ظلت أسلحة الدمار الشامل، تشكل جدلا عميقا بين دول العالم، فبينما أعطت الدول
الكبرى نفسها الحق في امتلاكها، فقد أصبحت سيفا مسلطا على رقاب الدول الأخرى بتهمة
امتلاك هذه الأسلحة المحظورة.
مؤخرا اتسعت دائرة الدول التي تمتلك صواريخ عابرة
للقارات، ومع هذا الاتساع لم تستطع دول العالم إيجاد آلية لإلزام الدول بالتقيد
باتفاقيات حظر أسلحة الدمار الشامل، وتبقى القوة وحدها هي معيار تحديد من يمتلك
الأسلحة ومن يحق له ذلك.
وقد صنع الألمان الأنواع الأولى للصواريخ المعروفة
باسم V2 واستخدموها في قصف العاصمة البريطانية في الحرب العالمية الثانية... ولم
تفلح أية وسيلة من وسائل الدفاع الجوي وقتها في وقفها.
وتطورت الصواريخ بسرعة
كبيرة وأفلحت دول كثيرة في تصنيع أعداد وطرز مختلفة المدى والقدرة التدميرية. وتشمل
هذه الأنواع الصواريخ الميدانية ثم التكتيكية يليها التعبوية... وتنتهي بالصواريخ
الإستراتيجية (العابرة للقارات) ونعني هنا الصواريخ العابرة.. نوع أرض/أرض التي
تطلق من قواعد ثابتة أو متحركة وأيضا الصواريخ التي تطلقها الغواصات والقطع البحرية
والقاذفات الإستراتيجية والتي يزيد مداها عن 2000 كم.
وتتكون الصواريخ العابرة
للقارات غالبا من أكثر من مرحلة صاروخية يحتمل أن تكون إحداها من الوقود الصلب
(وغالبا ما تكون المرحلة الأولى) وباقي المراحل من الوقود السائل، أو تكون مراحل
الصاروخ كلها من الوقود الصلب أو السائل. وتتركز معظم هذه الصواريخ لدى الولايات
المتحدة ودول الاتحاد السوفيتي القديم والصين. وتكمن الخطورة الشديدة في هذه
الصواريخ أن جميعها مسلح برؤوس نووية وفي أحيان كثيرة بأكثر من رأس نووي.
الطيران الإيجابي
هناك عوامل كثيرة تؤثر في تصميم الصواريخ العابرة للقارات
لكن أغلبها يتشابه إلى حد كبير وتعتمد على وجود محركات صاروخية وغالبا تكون من
مرحلتين أو أكثر، الأولى تستخدم الوقود الصلب وهي تنتج كمية كبيرة من الغازات خلال
ثواني الإطلاق الأولى بما يسمح بقذف الصاروخ بعيدا عن منصة الإطلاق ليتخذ مساره
المحدد من قبل وغالبا ما تسقط هذه المرحلة بالكامل وتبدأ المراحل الأخرى في العمل
وهي محركات المسير ويكون تشغيلها لفترات بسيطة وغالبا لا يتم التشغيل طوال فترة
طيران الصواريخ وتسمى الفترة التي يتم تشغيل المحركات فيها بفترة الطيران الإيجابي
وتهدف إلى وضعه على مساره المخطط من قبل. ويمكن التحكم في تشغيل وإيقاف محركات
المسير بواسطة التشغيل الآلي المبرمج سواء من داخل الصاروخ أو من خلال المحطة
الأرضية المختصة بمتابعة الصاروخ.
ويمثل المحرك الصاروخي ومكونات نظام الدفع
وخزانات الوقود جزءا كبيرا من حجم ومكونات الصاروخ يصل إلى حوالي 75% وبالطبع يشغل
الوقود النسبة الأكبر فيها لضمان تحقيق المدى الذي يصل إلى آلاف الكيلومترات كما
يوجد أحيانا مجموعة من المحركات الجانبية الفرعية وتستخدم لتنفيذ مناورة لتغيير
الاتجاه أو تقليل أو زيادة السرعة عند الاقتراب من الغلاف الجوي.
