العبور الإسرائيلي (معارك ثغرة الدفرسوار):
في أعقاب فشل الهجوم الإسرائيلي، في الثامن من تشرين الأول (أكتوبر)، استحوذ على تفكير القيادة الإسرائيلية فكرة عبور قناة السويس من منطقة بور سعيد. وقد طرأ، وسط استمرار المعارك، تغيير على مكان العبور المفترض (بور سعيد)، وخصوصًا عقب وصول مجموعة استطلاعية إلى موقع "متسماد" على القناة، واكتشافها خلو المكان من أي تواجد للقوات المصرية، ليتضح لها أن هذا المحور الواقع أمام فرقة "شارون" هو الحد الفاصل بين منطقتي عمل الجيشين الثاني والثالث، فاختارته كموقع للعبور، واستكملت لهذا الغرض خطة عرفت باسم "رابطي الجأش" كانت قد رسمت خطوطها العامة قبيل اندلاع الحرب. وفي يوم الهجوم المصري الآنف الذكر، وعلى ضوء نتائجه، أصدرت القيادة مجموعة أوامر، مطلقة عليها اسم "رابطي الجأش"، حددت فيها مكان العبور، حيث استقر الرأي على منطقة "متسماد" على الطرف الشمالي من البحيرات المرة، ومهامَّ الفرق. فقد أنيطت بفرقة "شارون" مهمة مد جسور ومن ثم إنشاء وتوسيع رأس جسر للقوات العابرة إلى الضفة الغربية للقناة وغلق معابر قناة الإسماعلية القريبة، وعزل منطقته عن المعركة، بينما أنيطت بفرقة أدان مهام الاختراق غربًا وجنوبًا للسيطرة على مرتفعات "جنيفا"، ومن ثم مواصلة التقدم جنوبًا لاحتلال جبل "عتاقة" والتأهب هناك لاحتلال مدينة السويس، مدعومة بقوات من فرقة "شارون"، على أن تقوم فرقة أدان في المرحلة الأولى في مهام الدفاع في الضفة الشرقية إلى جانب فرقة "ساسون"، والاستعداد من ثم لاستبدال قوات "شارون" التي من المقرر لها أن تتقدم جنوبًا. ويذكر أدان أن واضعي الخطة وضعوا نصب أعينهم ضرورة إنجاز عملية احتلال رأس الجسر وإقامة الجسر الأول خلال ليلة واحدة، ليتم في اليوم التالي تقدم القوات شمالاً وجنوبًا، حيث تقوم بعد ذلك، وخلال يوم واحد، وفق الخطة الطموحة المتفائلة، باحتلال مدينة السويس وتطهير ضفتي القناة خلال مدة لا تزيد عن 24 ساعة (ص185) أي أن العملية برمتها ستنجز خلال يومين وبضع ساعات.
بدأت القوات الإسرائيلية. حوالي الساعة الخامسة بعد ظهر يوم الخامس عشر من تشرين الأول (أكتوبر)، تتقدم نحو نقطة العبور، دون أن تحدث، خلال الساعات الأولى من تقدمها وسط قوات مصرية، معارك تذكر. وعند وصول طلائع القوات الإسرائيلية إلى نقطة العبور، حوالي الساعة التاسعة مساء، أخذت القوات المصرية تطلق قذائف الدبابات وصواريخ "ساغر" باتجاه الإسفين الإسرائيلي الآخذ بالتقدم نحو الهدف، ودخلت في معارك عنيفة مع الكتائب والألوية الإسرائيلية، تسببت بإرباك قوات الطرفين بسبب تداخلهما وتحرك قواتهما على المحور نفسه، مما خلق وضعًا يصعب فيه تمييز القوات "صعوبات التمييز كانت فظيعة. فقد تخبطت قوات وحدات الدبابات أكثر من مرة في فتح النيران على مجموعات دبابات تتقدم..." (ص193). وخلال ذلك تمكن لواء "داني" (مجموعة شارون) من الوصول إلى نقطة العبور في "متسماد" في مواجهة "الدفرسوار"، وشرع بالعبور في تمام الساعة 1.25 دون مقاومة، ليصبح لديه عقب مضي ساعتين، على الضفة المواجهة كتيبتان إلى جانب مجموعة قيادة اللواء، تضم 750 فردًا. وتمكن بهذه القوة من الانتشار حتى مسافة 3 كم جنوبًا و 2 كم غربًا.
في غضون ذلك كانت قوات "شارون" تواجه صعوبان كبيرة في الضفة الشرقية، لخص أدان جانبًا منها بقوله:"خلال الليل فقد أمنون حوالي 60 دبابة، ولم يبق بحوزته سوى 40 دبابة. لقد كانت خسائره في الأرواح كبيرة للغاية، ومن بين من سقط عدد كبير من القادة..." (ص 196). بيد أن المسألة الأكثر صعوبة، تمثلت في عجز القوات الإسرائيلية عن نقل معدات العبور لإقامة جسرين وفق الخطة. وهنا يعود أدان ويقف على حالة الإنهاك التي ألمت بمجوعة ألوية "شارون" خلال ليلة العبور، باقتباس وصف "شارون" لقواته ولجهود التي بذلتها، وعجزها عن تطبيق الخطة كما هو مرسوم لها:"... لقد بذل هنا جهد كبير... إذا لم ننجح... فهذا لا يعني أننا لا نرغب أو لم نحاول... ببساطة لم نستطع ... مع القوات التي أدخلناها" (ص199). أما أدان فيَصف الوضع صبيحة يوم العبور بقوله:"... في صباح السادس عشر من تشرين الأول (أكتوبر)، كان بحوزتنا رأس جسر كإسفين ضيق، يمتد في الواقع على جانبي القناة، ولكن بدون جسور، فضلاً عن أن الطرق إليه مقطوعة. أكثر من ذلك، فقد كانت فرقة شارون في ذلك الحين تعاني من إصاباتها الجسيمة، وعاجزة عن مواصلة وتيرة الهجوم. وكان ثمة خوف من خطر قيام العدو بهجوم مضاد لتصفية رأس الجسر الضيق الذي رابطنا فيه. لقد فشلنا، مقارنة مع الخطة والتعليمات، في مسألتين: غياب محور وصول ورأس جسر متواصل ومحمي، وغياب جسور على القناة..." (ص199).
