[rtl]في مثل هذه الأيام من عام 1982 شهدت أرض لبنان حرباً طاحنة خاضتها القوات السورية إلى جانب المقاومين الفلسطينيين و اللبنانيين في مواجهة آلة الحرب الصهيونية و حلفائها من اليمين المتطرف اللبناني , و قد آثرت في هذه المناسبة أن أورد جملة من المعلومات و التفاصيل لمن ظلّ يردد على مدى سنوات ثلاث " الجيش السوري لم يطلق رصاصة واحدة على إسرائيل منذ حرب تشرين!" لتكون بمثابة مرآة نقيّة أضعها أمام الجاهلين " الثائرين " فيرون الآذان الطويلة التي منحهم إياها جهلهم , و ليرى " المتجاهلون " الجاحدون من خلالها كم هي واضحة و جليّة بالنسبة لنا ...نجمة داوود المدموغة على جباههم!
في هذا السرد , سنبتعد عن الخوض كثيراً في ساحات السياسة و كواليسها آنذاك , لنسلط الضوء على مجريات الأحداث العسكرية و سير المعارك من يوم 6/6 حتى يوم 11/6/1982.
مقدّمة تاريخية:
في الثالث من حزيران عام 1982 , نفذّت إحدى الفصائل الفلسطينية محاولة اغتيال للسفير الإسرائيلي في لندن , فقام الطيران الصهيوني بقصف بيروت و الجنوب اللبناني موقعاً عشرات الشهداء من الأبرياء , ليردّ الفدائيون الفلسطينيون بقصف المستوطنات الإسرائيلية القريبة من الحدود اللبنانية , كانت تلك هي الحجّة التي ينتظرها مناحيم بيغن و ارييل شارون " تماماً كما كانت عملية اختطاف حزب الله للجنديين الإسرائيليين في عام 2006 " ليطلقا عملية عسكرية واسعة هدفها المعلن تأمين المستوطنات الإسرائيلية في الشمال من صواريخ المقاومة و لم يكن ذلك ليتم إلا بعد التخلّص من عقبة كأداء ..اسمها الجيش العربي السوري في لبنان..!
الاجتياح:
في يوم السادس من حزيران عام 1982 بدأ الغزو البري الصهيوني لجنوب لبنان من عدّة محاور حيث تتواجد المقاومة الفلسطينية و اللبنانية لتدور معارك طاحنة في أكثر من موقع و جبهة , فلخوض الحرب ضد الجيش السوري كان لا بد للصهاينة من احتلال تلك المواقع المهمّة و تأمينها " جبل الباروك مثالاً " قبل المواجهة , و لضمان الانتصار عليه كان لا بد للصهاينة أيضاً من تحقيق السيطرة الجوية المطلقة التي لن تتم إلا بتحييد بطاريات الدفاع الجوي السورية المنصوبة في البقاع اللبناني و التخلّص من خطر سلاح الجو السوري الذي بدا واضحاً أنه مستعد لدخول المعركة عندما خاضت طائراته أكثر من مواجهة في ذلك اليوم مع القاذفات الصهيونية المغيرة على مواقع الفدائيين الفلسطينيين و اللبنانيين.
أصابع الموت الثلاث.. تقض مضجع الصهاينة:
في عام 1981 اتخذ القائد الخالد حافظ الأسد قراراً تاريخياً بإرسال بطاريات دفاع جوي من نوع سام – 6 ( التي أطلق عليها الإسرائيليون أثناء حرب تشرين اسم " أصابع الموت الثلاث" ) إلى البقاع اللبناني ليشعر الطيارون الصهاينة و لأول مرّة منذ العام 1970 أن التحليق في سماء لبنان لم يعد نزهة بالنسبة لهم!
منذ ذلك التاريخ بدأ الصهاينة يستطلعون من خلال صور الأقمار الصناعية الأمريكية و طائرات الاستطلاع و العملاء على الأرض مواقع تلك البطاريات و يضعون الخطط المناسبة للتخلص منها , فالدرس الأكثر من قاسي الذي لقنهم إياه هذا النوع من المنظومات بالذات في حرب تشرين لا يزال طعمه المرّ عالقاً تحت أضراسهم إلى اليوم..!
