي اعتبرها أرضًا أسبانية، وهو ما لم تقله أسبانيا نفسها، وكان صوت فرنسا خافتًا في الاتحاد نظرًا لحساسية التنافس بينها وبين أسبانيا في المغرب.
وتحرك الإعلام الأسباني داخليًا وخارجيًا يحشد الرأي العام الأسباني خلفه، ونجح في إقناع الأوروبيين أن المغرب تجاوز دوره وحدوده تجاه دولة أوروبية، واقتنعت صحف أوروبية بالخطاب الإعلامي الأسباني وخرجت الجارديان البريطانية تقول: احتلال المغرب لجزيرة ليلى يعتبر أول عملية احتلال لتراب أوروبي بعد الحرب العالمية الثانية.
ولم يتوقف الأمر عند حدود التصعيد الدبلوماسي والإعلامي الأسباني ضد المغرب بخصوص ليلى، بل قامت مدريد بحشد قوات بحرية تضم عددًا من السفن الحربية والغواصات واخترقت طائرات أسبانية مقاتلة من طراز إف 16 ، وإف 18 المجال الجوي المغربي، وحلقت فوق الجزيرة.
ولم تمضي إلا أيام قلائل حتى قام عشرات الجنود من القوات الخاصة الأسبانية بعملية إنزال فوق الجزيرة وأسر الجنود المغاربة الستة الموجودين هناك، ورفع العلم الأسباني فوق ليلى، نشط المغرب دبلوماسياً على جبهة جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي ومجلس الأمن الدولي، مع التزام الرباط بعدم التصعيد العسكري، إذا بقيت شواطئها على حالتها الطبيعية، ولم تظهر أي حشود مغربية قبالة الجزيرة، فأدركت مدريد أن المغرب أخذ زمام المعركة بوجود الجنود الأسبان في ليلى، وبدأ يديرها لمصلحته بعدما واجهه الحشود والتدخل العسكري الأسباني بدبلوماسية نشطة جعلت من سلامة الأمن الإقليمي وحرية الملاحة البحرية في مضيق جبل طارق عنوانًا بارزًا في تحركها.
وسعت الدبلوماسية الأسبانية لاحتواء الوضع وتفادي مزيد من التصعيد خاصة وإن رأت شحنًا مقلقًا في الرأي العام المغربي قد يدفع الرباط إلى اتخاذ موقف أكثر تشددًا قد يؤدي إلى فتح ملف سبتة ومليلة المحتلتين من قبل أسبانيا منذ خمسة قرون، فبدأ المسئولون الأسبان - يتفادون الحديث عن سيادة أسبانية على جزيرة ليلى بناء على نصائح قدمها وزير الخارجية الأسباني انطلاقًا من أن موقف مدريد ضعيف أمام الدلائل التاريخية والقانونية المغربية، مع تأكيد مدريد على التزامها بمغادرة الجزيرة إذا التزم المغرب بعدم الإنزال العسكري فيها مرة ثانية.
وأعلن رئيس الوزراء الأسباني خوسيه ماريا، أنه أعطى أوامره لديبلوماسييه بالاستمرار في المباحثات مع المغرب لإيجاد حل للنزاع، وأعلنت وزيرة الخارجية أن كل ما تنتظره مدريد من المغرب هو إعلان واضح وصريح بالتعهد بعدم الإنزال العسكري مجددًا في الجزيرة، واقترحت على الرباط الاستعمال المزدوج للجزيرة لمحاربة المخدرات، والإرهاب والهجرة السرية، وأكد وزير الدفاع الأسباني أن مدريد لا تنوي البقاء في الجزيرة.
وكانت واشنطن هي الحاضر الفاعل في الأزمة وحتى انتهائها، فحاولت السفيرة الأمريكية في الرباط مارجريت تايلور التوصل لاتفاق بين الجانبين يتضمن انسحابًا مغربيًا من الجزيرة وإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل 11 يوليو وأن تتعهد الرباط بعدم العودة إليها عسكريًا وأن تفتح كل الملفات في العلاقات بين المغرب وأسبانيا وهو ما وافقت عليه المغرب، وحاولت تايلور إقناع بلاسيويه به إلا أن الأخيرة أصرت على انسحاب الجنود المغاربة في اللحظة نفسها مع استعداد المغرب لاستقبالها بعد ساعات تلتقي خلالها الملك محمد السادس لإبلاغها بالتعهد المغربي ولم تمض دقائق على هذه الوساطة الأمريكية حتى احتل الجنود الأسبان الجزيرة وتغير الموقف وأصبحت الرباط التي تصر على ضرورة انسحاب الجنود الأسبان من ليلى قبل إجراء أية مفاوضات.