كان من نتيجة تفاقم أوضاع ألوية "شارون" وعدم إقامة جسر على القناة أن أخذ الصراع يدور من جديد بين قيادة المنطقة الجنوبية. فقد رأى كل من "بارليف" و"غونين" ضرورة بسط سيطرة إسرائيلية على الضفة الشرقية بالقرب من نقطة العبور، وفتح الطرق المؤدية إليها وحمايتها، وبناء جسر قبل تعزيز القوات في الضفة الأخرى بقوات جديدة، في حين دعا "شارون" إلى ضرورة تعزيز رأس الجسر في الضفة الغربية بقوات إضافية. وقد نجحت القيادة بفرض رأيها، فكلفت قوات "شارون" باحتلال موقع يحمل اسم "أمير" وأناطت بقوات أدان مهمة احتلال محوري "عخبيش" و"طرطور" (الأول يمتد بين الطاسة وشمال البحيرات المرة، والثاني يتفرع عنه ويوصله بموقع متسماد) ونقل معدات العبور إلى "متسماد".
كان تنفيذ هذه المهام مقرونًا بالمخاطر، ويصف أدان معركة شاهدها أثناء تقدمه على محور "عخبيش" بين كتيبة دبابات بقيادة "حاييم" (تابع لفرقة شارون) معزّزة بكتيبة مظليين، قائلاً:"عند وصول الطابور إلى مسافة 2 - 3 كم إلى الشمال الغربي من موقع مراقبتنا، شاهدنا فجأة أربع دبابات تحترق خلال ثوان، ولكن دون أن نسمع إطلاق نيران للدبابات، ويبدو أنها أصيبت بصواريخ ساغر التي أطلقت نحوها من جهة الشمال، من محور طرطور. لقد أُخذ الطابور على حين غرة، وحدثت أمامه أمور كثيرة خلال مدة قصيرة. شاهدنا أفراد الأطقم وهم يقفزون من الدبابات ويهرعون نحونا، ونصف مجنزرات تقف ليتركها أفرادها وينبطحون أرضًا، وأخرى تدور على الطريق وتتحرك إلى الوراء... من غير المريح للمرء أن يكون شاهد عيان للمنظر الذي طرأ على محور عخبيش" (ص201). ويؤكد من ثم تخبط قوات "شارون" في معارك ذلك اليوم باستشهاده بملاحظة أبداها أمامه "غونين"، حيث قال: أن "شارون خيّب الآمال. لا أعرف ما جرى لشارون في هذه الحرب" (ص 201).
استمر القتال سجالاً بين الطرفين، طوال يوم السادس عشر من تشرين الأول (أكتوبر) ودون أن تحرز القوات الإسرائيلية أي مكسب، بل فقدت خلاله عددًا كبيرًا من الدبابات. وفي المقابل لم تتمكن القوات المصرية من وضع حد للإسفين وإن أحدثت فيه بعض الخروق. وكان يتوجب على القوتين اتخاذ قرارات حاسمة: فبالنسبة للطرف الإسرائيلي واجه مع غروب اليوم نفسه الخيار بين الاستمرار في تنفيذ الخطة أو سحب القوات من الضفة الغربية، وارتأت القيادة، بعد نقاشات، الأخذ برأي ثالث: الانتظار.
أما الطرف المصري، فقد تصور في البداية، خطأ، حسب اعتقاد أدان، أن الهجوم الإسرائيلي على الفرقتين "16" و"21" هو بمثابة هجوم محلي، في حين لم تتوفر لديه معلومات دقيقة حول القوة الإسرائيلية التي عبرت القناة، ولم يولها الاهتمام اللازم إلا بعد أن هاجمت أربعة قواعد للصواريخ المضادة للطائرات. ومع ذلك فقد اتخذت القيادة المصرية قرارًا حاسمًا بتصفية الإسفين الإسرائيلي في الضفة الشرقية بهجوم يأخذ شكل كماشة، حيث تقوم الفرقة "21" من الجيش الثاني بالهجوم من الشمال إلى الجنوب، وفي حين يشرع اللواء "25" من الجيش الثالث بهجوم من الجنوب إلى الشمال.
من أبرز المعارك التي دارت في ذلك اليوم واستمرت لليوم الثاني، معارك جرت في منطقة قرية نموذجية مصرية، كان المصريون قد أشادوها قبل حرب 1967 بمساعدة يابانية (يطلق الإسرائيليون عليها اسم "المزرعة الصينية"، واشتهرت في أدبياتهم بهذا الاسم) تقع على محور "طرطور" المؤدي إلى نقطة العبور. وكان على قوات أدان اختراق هذا المحور لإفساح المجال أمام عملية نقل معدات العبور، وإبعاد القوات المصرية عن رأس الجسر. وقد استغل المصريون خنادق الري في القرية، وعززوا من دفاعاتهم التي صدّت القوات الإسرائيلية. مما اضطر الأخيرة للاستعانة بلواء المظلات النظامي بقيادة العقيد "عوزي يئيري"[2] ، ونقله جوًا من منطقة "رأس سدر" إلى "المزرعة الصينية" حيث ينتشر المشاة المصريون المعززون بالدبابات وقذائف "الآر بي جي" وصواريخ "ساغر".