في يوم الثامن من حزيران 1982 تقدّمت قوات إسرائيلية بريّة من موقع للجيش العربي السوري في " جزّين ", فتصدت لها القوات السورية مكبدّة إياها خسائر فادحة , تكرر ذات المشهد في اليوم التالي عندما اقتربت قوّة إسرائيلية من تشكيل قتالي سوري في " عين زحلتا " إلى الجنوب من طريق دمشق – بيروت...عندها أعطت القيادة الإسرائيلية الأمر لسلاحها الجوي تنفيذ عملية عسكرية ضد بطاريات الدفاع الجوي السورية.
العملية " كريكيت 19":
على مدى السنوات التي تلت حرب تشرين , عكف الصهاينة مع حلفائهم الغربيين على استخلاص الدروس و العبر من مجرياتها التي كلّفت سلاحهم الجوي أكثر من " 370 " طائرة حربية على الجبهتين السورية و المصرية , فاتخذ القرار بالتوجه نحو تطوير قدراتهم في مجال التشويش الإلكتروني و الراداري إلى جانب اقتناء أحدث ما أنتجته المصانع الحربية الأمريكية من طائرات..
في يوم 9/6/1982 و عقب المواجهة في " عين زحلتا " , انطلقت طائرات استطلاع صهيونية في الأجواء لتنفيذ مهمة رصد مواقع الدفاع الجوي السوري في لبنان و هي مزوّدة بأجهزة ليزرية لتوجيه القذائف و الصواريخ , في الوقت الذي كانت فيه طائرات إسرائيلية مختصة بمسح الموجات و الترددات الرادارية المعادية و أخرى تحمل معدات تشويش الاتصالات اللاسلكية قد اتخذت مواقعها في الجو...
فوق الشريط الساحلي اللبناني , كان أكثر من 200 طائرة صهيونية من نوع إف-16 و إف-15 و فانتوم و كفير (تقودهم طائرة " أواكس " و ترافقهم طائرة أخرى مخصصة للتشويش على الرادارات ) ينتظرون أمر الهجوم..
كانت الخطة الصهيونية تقضي بإطلاق عشرات الأهداف الجوية الخداعية باتجاه بطاريات الدفاع لجوي السورية فتظهر على رادارات الكشف الخاصة بها و كأنها هجوم جوي شامل , ..ما سيدفعها لاتخاذ الوضعية القتالية و تشغيل رادارات الإطباق , عندها تقوم الطائرات الحاملة لأجهزة مسح الموجات الرادارية بتحليل تلك الصادرة عن الرادارات السورية و إرسال تردداتها للطائرات الإسرائيلية الحاملة لأجهزة التشويش الراداري ..فتبدأ ببث التشويش على تلك الترددات , في ظل تشويش من نوع آخر يستهدف أجهزة الاتصال اللاسلكي السورية..يضاف إلى الإعاقة الإلكترونية التي سببها نثر الأهداف الجوية الخداعية لرقائق الألومينيوم في سماء البقاع...!
و بمجرّد دخول أغلب بطاريات الدفاع الجوي في مرحلة " العمى الراداري " انطلقت الطائرات الحربية الصهيونية الحاملة للصواريخ المضادة للرادارات (تعمل بمبدأ ركوب و من ثم لحاق الموجات التي يطلقها الرادار حتى تصيبه بدقة متناهية ) في مهمة تدمير الصواريخ السورية , ترافق ذلك مع إطلاق الصهاينة لصواريخ أرض – أرض موجهة ليزرياً مستهدفة مواقع تلك الصواريخ..
استطاعت إسرائيل تحقيق الجزء الأول من خطتها المعدّة للقوات السورية في لبنان من خلال تحييد الدفاع الجوي في البقاع , لكن لم يكن هذا سوى البداية...