القدرة
التدميرية
ويحمل الصاروخ رأسا حربيا نوويا واحدا أو متعددا وتتراوح طاقته
التدميرية من عدة آلاف من الأطنان المتفجرة إلى الملايين منها. وعلى سبيل المثال
يحمل الصاروخ الروسي (SS9) 10 رؤوس حربية نووية قدرة كل منها 2 ميجا طن (2مليون طن
متفجرات) وحتى نتخيل حجم الدمار الذي يمكن أن يسببه هذا الصاروخ يكفي أن نعلم أن
القدرة التدميرية لقنبلة هيروشيما لم تكن تساوى سوى 20 ألف طن.
وتمتاز الصواريخ
الباليستية بأنظمة التوجيه المبسطة حيث انها لا تستخدم لضرب نقطة محددة أو هدف
متحرك بل للضرب المساحي.. لذا فإن معظمها يعتمد على التوجيه الأولى عند الإطلاق،
وتحدد زاوية دخول الغلاف الجوي (زاوية السقوط) ومسافة نقطة الدخول نقطة الإصابة على
الأرض.
وفي الصواريخ القديمة كانت دقة الإصابة تصل إلى مئات الأمتار.. ولكن
بتطوير توجيه هذه الصواريخ وصلت الدقة إلى عشرات الأمتار.. وإذا قورنت هذه الدقة
بالمدى الطويل فإن دقة الإصابة تعتبر عالية للغاية، وتحصل هذه الصواريخ على
بياناتها أثناء الطيران من الحواسب الآلية بمراكز المراقبة والسيطرة المركزية
وشبكات الأقمار العسكرية، وتستخدم أشعة الليزر وتحت الحمراء في توجيه هذه الرؤوس في
مراحلها الأخيرة لضمان دقة التوجيه والإصابة الدقيقة والمؤكدة للأهداف.
مسار
طيران الصواريخ
ينقسم مسار طيران هذه الصواريخ إلى ثلاثة أقسام رئيسية (بداية
الانطلاق /المسار الحر للصاروخ /الاقتراب من الهدف أو المرحلة النهائية). وتبدأ
المرحلة الأولى من لحظة انطلاق الصاروخ حتى نهاية عمل المحرك القاذف وتمثل هذه
الفترة من 1015 % من إجمالي زمن طيران الصاروخ ويكون الصاروخ قد ارتفع واتخذ سرعة
كافية تمكنه من التحرر من الغلاف الجوي. وفي مرحلة المسار الحر يكون الصاروخ خارج
الغلاف الجوي وفي الغالب لا يسير بشكل مستقيم ولكن في دوائر حول محوره العرضي أي
أنه يتقلب في الفراغ ليصل في النهاية إلى النقطة المبرمجة من قبل لدخول الغلاف
الجوي منها فيدخل بمقدمته مرة أخرى وبالزاوية المحسوبة تحديدا في برنامج الطيران.
وتبلغ هذه المرحلة ثلاثة أرباع وقت طيران الصاروخ الكلي. وتتراوح الارتفاعات التي
تصلها هذه الصواريخ ما بين100 كم إلى 650 كم وتكون كثافة الهواء قليلة جدا
والجاذبية الأرضية تناقصت حوالي أربعة أضعاف ومقاومة الهواء أقل بكثير.
وفي
المرحلة الأخيرة يدخل الصاروخ الغلاف الجوي بزاوية معينة وبنقطة محددة ويتجه مباشرة
نحو الهدف وبسرعة كبيرة تتراوح ما بين 5 إلى 12 ماخ وأحيانا يجري تشغيل محركات
الصاروخ مرة أخرى لتقليل زمن هذه الفترة وزيادة سرعته وقوة اندفاعه لتقليل فترة
تعرضه للدفاعات الصاروخية الأرضية وهي تمثل أخطر مرحلة على الصاروخ وتبلغ فترة
طيرانه هذه عدة دقائق.