بعيد منتصف الليل خاضت كتائب لواء المظليين، مدعومة بكتائب مدرعات، معارك طاحنة مع القوات المصرية. واستغلت قوات أدان عنف هذه المعارك ونقلت معدات العبور إلى موقع "متسماد" في الساعات الأولى من صبيحة السابع عشر من تشرين الأول (أكتوبر) وخلال ذلك كانت قوات المظليين تواجه مقاومة ضارية ألحقت في صفوفها خسائر جسيمة، وانهمك اللواء بإخلاء ساحة المعركة من الجرحى، في حين كان يدور نقاش في صفوف القيادة حول إمكانية انسحابه، واستقر الرأي ظهرًا على إخراجه مع قتلاه وجرحاه من "المزرعة الصينية" التي بقيت تشهد معارك عنيفة، اعتمد فيها المصريون أسلوب استدراج القوات الإسرائيلية وإيقاعها في المصائد، وذلك عن طريق ظهور دباباتهم والتقدم بها ثم الانسحاب نحو المصائد، في حين كان اللواء المصري المدرع "25" التابع للجيش الثالث في القطاع الجنوبي من الجبهة يتقدم ببطء شمالاً على محاذاة الضفة الشرقية للبحيرات المرة.
واجه اللواء "25" فشلاً ذريعًا، ساعد على حسم قضية العبور لدى الإسرائيلين، فقد رابطت أمامه قوات من لواء "أمنون" (تابع لفرقة شارون)، وكمن على جناحه لواء "نتكا" (تابع لفرقة أدان) لإيقاعه في المصيدة. فعندما صارت طلائع دبابات اللواء المصري بالقرب من قوات "أمون" القريبة من منطقة العبور وتبادلت معها النيران، فأجأتها قوات "نتكا"، وصبت على جناحها الأيسر، غير المحمي، نيران أسلحتها. وانتهت المعركة بانسحاب الجزء الخلفي من القوات المصرية بعد أن تم إعطاب ما بين 50 - 60 دبابة "ت - 62" مقابل إعطاب ثلاث دبابات إسرائيلية (ص 221).
في هذا الوقت كان "شارون" قد عزز قواته المتواجدة في الضفة الغربية بعشر دبابات، دون إذن من القيادة. وكان العمل يجري على قدم وساق لاستكمال بناء الجسر الذي ستعبر عليه، خلال الليل، مجموعة ألوية أدان. إلا أن الطريق المؤدية إلى نقطة العبور لم تكن مأمونة بسبب استمرار المعارك في "المزرعة الصينية" مما حدا بأدان إلى تحريك قواته صوب الجنوب ليلاً، اتقاء تعرضها لنيران القوات المصرية في المزرعة، ليتوجه بها من ثم شمالاً بمحاذاة البحيرات المرة حتى نقطة العبور التي وصلها تمام الساعة 22.40 . وقد استغل أدان فترة هدوء قصيرة، فقام قبيل منتصف الليل باجتياز الجسر ليكون بانتظار قواته على الطرف الثاني من القناة. بيد أن الهدوء ما لبث أن مزقه القصف العنيف الذي مزق أيضًا جزءًا من الجسر، بعد أن تمكنت من العبور عليه ثلاث دبابات فقط، مما استدعى الانهماك في تصليح الجسر، ونقل دبابات بواسطة العبارات وسط قذائف المدفعية و"الكاتيوشا" التي يصفها بـ"المخيفة". وبعد مضي ساعات معدودة أصبح في منطقة العبور جسران، مرت عليهما قوات أدان (لواء نتكا ولواء غابي إلى جانب كتيبة مدفعية) وبحوزتها 140 دبابة، ليقف بها مع صبيحة 18/10 على الطرف الآخر من القناة في وجه مرحلة جديدة من المعارك. ولا ينسى المؤلف هنا، المقارنة بين دور قواته ودور قوات "شارون" في إنجاح عملية العبور بقوله:"... في البداية ووسط معارك عنيفة نجحت فرقة شارون في السيطرة على رأس جسر ممتد على طرفي القناة، إلا أنها عجزت عن استكمال المهمة. وقد نجحت فرقتنا، خلال يومين من المثابرة في قتال عنيد، في فتح الطريق لرأس الجسر، ونقل معدادت العبور. وتأتّى عن ذلك إقامة الجسر وصد الهجمات المضادة من الشمال والجنوب، مع إلحاق خسائر كبيرة في صفوف العدو. لقد نجحنا في رفع الضغط في الضفة الشرقية، وعبرنا، والآن نتأهب للتقدم في الضفة الغربية" (227).
كانت المهمة الملقاة على كاهل فرقة أدان، عقب العبور، توسيع رأس الجسر بواسطة لواءي "غابي" و"نتكا" اللذين خاضا، بغية تحقيق هذا الهدف، معارك عنيفة مع المواقع المصرية القريبة، كانت نتائجها شبه متكافئة، حيث تكبّد الطرفان خسائر في الدبابات والأفراد، الأمر الذي اقتضى تعزيز القوات بلواء "أريه" وتخطي بعض المواقع والتقدم في العمق على شكل إغارات. ويشدد الكاتب هنا على عنف المقاومة التي واجهتها القوات الإسرائيلية في هذا اليوم في بعض المواقع القريبة من منطقة العبور.
وقد تميز هذا اليوم، علاوة على مقاومة بعض الاستحكامات، بطلعات لطائرات "الميغ" والهليكوبتر المصرية التي دخلت في اشتباكات جوية مع الطائرات الإسرائيلية، أسفرت عن سقوط 16 طائرة ميـغ و 7 طائرات هليكوبتر مصرية، مقابل سقوط 6 طائرات إسرائيلية. (ص 235).