لا تراجع ولا استسلام..:
مع ورود أنباء الهجوم الإسرائيلي الشامل , أدركت القيادة العسكرية السورية أن تدمير بطاريات الدفاع الجوي السوري في البقاع ليس هدف إسرائيل الرئيسي بالطبع , إنما هو حاجة ملّحة لها حتى تستطيع تحقيق مجموعة كبيرة من الأهداف ليس آخرها سحق كل المواقع و التشكيلات القتالية السورية في لبنان بضربات جوية و برية قاصمة, لهذا السبب , ورغم ميلان الكفة الجوية لصالح العدو في ذلك اليوم..اتخذ القرار بضرورة التصدي للهجوم الجوي الإسرائيلي أياً كان الثمن...
عندما تلبدت سماء لبنان....بالطائرات!
في دمشق..أعطيت الأوامر لأكثر من 70 طائرة سورية (معظمها من نوع ميغ -21 الاعتراضية ) لتنفيذ مهمة اعتراض القاذفات الصهيونية التي كانت قد باشرت قصفاً عنيفاً للمواقع السورية و الفلسطينية و اللبنانية مستغلة غياب أي نوع من أنواع التهديد لها ...
انطلق الطيارون السوريون على عجل نحو سماء لبنان في مهمة أدركوا قبل غيرهم أنها استشهادية , لكن حماية سماء لبنان العربية و رفاق السلاح واجب يستحق التضحية بكل شيء في نظرهم , هكذا تربّوا ..و هكذا أقسموا..
بالطبع كانت إسرائيل قد وضعت في حسبانها دخول سلاح الجو السوري في المعركة , فأعدت 100 طائرة من نوع إف-15 و إف-16 كميناً جوياً ضخماً مستندةً إلى التشويش الراداري الهائل الذي امنته طائرة ( بوينغ 707) و الصمت اللاسلكي الذي فرضته طائرات الـ ( آرافا 202 ) على أجهزة اللاسلكي الخاصة بالطائرات السورية , في الوقت الذي تولّت فيه طائرة أواكس قيادة الأسراب الإسرائيلية و توجيهها..
تم نشر طائرات الإف -15 على ارتفاع عال في مواجهة الأسراب السورية لتكون مهمتها إطلاق صواريخها بعيدة المدى على الطائرات السورية من خارج مدى الرؤية للطيارين السوريين حتى لا يشعروا بالتهديد إلا بعد فوات الأوان , في الوقت الذي اندفعت فيه مقاتلات إف-16 التي كانت تحلّق على ارتفاع منخفض إلى الأعلى لتأخذ مواقعها خلف الطائرات السورية القادمة ...
كان طيارونا يقاتلون في ظروف أقل ما يقال عنها أنها غير متكافئة , فبالإضافة للتشويش الراداري الهائل , لم يكن هناك أي توجيه أرضي لهم نتيجة قتالهم خارج مظلّة شبكة الدفاع الجوي السوري الأم , و لم يكن بوسع الطائرات السورية معرفة ما يجري حولها ..حتى أن إمكانية التواصل ما بين الطيارين أنفسهم في الجو كانت صعبة جداً نتيجة التشويش على الاتصالات الراديوية.., عدا عن الفارق التكنلوجي الكبير بين طائراتهم و الطائرات الإسرائيلية ليس فقط فيما يتعلق بأجهزة الرصد بل بنوعية الصواريخ التي كانت الطائرات الإسرائيلية تحملها...( كان مدى الصواريخ التي تحملها الميغ-21 حوالي 8 كم , بينما بلغ مدى صواريخ الإف-16 التي تحملها و المخصصة للقتال القريب نحو 15 كم!)
كل هذا جعل مهمة سلاح الجو السوري في منع إسرائيل من تحقيق السيطرة الجوية المطلقة اشبه ما تكون بالمستحيلة , و لم يكن سقوط عدد من الطائرات السورية في ذلك اليوم بالأمر الغريب ( ادعت إسرائيل إسقاطها لـ 28 مقاتلة سورية بلا أية خسائر في جانبها!!) ) , بل ما اثار دهشة العدو قبل الصديق هو ذلك المستوى غير المسبوق من الشجاعة و التضحية و الذكاء الذي أظهره النسور السوريون في معركة لم يكن أحد غيرهم في هذا العالم ليجرأ على خوضها !