وعادت الدبلوماسية إلى ملف ليلى بمستوي عالٍ إذ تولي وزير الخارجية الأمريكي باول بنفسه هذا الملف، وأجرى عدة اتصالات بمحمد السادس، واتصالات أخرى مع الأسبان توجت بتفاهم أسباني - مغربي حول ليلى يتضمن انسحاب القوات الأسبانية من الجزيرة ومحيطها وإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل دخول القوات المغربية والتزام المغرب بعدم دخول الجزيرة، والتفاوض حول الملفات العالقة بين البلدين وطارت بلاسيو إلى الرباط وصدر بيان مشترك من 100 كلمة وضع حدًا لتفاقم الأزمة.
وإذا كانت أسبانيا صنعت من قضية ليلى أزمةً دوليةً، فإنها باحتلالها الجزيرة خلقت أزمةً وطنيةً في المغرب ومطالب شعبيةً باستعادة سبتةة ومليلة والجزر المغربية الخمس (النكور وباديس وملوية، ورأس سيدي البشير، والضماريين).
ويشير البعض أن سبب الخلاف الأسباني الأخير مع المغاربة واحتلال مدريد لليلى يحمل دلالات مهمة منها: أن الموقف الأسباني المتشدد من جزيرة ليلى الصغيرة الصخرية البعيدة عن أسبانيا وذات الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية والسياحية المحدودة، كان موقفًا صعبًا متصلبًا متشددًا تجاه المغرب، دفع أسبانيا إلى تحريك قواتها وسفنها وبوارجها وغواصاتها وطائراتها نحو المغرب، ولا شك أن إقدام المغرب على فتح ملف سبتة ومليلة سيدفع أسبانيا إلى اتخاذ مواقف شديدة متصلبة متصاعدة، وهو ما يجب على الرباط إدراكه وعدم المغامرة بالاقتراب من هذا الحقل الملغم، فسبتة مساحتها 20 كم مربعًا ويبلغ سكانها 74 ألف نسمة وتقع في الجهة المقابلة لشبه جزيرة جبل طارق تمامًا، والذي نجحت أسبانيا في إيجاد توافق مع بريطانيا بخصوص جبل طارق كما أن سبتة تخضع لأسبانيا منذ 1850م.
ومليلة التي تبلغ مساحتها 12.5 كم2 وعدد سكانها 57 ألف نسمه، ويتمركز فيها الأسبان منذ عام 1496م وفيها ألوف الجنود الأسبان، بالإضافة إلى الجزر المغربية الأخرى التي تتخذ أسبانيا بعضها قواعد عسكرية.
فكل هذه المناطق المغربية التي تسيطر عليها أسبانيا هي حقول ملغمة يجب على الرباط ألا تقترب منها وإلاّ ستواجه برد فعل أسباني عنيف يفوق ما قامت به مدريد في ليلى، وتلك كانت الرسالة الأولي التي حملتها أزمة ليلى، والتي جاءت مشفوعة بمساندة أوروبية لأسبانيا في نزاعها مع المغرب لم تستطع فرنسا أمامه إلا التحفظ بصوت هامس منخفض لم يسمعه إلا القليل.
والواضح أن العامل الاقتصادي كان حاضرًا في أزمة ليلى، ويشير بعض الخبراء أن إقدام أسبانيا على احتلال ليلى يرجع إلى إعلان الرباط برنامج استثماري ضخم لتنمية أقاليم الشمال لبناء ميناء تجاري ومنطقة تجارية حرة، وتجهيزات سياحية ورياضية، وبنى تحتية مختلفة بدعم مباشر من بعض دول الخليج، ومؤسسة يوسايدي الأمريكية، وهو ما تخوفت منه مدريد من أن يؤدي إلى تراجع أهمية مدينة سبتة ومليلة وخروج الميناء الجديد الذي سيلعب دور إعادة توزيع السلع في منطقة شمال أفريقيا.
وتعتقد أسبانيا أن استعادة المغرب لجزء من سيادتها البحرية على جنوب المتوسط قد يدفع مدريد يومًا ما إلى التخلي عن مستعمراتها القديمة والتراجع شمالاً لتكون دولة أوروبية، وكان السمك والصيد الحاضر الغائب في أزمة ليلى فبعض التحليلات أرجعت الخلاف بين البلدين إلى نهاية ابريل عام 2000م عندما رفضت المغرب تجديد اتفاقية الصيد البحري مع الاتحاد الأوروبي والتي كانت تعارض فيها أسبانيا بقوة استعمال المغرب للأقمار الصناعية لمراقبة سفن الصيد الأوروبية وإفراغ بعض الصيد في المواني المغربية، واتهمت فيها أسبانيا المفوض الأوروبي للزراعة والصيد فرانز فيشلر بمحاباة المغرب، واشتكته إلى خافيير سولانا المفوض الأوروبي للسياسة الخارجية.