في غضون ذلك كانت القوات الإسرائيلية قد أحرزت بعض النجاح في جبهة "المزرعة الصينية" بعد أن أخذت القوات المصرية تسحب منها بعض قواتها. وغدت الطريق المؤدية إلى الجسر شبه مفتوحة، وبدأت التعزيزات الإسرائيلية تجتاز الجسر وسط خسائر في صفوفها نتيجة القصف المتواصل. ويخص المؤلف بالذكر قوافل الذخيرة التي تعرضت لقصف ليلي عنيف، أوقع في صفوفها خسائر كبيرة وأضعف السيطرة على قواتها :"... في كل مرة تتساقط فيها القذائف بالقرب من وسائط النقل، كان السائقون يقفزون من آلياتهم وينتشرون في كل اتجاه بحثًا عن مخبأ بعيد عن شاحنات الوقود والذخيرة. وكانت مسألة إعادة تجميعهم من جديد وسط الظلام صعبة ومعقدة" (ص 228)، فضلاً عن صعوبة العبور على الجسر وتعرض بعض الدبابات للغرق بعد أن غرقت دبابتان مع طاقميهما نتيجة القصف. وهنا، يوجه أدان نقدًا لخطة العبور وعيوب التنفيذ، فقد برزت هوة بين ما خطط له وبين ما تم تحقيقه، إذ كان يتوجب، خلال هذه الأيام التي تم فيها إقامةرأس جسر ضيق، التقدم جنوبًا حتى السويس شمالاً حتى الاسماعلية، ويرجع السبب في تكون هذه الهوة إلى عاملين:
1- التفاؤل الذي كان مستحوذًا على تفكير قيادة الجيش.
2- الأخطاء في البرمجة والتنفيذ، والتسرع. ويحمّل الكاتبُ "شارون" قسطًا كبيرًا من هذه الأخطاء.
ومع ذلك يؤكد أدان على صعوبة المعركة "لا شك أن هذه كانت معركة صعبة للغاية. لقد قاتل المصريون بعناد وتضحية وجرأة... ويبدو لي، على الرغم من الأخطاء التي ارتكبناها، أن قتالنا كان أفضل. لقد اتسم رد المصريين بالبطء والافتقار إلى الخيال" (ص 246) ليصل إلى القول بأن أخطاء القيادة المصرية خفّفت من خطورة أخطاء القيادة الإسرائيلية، ومكّنت بالتالي، الجيش الإسرائيلي من تجاوز صعوبات العبور، لينطلق بسهولة نسبيًا، غربي القناة بغية تطويق الجيش الثالث.
التناقض بين "أحمد إسماعيل" و"الشاذلي":
وكما أشار إلى خلافات بين صفوف القيادة الإسرائيلية حول الخطط العسكرية، ووقف عليها، فإنه لم يغفل الخلافات بين القيادة المصرية، وكرس لها جزئًا بسيطًا في كتابه، وخصوصًا حول موضوع "الثغرة". ومن الجدير بالذكر أن عرضه لهذا الخلاف يتناقض في أجزاء منه مع ما كشفه الشاذلي في مذكراته.
يذكر أدان أن الخلاف دار حول كيفية التصدي لما أسماه تهكما بـ"الجيب الإسرائيلي الصغير" حيث دعا رئيس الأركان سعد الدين الشاذلي إلى ضرورة إعادة قوات من الضفة الشرقية إلى الضفة الغربية للقضاء على هذا الجيب، بينما وقف وزير الدفاع أحمد إسماعيل ضد انسحاب أية قوات. وقد تفاقم الخلاف عقب عودة الشاذلي من زيارة الجبهة حين اتضحت له خطورة الجيب الإسرائيلي، مما حدا به للتمسك بوجهة نظره القائلة بضرورة إعادة القوات الوحدات المدرعة لمواجهة رأس الجسر الإسرائيلي الآخذ بالتعاظم، والذي يمكن له أن يشكل خطرًا على الجيش الثالث والقاهرة أيضًا، في حين بقي أحمد إسماعيل متمسكًا بوجهة نظره، وعارض سحب أية ألوية مصرية خشية حدوث شرخ في نفسية الجنود، واضعًا نصب عينيه تبعات أمر الانسحاب في العام 1967.
إلى هنا لا يختلف المؤلف مع معارضه الشاذلي في مذكراته، ولكنه يتناقض معه في ادعائه بأن الشاذلي كان من أنصار الاندفاع السريع عقب الإنجازات المصرية في بداية المعركة. يقول أدان في مجال مقارنته بين موقفيهما :"كانت العلاقة بين الاثنين متوترة، ذلك أنهما انقسما في الرأي منذ بداية الحرب، فعندما اتضح للشاذلي النجاح المفاجئ الذي حظي به المصريون في بداية المعركة، طالب باستغلال النجاح ومواصلة وتيرة الهجوم. بيد أن أحمد إسماعيل علي تمسك بالتخطيط وفضل الانتظار في وقفة تعبوية. ولم ينس إسماعيل واقع مواجهة المصريين فشلاً ذريعًا عندما استجاب للضغوط وأمر بالهجوم (14/10 أكتوبر)، وازدادت قناعته بأن الحق معه وليس مع الشاذلي. وحسب اعتقادي، ومن وجهة نظر مهنية، كان الشاذلي على صواب في الحالتين، عندما طالب بضرورة مواصلة الهجوم في بداية الحرب، وعندما يطالب الآن باتخاذ خطوات تحول دون تطويق الجيش الثالث. ولكن أحمد إسماعيل علي كان يتمتع بحدس وفهم عميقين لروح الجندي المصري - ولهذا الفهم أهمية تفوق المعرفة العسكرية المهنية " (ص 239).