حيث لم يصب أي من الصواريخ بعيدة المدى التي أطلقتها طائرات إف-15 الإسرائيلية أية طائرة سورية نتيجة المناورات الاحترافية التي نفذها طيارونا لتفاديها, ما اضطر العدو لخوض معارك تلاحمية معهم..
و كانت المفاجأة عندما استطاع نسورنا إسقاط 6 طائرات للعدو في ذلك اليوم ( طائرتي إف-16 / طائرتي فانتوم / طائرة إف-15 ) بالإضافة لعدد كبير من طائرات الاستطلاع و الرصد...
الشوط الثاني , تغيير الخطة:
مع بداية يوم 10/6 كان القرار قد اتخذ في دمشق بضرورة الاستمرار في المعركة خاصة و أن تشكيلات الجيش العربي السوري بدأت تخوض معارك طاحنة مع العدو في البقاع, فانطلقت أسراب الطائرات السورية مجدداً نحو سماء لبنان , لكن هذه المرّة بتكتيك مختلف و بأعداد قاربت الـ (130 ) طائرة...
أسندت للطائرات المقاتلة السورية مهمة إضافية غير التصدي للطائرات الإسرائيلية , و هي حماية القاذفات السورية التي ستقوم بدكّ التشكيلات و المواقع الإسرائيلية البريّة في ذلك اليوم..
كانت الخطّة تقضي بأن يتولى قسم من طائرات الميغ-21 اعتراض القاذفات الإسرائيلية و القسم الأخر مهمة حماية القاذفات السورية من نوع ميغ-23 بي إن وَ سوخوي-22 , بينما أسندت للمقاتلات السورية من نوع ميغ-23 إم إس/إم إف مهمة الطيران بالقرب من الحدود السورية و الاكتفاء بتوجيه مقاتلات الميغ-21 دون الدخول في معارك جوية مع العدو إلا في حالات الضرورة, حيث أظهرت المعركة في اليوم السابق أن رادارات الميغ-23 أكثر قدرة على مقاومة التشويش من تلك المسافة..
بالإضافة إلى ذلك , و لأول مرّة في التاريخ..يظهر دور الطائرات المروحية المضادة للدبابات , إذ تم إسناد مهمة البحث عن دبابات العدو الإسرائيلي و عرباته و تدميرها لمروحيات " الغازيل " السورية ..التي قامت بالطيران على علوّ منخفض جداً مستخدمة الوديان و الممرات الجبلية مساراً لها وصولاً إلى مواقع العدو( أفادت مصادر مطلّعة أن تلك الطائرات استطاعت لوحدها تدمير 71 دبابة إسرائيلية!) ..بينما تولى عدد من مروحيات النقل مهمة تنفيذ إنزالات جوية للقوات الخاصة السورية على خطوط المواجهة مباشرة..
فوجئ العدو الصهيوني بالتكتيك السوري الجديد إذ كانوا يمنون النفس بمعركة مشابهة للتي جرت في اليوم السابق و هم قد أعدوا ذات الخطط لهذا اليوم أيضاً!!
حيث نجح سلاح الجو السوري في إنزال أفدح الخسائر بالقوات البرية الإسرائيلية عدا عن تدمير العديد من مراكز قيادته و أهمها موقع " جبل الباروك" , مانحاً القوات البرية السورية مجالاً أكبر لدحر العدو و إفشال خططه , و لم يكن ذلك ليتم دون التضحيات التي بذلها نسورنا..
(في تقرير رفع للجنة الأمنية في الكنيست الصهيوني اعترف جيش العدو بخسارته لـ 23 طائرة , الأمر الذي لا زال إعلامه ينفيه إلى اليوم!)