وقد تسبب رفض المغرب تجديد اتفاقية الصيد إلى حرمان أسبانيا من الصيد في 3500 كم من السواحل البحرية المغربية، ونحو 1.5 بليون دولار من عائدات تجارة السمك داخل الاتحاد الأوروبي، كما أجبر رفض المغرب مئات السفن الأسبانية على البقاء بدون حراك في انتظار اتفاق جديد لم يتم التوصل إليه حتى الآن.
ولم تستطع الرباط العودة إلى الوراء في موضوع الصيد البحري، ولم تقدم أسبانيا ما يدفع الرباط إلى الموافقة على هذا الملف، فأدى ذلك إلى احتقان شعبي ورسمي في البلدين عبر عن نفسه في موقف أسبانيا العدائي للمغرب في قضية الصحراء، ثم تلاه ترخيص الحكومة الأسبانية لشركة ريبسول الأسبانية للتنقيب عن النفط في السواحل المغربية الجنوبية المقابلة لجزيرة الكناري، وهو الأمر الذي دفع الرباط إلى سحب سفيرها من مدريد، وتجميد العلاقات السياسية بين البلدين، ثم تقليص التعاون الثقافي والاقتصادي والتراشق عبر وسائل الإعلام.
وكان العنوان الأكبر في الخلاف المغربي - الأسباني عدم تلبية الملك الأسباني خوان كارلوس الدعوة المغربية لحضور حفل زفاف الملك محمد السادس، وأعلنت الصحف الأسبانية أنه إذا لم تعد الرباط سفيرها لمدريد فإن الملك خوان لن يحضر حفل الزفاف.
وهكذا فإن هذا الاحتقان في العلاقات المغربية - الأسبانية كان لابد أن يقود إلى أزمة تفرغ فيها الدولتين غضبها الرسمي والشعبي، إلا أن الواضح أن المغرب كانت أكثر انضباطًا في إدارتها للأزمة مع أسبانيا، فهي لم تلجأ إلى التصعيد العسكري مثل أسبانيا، وإنما رأت أن تديرها من خلال المنظمات الدولية والإقليمية، وكان بإمكان المغرب استكمال نجاحها الذي حققته في أزمة ليلى بفتح الملفات العالقة بين البلدين خاصة سبتة ومليلة، والجزر الخمس التي تحتلها أسبانيا، لكن يبدو أن المغرب لم يستطع أو خشي الإمساك بهذا الخيط واكتفى بخروج الأسبان من ليلى مع تعهده بعدم دخوله عسكريًا فيها، أي أن الحصيلة النهائية للمغرب من الأزمة تساوي الأوضاع فيها مضافًا إليه المرارة التي تملأ نفوس المغاربة بأنهم وقفوا عاجزين أمام القوة الأسبانية متسلحين بالحكمة التي هي في حقيقتها ضعف الموقف وعدم القدرة على المواجهة.
ويبدو أن هذه المرارة التي تعتصر قلوب المغاربة ستجد لها طريقًا إلى صناديق الاقتراع في الانتخابات التشريعية المقبلة، حيث إن حكومة اليوسفي لم تستطع أن تلبي آمال المغاربة.
واللافت للنظر في أزمة ليلى هو الحضور الأمريكي الفاعل في الأزمة من بدايتها وحتى نزع فتيلها، فواشنطن تحتفظ بعلاقات صداقة وثيقة بين طرفي الأزمة وهي لا تستطيع مساندة طرف على حساب آخر، لهذا كان تدخلها تسوية وليس حلاً للأزمة مع الاكتفاء بإبطال مفعول القنبلة دون التخلص منها، لكن واشنطن استطاعت من خلال هذه الأزمة الصغيرة القيام بوساطة أدت إلى تطويق الأزمة مع النفاذ إلى منطقة تعتبر منطقة نفوذ طبيعية للاتحاد الأوروبي.
وهو ما يشجع الولايات المتحدة لإدارة أزمات أخري تكون لها الكلمة العليا فيها، يضاف إلى ذلك أن الولايات المتحدة تتحرك في كثير من مناطق العالم تحقيقًا لهدفها المعلن في محاربة الإرهاب وإزاحة صدام حسين عن حكم العراق؛ لهذا فهي لا تريد أي توترات في مناطق أخري تستقطب الأنظار بعيداً عن الإرهاب والعراق، لهذا كان لجوء أسبانيا لمنطق القوة مبررًا كافيًا لفرض قوة المنطق الأمريكي على طرفي الأزمة وفرض الحل عليهما وإطفاء الحريق دون معالجة أسبابه.
ثمة ملاحظة جديرة بالتسجيل.. وهى الغياب العربي في أزمة جزيرة ليلى، والذي يسجل في حد ذاته صورة من صور التراجع أو الضعف العربي.