وقد ورد في مذكرات الشاذلي الصادرة بعد عام من صدور كتاب أدان، أنه لم يسبق له أن دعا إلى تطوير الهجوم شرقًا، بتأكيده فيها:"لقد كثرت الآراء وتعددت حول الأسباب التي منعت المصريين من تطوير هجومهم إلى الشرق فور نجاحهم في عملية العبور، وقد انتشرت إشاعات كثيرة تقول بأنني كنت من أنصار الاندفاع السريع نحو الشرق سواء يوم 14 تشرين الأول (أكتوبر) أو قبل ذلك بكثير... لقد كنت دائمًا ضد فكرة تطوير الهجوم نحو الشرق سواء كان ذلك في مرحلة التخطيط أو في مرحلة إدارة العلميات الحربية للأسباب الكثيرة التي سبق لي أن ذكرتها..."
معارك توسيع الثغرة وتطويق الجيش الثالث:
بدءًا من 19/10 لم تعد الحرب في الجبهة المصرية سجالاً بين المصريين و الإسرائيليين، إذ أصبحت المبادرة وإدارة الحرب وتطويرها في يد الإسرائيليين، ففي أعقاب أربعة أيام من القتال الشرس أصبح لدى القوات الإسرائيلية جسران على القناة إلى جانب رأس جسر لقوات ضاربة، تتمركز فيه وخلفه فرق "شارون" و"أدان" و"ماغين"، فيما بقي أمام كل من الجيشين الثاني والثالث قوات غير رئيسية.
وكان من نتيجة عجز القيادة المصرية على التكيف مع الوضع الجديد أن تجمدت القوات المصرية الرئيسية، وبقيت في مواقعها وأما كنها لتجد نفسها في مواجهة قوات غير رئيسية، في الوقت الذي وضعت فيه القوات الإسرائيلية الرئيسية نصب أعينها هدف تدمير القوات المصرية غير الرئيسية تمهيدًا لتطويق وإبادة القوات المصرية الرئيسية. وقد أعاد أدان سبب تجمد هذه القوات الرئيسية في أماكنها وعدم تكيفها مع مستجدات المعركة إلى رغبة السادات في التمسك بالإنجازات التي تم الحصول عليها في الضفة الشرقية، على أمل تدخل الجهات الدولية لوقف النار ومنع الإسرائيليين من إحراز إنجازات في الضفة الغربية.
ومن الملاحظ أن فرقة أدان التي خاضت أشرس المعارك في الضفة الشرقية، وعانت أكثر من الفرق الأخرى من خسائر واستنزاف في صفوفها، تحملت أكثر من غيرها عبء احتلال مناطق في الضفة الغربية. فقد كانت الفرقة تتشكل من ثلاثة ألوية:"نتكا"، و"أريه"، و"غابي"، وعملت إلى جانبها فرقة "ماغين" كقوة إحتياطية لها، إلى جانب لواءين من فرقة "شارون" عملا شمالاً باتجاه الإسماعيلية، في الوقت الذي بقيت فيه قواته الأخرى في الضفة الشرقية قرب نقطة العبور تخوض معارك ضد قوات الجيش الثاني بهدف حماية الجسر، دون أن تحرز أي تقدم في الأرض.
جرت خلال يوم 19/10 معارك التقدم الأولى، واستطاعت فيها فرقة أدان إلى جانب قوات "ماغين" قطع مسافة 35 كم إلى الجنوب الغربي من رأس الجسر الإسرائيلي، بواسطة أربعة محاور أخذت تتقارب وتلتقي عند مرتفعات "جنيفا". وتمكنت من تدمير عدد من مواقع القوات المدفعية المصرية المعززة بالدبابات وتدمير ست قواعد للصواريخ المضادة للطائرات. وما يجدر ذكره أن بعض هذه القواعد استخدم الصواريخ المضادة للطائرات ضد القوات الأرضية، وتفجر بعضها بالقرب من المهاجمين.
كانت خسائر أدان قليلة بالنسبة للإنجازات التي أحرزها. ومع أن ألويته الثلاثة تعرضت لإصابات في الدبابات إلا أن وضعه كان أفضل من وضع قوات "شارون" (لواءان مدرعان ولواءان مظليان) التي خاضت معارك عنيفة إلى الشمال من منطقة العبور، وتعرض بعضها لخسائر جسيمة، قبل أن تتمكن من توسيع رأس الجسر إلى الشمال مسافة ضيقة تتراوح بين 2 - 3 كم (ص 253).
وفي 20/10 وحتى ظهيرة اليوم نفسه، خاضت مواقع أدان المتقدمة معارك عنيفة ضد قوات مصرية من الفرقتين "الميكانيكية 6" و"المدرعة 4"، قامت بهجمات مضادة ودخلت في معارك عنيفة مع قوات "نتكا" التي تمكنت من صد الهجمات بعد أن تكبد الطرفان خسائر في الأفراد والآليات، واعتزمت بعد ذلك مواصلة التقدم حتى طريق القاهرة السويس. إلا أن جدلاً دار بين "بارليف" الذي وصل إلى قيادة أدان مع "يغال آلون" وبين أدان حول وجهة سير تقدم القوات. فقد رأى "بارليف" ضرورة التقدم نحو الجزء الجنوبي من البحيرات المرة، في حين ألح أدان على ضرورة التقدم صوب طريق القاهرة السويس لقطعه بهدف الإسراع في إحكام الحصار على الجيش الثالث. وفي غضون ذلك اتصل "غونين" بـ"بارليف" ليخبره عن خلافات بينه وبين "شارون" بخصوص الهجوم على موقع "ميسوري" في الضفة الشرقية للقناة. ويبدو أن هذا الخلاف قد خفف من الخلاف بين وجهتي نظر كل من "بارليف" و"أدان" اللذين اتفقا على تأجيل البت في الموضوع إلى وقت لاحق. ومع حلول المساء تمكنت قوات أدان من إحراز تقدم باتجاه المنطقة الوسطى من البحيرات المرة، في حين كان "شارون" يعاني من خلافات شديدة مع "غونين"، في الوقت الذي تعاني فيه قواته في المنطقة الشرقية للقناة من مقاومة ضارية من قبل الجيش الثاني.