بلسان العدو:
بعد مضي عدة أشهر , أجرى أحد الطيارين الصهاينة لقاءً مع مجلّة الطيران الدولية قال فيه عن الطيارين السوريين:
" لقد كانوا يعلمون أن فرص نجاتهم أمام طائراتنا الحديثة شبه معدومة , و مع ذلك استمروا في تحدّينا و كأنهم يطلبون الموت! لقد أظهروا شجاعة فائقة , و لا أستطيع إلا أن أكن لهم الاحترام!"
أُسود البرّ كما نسور الجو ..يذهلون العدو!:
في يوم 10/6/1982 و في الوقت الذي كان نسور سلاح الجو السوري يسطرون فيه أروع ملاحم التضحية و الفداء , أبى رجال الجيش العربي السوري إلا أن يكونوا السد المنيع كما عهد أمتهم و قائدهم بهم في وجه المخططات الصهيونية الدنيئة فخاضوا معارك كسر عظم مع القوات الإسرائيلية المتقدمة على غير محور , كان أكثرها تأثيراً على مجريات الحرب اللاحقة ..معركة "السلطان يعقوب" ..فما الذي جرى في تلك المعركة؟
ما ستقرؤونه الآن هو رواية جنود و ضباط العدو الصهيوني عنها , و هل أبلغ مما يعترف به العدو؟
" في يوم الخميس العاشر من حزيران بعد الظهر استدعي اللواء أفيخدور بن غال بانوش ، قائد قوات جيش الدفاع في القطاع الشرقي في لبنان إلى موقع القيادة العليا، وقبل خروجه أمر نائبه اللواء إيهود باراك ( رئيس الأركان العامة في ذلك الوقت ) بنقل أحد الألوية من منطقة قرية "مشكي" نحو مثلث الطرق إلى الجنوب من السلطان يعقوب، وكانت النيّة هي دفع القوات باتجاه طريق بيروت ـ دمشق أحد الأهداف الرئيسية لحرب لبنان.. وصدر الأمر بالتحرك على المحور بسرعة وأثناء الليل، ومن خلال الافتراض ـ الذي اتضح أنه خاطئ تماماً ـ أن القوات السورية في المنطقة قد انهارت.. وكلفت بالمهمة كتيبة الاحتياط، وبعد أن تلقى قائد الكتيبة الأمر من قائد اللواء جمع الضباط بالقرب من دبابته مع خارطة ومصباح ، وقال: " إننا ذاهبون لاحتلال مثلث طرق، وإن المنطقة مطهّرة ولا ينبغي إطلاق نار باتجاه اليسار لأن قواتنا متواجدة هناك " ولم أتلق أية معلومات من ضابط استخبارات اللواء حول ما ينتظرنا في المنطقة ، وقالوا لنا: إن السوريين في حالة من الهرب، وإذا رأيتموهم فلا تطلقوا النار من أجل عدم تعطيل دبابات الغنيمة الجديدة!!! .
وفي حوالي الساعة الثامنة ليلاً بدأت الكتيبة بالتحرك على المحور، وتعطلت على الطريق دبابتان وفي حوالي الساعة الحادية عشرة كانت الكتيبة تتحرك باتجاه مثلث الطرق، وعند ذلك حلت الكارثة!! حين أصيبت دبابتان فوراً، واتضح بعد ذلك أن المثلث الذي وصلت إليه طلائع الكتيبة كان في الحقيقة الجزء الجنوبي لمنطقة تتمركز فيها قوة "كوماندوز" سورية وعندما أصبح الإسرائيليون على مقربة منهم، ووضعهم الطبوغرافي يسهّل عليهم السيطرة، أطلقوا النار باتجاه الإسرائيليين الذين يتحركون في الأسفل.