قواعد الإطلاق
يمكن إطلاق الصواريخ الباليستية
العابرة للقارات بواسطة قواعد أرضية ثابتة مجهزة ومحصنة ومخفاة يصعب اكتشافها بطرق
الاستطلاع العادية. وتتكون القاعدة الصاروخية من طوابق متعددة تحت الأرض تحوي غرف
المراقبة المركزية ومعدات تجهيز الصواريخ ويتم ملؤها بالوقود وبرمجتها. وتتحرك أطقم
التجهيز والتشغيل ومعدات النقل في أنفاق تحت الأرض.. من خلال نطاقات أمن متعددة
بشرية وإلكترونية دقيقة للغاية حيث انه لا يوجد مجال هنا للخطأ.. فأي خطأ معناه
إزهاق أرواح مئات الألوف من البشر دون ذنب. وتعتبر القاعدة محصنة ضد أنواع القصف
ومنها النووي. وتكون الصواريخ إما في اتجاه الإطلاق الرأسي وإما أفقيا حسب أنواع
المخارج.. وفي وقت من الأوقات لقبت القوات السوفيتية العاملة في هذه القواعد
بالقوات غير المرئية لعدم إمكانية رؤيتها من الجو.. وتعتبر هذه القواعد مفخرة وقد
بنيت بما يتجاوز 30 % من الدخل القومي السوفيتي خلال عشرين سنة حتى أوائل
الثمانينيات.
وهناك نوع آخر من المنصات وهي قاذفات متحركة على جنازير يجري
إخفاؤها تحت الأرض وبعد إطلاق الصاروخ يتم تحريك المنصة من هذا الموقع والذي يكون
قد تم رصده إلى موقع آخر تبادلي مجهز أيضا وتم اختباره من قبل.
وطريقة أخرى
للإطلاق باستخدام الغواصات وتعتمد عليها الولايات المتحدة الأمريكية لدرجة كبيرة
وتستطيع الغواصة حمل حتى 24 صاروخا من أنواع بوسيدون أو ترايدنت أو بولاريس. ومن
مميزات استخدام الغواصات كقواعد إطلاق صعوبة اكتشافها وتدميرها بسبب تغيير موقعها
باستمرار بعد كل إطلاق. وأيضا بسبب الافتقار إلى عمق الاكتشاف اللازم للرصد
والإنذار المبكر وذلك بسبب قربها عادة من الأهداف المراد تدميرها. ونتيجة لتقليص
أعداد الصواريخ ومداها طبقا لاتفاقية سولت تزايد الاعتماد على القاذفات
الاستراتيجية التي يبلغ مداها حوالي 3200 كم دون تزود بالوقود مع إمكانية حملها 16
صاروخا يصل مداها إلى 3500 كم ودقته 10 أمتار فقط لكن يعيب استخدام القاذفات في
إطلاق هذه الصواريخ نسبة للتكلفة العالية لصيانة وتشغيل الطائرات ونظم السيطرة
عليها مع احتياجها إلى حالات الاستعداد العالية لهذه الأسراب.. بالإضافة إلى أن فرص
اكتشافها عالية.. واحتمالات إصابتها ليست قليلة.. وفي هذه الحالة سنفقد الصواريخ
والطائرة.
لقد استغرق بناء الترسانة النووية وصواريخها الباليستية زمنا طويلا
من كل الجانبين ووصلت إلى حد رهيب فاق كل تصور.. ففي بداية الثمانينيات كانت القوة
النووية السوفيتية المحملة على الصواريخ قادرة على تدمير أكبر 200 مدينة في العالم
دمارا شاملا لعشرين مرة. ورغم ذلك ما زالت برامج تطوير هذه الصواريخ مستمرة ودخل
الميدان لاعبون جدد مثل كندا واليابان وكوريا الشمالية وإيران وإسرائيل والبرازيل
والهند وباكستان، لكن رغم كل ذلك ما زال الأمل يحدونا في أن تنضم جميع دول العالم
بنوايا صادقة إلى معاهدات حظر استخدام هذه الأسلحة الفتاكة حتى نحظى بعالم مليء
بالحضارة والمدنية والسلام.