وتعود أسباب الخلاف إلى رغبة "شارون" في تركيز هجوم فرقته غربي القناة، ليتقدم بها شمالاً بغية تطويق الإسماعيلية، في حين كانت القيادة - ومن بينها "غونين" - ترى ضرورة احتلال موقعين إلى الشرق من القناة هما "ميسوري" و"حموطال" بهدف تأمين حماية الجسر الضيق. وبناء على أمر القيادة هاجم لواء "طويبا" التابع "لشارون" موقع "ميسوري" بينما هاجمت قوة تابعة "لساسون" "حموطال" بدعم من سلاح الجو الإسرائيلي. وقد واجه الهجوم الإسرائيلي في الموقعين مقاومة عنيفة أدّت إلى فشله وإلحاق خسائر كبيرة في الدبابات. وقد اندلع الخلاف، وبشدة، عندما طلبت القيادة من "شارون" استئناف الهجوم على موقع "ميسوري" بالاستعانة بقوات من الضفة الغربية للقناة. وبعد أن رفض "شارون" تنفيذ ما طُلب إليه، حاولت القيادة تنفيذ خطة الهجوم عن طريق إصدار أمر "لشارون" بالتقيد بها، بيد أن هذا فضل عدم الرد على الاتصالات بحجة أنه نائم. وعند منتصف الليل تمكن كل من "بارليف" و"غونين" من الاتصال به، وأجريا معه حوارًا اتضح فيه رفض "شارون" القاطع لأوامر القيادة، جاء فيه:
"غونين": أتعتزم تعزيز طوبيا ؟
شارون: لا، ولا بأي شكل من الأشكال!
غونين: إنني آمر بالتعزيز!
شارون: لا، ولا بأي شكل من الأشكال!
غونين: ليكن معلومًا لديك أن هذا بمثابة عدم تنفيذ للأمر!
شارون: دعك من أمور كهذه.
بارليف: حسنًا، يا شارون، ليس هذه الليلة، ولكن مع بزوغ الفجر... إن هذا مستحيل... أنقل أمنون... لا جدوى من الحديث حتى الصباح... إن هذا جزء من خطة شاملة" (ص 268).
وقد حلت المشكلة بتدخل القيادة العليا لصالح "شارون" بعد أن اتصل الأخير بـ"ديان"، متجاوزًا قيادة المنطقة الجنوبية، وأقنعه بوجهة نظره.
تميز يوم 21/10 بهجمات مصرية مضادة قام بها اللواء المدرع "22"، وبتقدم إسرائيلي بطيء في الثغرة، معزّز بقصف جوي كثيف، تم خلاله تدمير عدد من قواعد الصواريخ المضادة للطائرات. أما وضع القوات الإسرائيلية في شرقي القناة فبقي كما هو عليه، بعد أن صمدت القوات المصرية في موقعي "ميسوري" و"حموطال".
وخلافًا لهذا اليوم، شهد يوم 22/10 (اليوم الذي أُعلن فيه عن وقف إطلاق النار) معارك عنيفة في جبهة الثغرة، حاول فيها المصريون وقف التقدم الإسرائيلي، في حين حاول الإسرائيليون التقدم بأقصى قدر ممكن بهدف الوصول إلى طريق القاهرة - السويس لقطعها بوجه الجيش الثالث.
بعد أن يستغرق المؤلف هجمات مصرية مضادة، ويشيد بصمود المصريين "إن عناد القتال المصري كان مفاجأة بالفعل. في معظم الكتائب وقعت إصابات بين صفوفنا..." (ص 275) يذكر أن وضع قائد الجيش الثالث، الذي يدير العمليات من موقع على طريق القاهرة - السويس، كان حرجًا للغاية، فقد اتصل باللواء الفلسطيني وأمره بعدم الانسحاب كما وأمر بنقل كتيبة دبابات من الضفة الشرقية إلى الضفة الغربية، وحاول تنسيق القوات غربي القناة. ويكشف الكاتب، استنادًا إلى وثائق وقعت في يده أن قائد الجيش الثالث أمر الفرقة المدرعة "4" بشن هجوم مضاد لإبعاد الإسرائيليين عن طريق القاهرة - السويس، وحماية موقعه الذي تعرض في اليوم نفسه إلى قصف شديد.
ويبدو - حسب الوثائق التي يطرحها أدان - أن قائد الجيش الثالث عاني الأمرّين من بعض ضباطه! فبعد اتصال له بقائد اللواء الميكانيكي الأول اتضح له أن قائد اللواء "113" الميكانيكي موجود عند قائد اللواء "1"، بدل أن يكون على رأس لوائه في المعركة فما كان منه إلا أن سخر من اللواء "113" بقوله:" مدفعيتك تعمل باتجاه مباشر وهي شبه مطوقة، في حين تقف أنت مسافة 13 كم إلى الخلف" وبعد أن أمر القائدين بالتحرك لصد الإسرائيليين، اتصل بوزير الحربية "سيدي"، الوضع عائم، العدو اخترق. قائد اللواء (113) يتصرف كالأرنب، وهو موجود في قيادة الفرقة "6" في الكيلو متر 109 على بعد 13 كم من وحداته، ودبابات العدو تدمر مدفعيته.. للأسف، إنني أتعامل مع كذابين، قائد اللواء لا يقود رجاله في الوادي، بل يجلس عند الكيلو 109 ... ليكن الله بعوننا !" (ص 296) (يقول عبد المنعم واصل فى مذكراتة ان هذا اللواء انضم لقوات الجيش الثانى وبالتالى ليس منطقيا توجية الاوامر الية كما جاء فى مذكرات ادان)
عند ظهر اليوم نفسه، ومع اقتراب بعض الوحدات الإسرائيلية من طريق القاهرة - السويس، ازداد وضع الجيش الثالث حرجًا. فيعد أن أبلغ القيادة العليا عن مجريات الأمور اتصل ثانية "بقابيل" قائد الفرقة "4" وأبلغه عن قطع العدو لمحور السويس - القاهرة، وأنه أصبح محاصرًا، ليتوجه إليه قائلاً:"إنك تحت إمرتي. لماذا تعارض... أقول لك أن حلقة الحصار تضيق حول الجيش. الطريق ليست بأيد عربية... افتح لي طريق السويس، وأصدر أمرًا لقائد الفرقة الميكانيكية 6 ... إنني أصدر لك أمرًا واضحًا. العدو باتجاهي... بعد أن احتل العدو الكيلو متر 109... فإنك أنت تشكل احتياطي الجيش!" (ص 298).