ولم يخطر في بال قائد الكتيبة عيرا أنه موجود داخل منطقة سورية عندما أصدر أمراً بالتحرك نحو الأمام ، رغبة منه في الخروج من مجال النيران التي وصفها( آفي راط ) : وجدنا أنفسنا مطوقين من كل جانب ، وتلقينا عشرات الصواريخ من كل الاتجاهات ، وقد عمّت الفوضى والارتباك حين انفصلت السرايا عن قيادة الكتيبة، وكذلك كان حال قادة الفصائل مع قادة السرايا. وأغلق محور حركة الكتيبة بسبب الدبابات المصابة، وأسهم الظلام في اختلاط السرايا بعضها مع بعض، ولم يعرف القادة أين يوجد جنودهم؟ فجرت محاولات لجمع القوات ولكن دون جدوى ولخّص قائد السرية الوضع بأنه كان داخل الدبابة محاطاً بقوات سورية تطلق النار عليه من كل الاتجاهات ومن مسافة قريبة جداً، وأنّ بعض جنود سلاح المشاة السوريين كانوا على مسافة ثلاثة أو أربعة أمتار من الدبابة فقال: لقد كان ذلك سيئاً . وظلّت حالة الارتباك سائدة في الليل، وقبل بزوغ الفجر أوعز قائد اللواء إلى كتيبة أخرى تابعة له بتخليص الكتيبة المحاصرة، فأرسلت سرية لهذه المهمة، ولكنها اصطدمت بنيران القوات السورية ولم تنفذ المهمة التي أوكلت إليها ، ومع بزوغ الفجر أدركت الكتيبة أنها حوصرت داخل منطقة سورية فحاول قائد الكتيبة عيرا تهدئة الجنود الذين واجهوا مع طلوع الفجر ظروفاً صعبة، فأشعة الشمس اخترقت أبصار طواقم الدبابات ، والقوات السورية المتمركزة بين السلاسل الصخرية تطلق الصواريخ ونيران المدفعية وقذائف الدبابات على الكتيبة التي كانت مقدمتها على مسافة حوالي أربعة كيلومترات إلى الشمال من مثلث الطرق..أما مؤخرتها فكانت موزعة على المحور إلى الجنوب من هذا المثلث.
ومع تقدّم النهار اشتدت وطأة القوات السورية، وأدرك قادة الكتيبة أن التعزيزات لن تصل إليهم، وأن الذخيرة بدأت بالنفاد والجنود يشعرون بالتعب والاستنـزاف بعد ليلة كانت معركتها قاسية حتى اعتقد بعضهم أن نهايتهم أصبحت قريبة.
وأدركت قيادة الفرقة صعوبة الموقف عندما قال ضابط العمليات في الكتيبة لقائد الفرقة، أن الإمكانيات التي بقيت هي الاستسلام، أو الانتحار، أو الانسحاب. وعندها وضعت خطة الإنقاذ، إذ بدأت المدفعية الإسرائيلية بإسقاط نيران كثيفة وثقيلة على المنطقة السورية، واستطاعت الكتيبة تحت غطاء هذه النيران الانسحاب إلى الوراء محاولة الوصول إلى الطريق والسير باتجاه الجنوب على متن دباباتهم التي تحرّكت بسرعة جنونية.. وكانت القوات السورية المتمركزة على مسافة 20 م عن الطريق تطلق النار عليهم، فأصيبت عدة آليات خلال الفرار مخلفين وراءهم في المنطقة ثماني دبابات، وعدداً من العربات المدرعة والقتلى والجرحى، وقد وصف ضابط الاستخبارات عيرون ما جرى بقوله: لم تكن تلك معركة! حيث رغبنا فقط بالخروج من المكان على قيد الحياة!!
بعد هذه المعاناة القاسية، وصلت الفلول الباقية من الكتيبة المنسحبة إلى الفرقة وهنا تساءل قائد السرية نير :لماذا لم يأت كل هذا الجيش الكبير لمساعدتنا ؟؟!! وقال عن خلاصهم: خرجنا من نار جهنم .