في هذا اليوم، اندفعت القوات الإسرائيلية صوب نقاط في جنوب البحيرات المرة، لتنطلق منها شمالاً نحو المواقع المصرية التي كانت لا تزال مرابطة إلى الغرب من هذه البحيرات.
كانت قوات أدان في سباق مع الزمن، فقد كان من المنتظر صدور قرار مجلس الامن بوقف إطلاق النار. ولم تكن هذه القوات في ذلك الحين قد وصلت إلى طريق القاهرة - السويس أو إلى جنوب البحيرات المرة. وبعد معارك عنيفة تمكنت طلائع القوات الإسرائيلية من الوصول إلى نقطة في جنوب البحيرات، بيد أنها تحاشت المرابطة في الشريط الزراعي، في حين كانت قوات أخرى تخوض معارك إلى الغرب من تلك البحيرات. وكان وضع القوات هنالك متداخلاً. وفي تمما الساعة 17.25 صدر الأمر بوقف الأعمال القتالية استجابة لقرار مجلس الأمن. وكانت المشكلة الأولى التي واجهت هذا القرار تداخل القوات "إذ كانت هنالك أعداد كبيرة من القوات الإسرائيلية والمصرية متداخلة بعضها ببعض" (ص 282) وفق قول أدان الذي لم يبد في كتابه اغتباطًا بوقف إطلاق النار، بسبب إرغامه قواته على التوقف في منتصف السباق.
لم يكتب لاتفاق وقف إطلاق النار العيش طويلاً، إذ لم يلبث أن انتُهك. ومع أن أدان يحمّل المصريين مسؤولية انتهاك الاتفاق، إلا أن قصة "الانتهاك" التي يوردها تؤكد أن الإسرائيليين هم أبطالها. فبعيد سريان مفعول الاتفاق بساعات قليلة "وصلت كتيبة اليشيف التابعة للواء أريه، بصمت، قرب الشريط الزراعي لقناة المياه العذبة الجنوبية. وفور دخول الشريط لقي الملازم كوبي قائد السرية مصرعه من طلقة قناص. واصلت الكتيبة التقدم، ووصلت إلى تسيدون (اسم كودي لموقع) وكذلك إلى الحاجز الترابي على القناة. كان الليل قد أرخى سدوله، وبدت المزروعات كأنها غابة... أطلقت نيران غزيرة من جميع الاتجاهات، واضطرت الكتيبة لترك المكان والتحرك شمالاً..." لتجد نفسها بعد مدة بسيطة في وجه موقع مصري آخر من فرقة المشاة "7" يطلق عليها نيران أسلحته فما كان من قائد الكتيبة إلا أن أمر قواته "بإطلاق النار في جميع الاتجاهات. وتحت غطاء النار، جمعت الكتيبة قتلاها وجرحاها، ثم أمرها قائدها بالتحرك خلفه إلى الشمال... وأخيرًا اجتازت الكتيبة جسرًا على المياه العذبة وتخلصت من الشريط الزراعي، وتوجهت غربًا لتصطدم بحقل ألغام. وقد أبقت وراءها في تلك المنطقة 9 دبابات من مجموع 18 دبابة، ومصفحتين..." (ص 282-283).
في هذا الوقت كانت قوات "شارون" قد وصلت إلى مشارف الإسماعلية شمالاً، إلا أنها كانت عاجزة عن التقدم، كما وأن قواته في الضفة الشرقية - لواء "طوبيا"- عجزت، هي الأخرى، عن احتلال موقع "ميسوري"، واستقبلت وقف إطلاق النار بسقوط صاروخ "سكود" مصري بين صفوفها أودى بحياة سبعة من أفرادها (ص 284).
استكمال عملية تطويق الجيش الثالث:
حاول أدان، بفعل عدم رضاه عن قرار وقف إطلاق النار، إقناع قيادة الجبهة بمواصلة المعارك بغية تطويق الجيش الثالث. وقد فضلت القيادة، على الرغم من عدم تحمسها للقرار، التريث في البت في الموضوع. ولم يدم تريثها طويلاً، فبعد ظهيرة 23/10 صدرت تعليمات القيادة بتوسيع الثغرة. وكانت قد جرت قبل ذلك اشتباكات بسيطة، إلا أن الأمر البارز في هذا اليوم هو تكاثر أعداد الأسرى المصريين، فبعد أن كان لدى الإسرائيليين بضع مئات من الأسرى، أصبح لديهم، خلال الساعات الأولى من اليوم الأول لقرار وقف إطلاق النار 4500 أسير، ليرتفع الرقم في اليوم التالي إلى 6000 أسير (ص286-287).
في تمام الساعة الثانية بعد الظهر أصدر "غونين" أوامره لكل من "أدان" و"ماغين" بالتقدم جنوبًا لإحكام الحصار على الجيش الثالث الذي كان يضم 30.000 جندي و300 دبابة و300 مدفع. وقد اندفعت القوات الإسرائيلية نحو الجنوب على شكل أربعة أسهم: لواء "نتكا" على امتداد القناة، ويليه لواء "أريه" ومن ثم لواء "غابي"(مجموعة ألوية أدان) وإلى أقصى الغرب منها فرقة "ماغين"، مدعومة بسلاح الجو.
كان تقدم هذه القوات، وفق تصوير أدان لمسار تقدمها، ناجحًا، فقد قتلت أثناء تقدمها السريع مئات الجنود المصريين، في حين كان آلاف من هؤلاء الجنود هائمين على وجوههم "ولم يكن هنالك وقت للوقوف وأخذهم أسرى". واستولت على عدد من المواقع، من بينها مواقع للصواريخ المضادة للطيران، دون أن تواجه مقاومة تذكر، باستثناء مقاومة من جانب قوات من فرقة المشاة "19" مزودة بصواريخ "ساغر"، كانت قد قدمت قبل يوم من الضفة الشرقية وتمركزت في الشريط الزراعي بالقرب من القناة، فقد تصدت هذه القوات للجناح الأيسر للواء "أريه"، وأوقعت فيه إصابات وعرقلت تقدمه، الأمر الذي تطلب من أدان تحريك لواء "نتكا" صوب الشريط الزراعي، بغرض تطهيره وتمكين لواء "أريه" من التقدم. وقد وصل هذا اللواء، خلال الليلة نفيها، إلى مطار "الشلوفة" على بعد 10 كم إلى الشمال من مدينة السويس، في حين تمكن لواء "غابي"من الوصول إلى معامل السماد على خليج السويس.
أما فرقة "ماغين" فقد شرعت بالتقدم متأخرة بعض الوقت، واستخدمت، أثناء تقدمها ليلاً، مصابيح دباباتها وآلياتها، ووصلت إلى مشارف ميناء "الأدبية" لتحتله في اليوم التالي مدعومة بزوارق حربية إسرائيلية.
وبذلك استكملت عملية حصار الجيش الثالث. ولا شك بأن فرقة أدان، التي ذاقت الأمرين في بداية الحرب، قد شعرت بتعويض كبير في نهايتها، فقد بدأت الحرب على الضفة الشرقية من القطاع الشمالي للقناة، وكانت من أكثر الفرق الإسرائيلية تعرضًا للخسائر هناك، لتجد نفسها عند انتهاء الحرب على الضفة الغربية من القطاع الجنوبي للقناة، تُحكم الحصار على مدينة السويس والجيش الثالث. ويبدو أن شهوة تتويج إنجازاتها باحتلال مدينة السويس، قد دفعتها للقيام بهجوم فاشل شبيه - إلى حد ما - بفشل هجومها في 8/10.
وقبل التطرق إلى محاولة احتلال السويس، تجدر الملاحظة أن من بين الأسباب الرئيسية لانتصار الجيش الإسرائيلي غربي القناة، عدم تكيف القيادة المصرية مع الأوضاع المستجدة، وعجزها عن المبادرة والمبادأة، فقد تركت القوات الإسرائيلية الرئيسية تعمل ضد قوات غير رئيسية، وأقصى ما فعلته كان تعزيز قواتها غير الرئيسية، وعلى دفعات، بقوات بسيطة لم يكن بوسعها وقف الهجوم الإسرائيلي في الثغرة أو القضاء عليه.
محاولة احتلال السويس:
كانت نتيجة محاولة اقتحام مدينة السويس كنيجة الهجوم الإسرائيلي في 8/10 .
وكما حمّل نفسه مسؤولية عدم معارضة خطة الهجوم لاجتياز القناة من طرفها الشمالي، عاد أدان وحمّل نفسه مسؤولية عدم التصدي لخطة احتلال السويس على الطرف الجنوبي من القناة.
لقد جاء قرار احتلال المدينة، عقب وقف إطلاق النار، أثناء الهجوم الإسرائيلي الرامي لتطويق الجيش الثالث. ومن الملاحظ أن القيادة الإسرائيلية لم تعتبر هذا الاحتلال أمرًا ضروريًّا يجب تحقيقه، فقد اشترطت خلو المدينة من السكان لتنفيذ قرار الاحتلال.
تبلور قرار الاحتلال في الساعة 23.30 من يوم 23/10، بعد أن صدرت الأوامر لاحتلال جبل "عتاقة" في الضفة الغربية و"عيون موسى" في الضفة الشرقية (تراجعت القيادة فيما بعد عن احتلال الهدف الثاني بسبب تمركز قوات مصرية كبيرة في المنطقة). حين اتصل "غونين" برئيس هيئة الأركان وتداولا معًا موضوع مدينة السويس، وقال له:" من الممكن أن ندخل السويس غدًا صباحًا، إذا كانت المدينة خالية"، ليصدر، بعد هذا الحديث، أوامر لقيادة المنطقة الجنوبية تدعو إلى مواصلة تطهير الضفة الغربية واحتلال السويس "شريطة أن تكون المدينة خالية". وبناء على ذلك اتصل، بعيد منتصف الليل، العميد ثاني "أوري بن اري" نائب "غونين"، بأدان ولخص له مهامه القتالية، في يوم 24/10 . وتتلخص هذه المهام في استكمال تطهير منطقة عمل فرقته، وغلق أنابيب المياه القريبة من السويس في محاولة لتعطيش الجيش الثالث، واحتلال قناة السويس "شرط أن لا تكون ستالينغراد" (ص290).
ويتضح من هذه التعليمات أن القرار النهائي بخصوص احتلال المدينة كان بيد أدان الذي يشير في كتابه إلى أن المدينة لم تكن خالية،