وفي الساعة التاسعة من صباح يوم الجمعة، قال اللواء بن غال إن الكتيبة خرجت من الحصار وخلّفت وراءها ثلاث دبابات محروقة فقط، وأنه تم إنقاذ كل الجنود "
(طبعاً هذا غير صحيح فقد قتل وفقد من الجنود الصهاينة في تلك المعركة 21 جنديا على الأقل وتم أسر 5 دبابات صهيونية سليمة وتوثيق تدمير 33 دبابة وعربة مصفحة أخرى - بينما ذهبت مصادر سوفييتية مطلّعة للقول أن خسائر سلاح المدرعات الإسرائيلي قد بلغت أكثر من 160 دبابة و مدرعة! و أرجح أن ما قصده السوفييت هو خسائر الإسرائيليين على جميع الجبهات في ذلك اليوم ).
وقف إطلاق النار و الغدر الصهيوني:
شهد يوم 11/6 تكراراً لسيناريو اليوم السابق , و استمرّت المعارك الطاحنة في الجو و البر ( أسقط نسورنا خلالها 3 طائرات من نوع فانتوم بالإضافة لطائرة اواكس من نوع إي -2 سي ), لكن موسكو و واشنطن اتفقتا في ذلك اليوم على وضع حد للمعارك بين سورية و إسرائيل حتى لا تنحدر صوب حرب شاملة تتجاوز حدود لبنان[/rtl]
[rtl], ليتم التوصل إلى وقف لإطلاق النار..الذي بدوره لم يصمد طويلاً...نتيجة الطبيعة الصهيونية الغادرة , لتعود المواجهات الدامية التي كان أشدها يوم 22 تموز من ذات العام ( استطاعت فيه طائرة سورية من طراز ميغ-21 إسقاط إف -15 إسرائيلية!) و لم تتوقف المواجهات حتى بعد توقيع الاتفاقية التي خرجت بموجبها منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت إلى تونس , فشهدت تلك المرحلة دخول منظومات دفاع جوي سورية إلى لبنان مجدداً.
نتائج و عبر:
ما يمكن تأكيده اليوم هو أن الصهاينة قد فشلوا في تحقيق مآربهم الرئيسية من وراء تلك الحرب , فرغم خروج منظمة التحرير من لبنان إلا أن المقاومة اللبنانية البطلة لم تتوقف يوماً عن استهدافه حتى إنجاز النصر في عام 2000! و لم يكن ذلك ليتم , لولا صمود وبطولات و تضحيات نسور و أسود الجيش العربي السوري...
و كما استفاد العدو من دروس حرب تشرين التحريرية سابقاً, استخلصت القيادة العسكرية السورية العبر و الدروس من معارك 1982 الجوية و البرية , فبدأت مرحلة تحقيق التوازن الاستراتيجي مع العدو الصهيوني في كافة المجالات...
و تستمر الحرب...:
لم يعد يخفى على كل ذي عقل في هذا العالم , أن الحرب التي تخوضها سورية اليوم ما هي إلا استمرار لحرب الوجود مع العدو الصهيوني الذي أعطى أوامره مرّة أخرى لعملائه في الداخل السوري لينوبوا عنه في تنفيذ المهمة القذرة... مهمة إسقاط دمشق! لكن و كما أسقطت سورية اتفاقية 17 أيار و معها أحلام شارون و بيغن و أذنابهم في عام 1982 تمهيداً لتحرير الجنوب , أسقط جيشها و شعبها و قائدها اليوم مشاريع الغرب المتصهين و مرتزقته المستعربين , تمهيداً لتحرير الجولان و معه كل أرض عربية مغتصبة...قريباً!
إنها سورية يا أعزائي...إنه الجيش العربي السوري.
--------------------------------------------------------------
المراجع:
*اعتمدت في هذا المقال على مقاطعة المعلومات الواردة في العديد من الكتب و الدراسات و المقالات و الشهادات و منها :
- مجلّة " النجم الأحمر " السوفييتية 30/8/1982
- انتصارات سلاح الجو السوري للمؤرخ العسكري Tom Cooper.
- Gordon Yefim ( Russian Fighetrs )
- Units in Combat by: David Nicolle
- المجموعة /73/ مؤرخين.
- "مرآة حياتي" لوزير الدفاع الأسبق مصطفى طلاس.[/rtl]
http://www.shamtimes.net/news-details.php?id=5714
عدل بمعرفتي .
محمد علام .