خلال العقود القليلة القادمة، ستصبح الصين ثانية مركز شرق آسيا، وإمكانية تمركز شرق آسيا حول صين قوية ليست كارثية كما جادل البعض في الولايات المتحدة، والمخاوف من تعرض المصالح الأمريكية للخطر إذا هيمنت الصين على المنطقة لا أساس لها على الأغلب، وربما تكون خطيرة، والحقيقة، إنه من مصلحة أمريكا القومية أن تتفاهم مع قيادة الصين التاريخية في المنطقة وأن تتبنى مشروع إرساء علاقة إيجابية تسهل على الصين قيامها بدور بناء. أما البديل -أى المجابهة مع الصين- فسيرسم مساراً خطراً للولايات المتحدة.
الكثيرون من الأمريكيين الذين يطالبون بالسيادة الأمريكية على العالم سيهاجمون هذا الموقف على أنه مناقض للبديهة وأنه يطرح الإستسلام الأمريكي المبكر للصينين وأن هذا في أساسه أمر يناقض المبادئ الأمريكية كما أنه يناقض مفهوم الصدارة والسيادة، وقد ينبذه البعض على أنه سذاجة تتنافى مع الرؤية الواقعية، ولكن هذا الطرح يتنافى مع البديهة فقط في إطار أن التفكير في هذه المواضيع تشوبه استراتيجيات الحرب الباردة التي انقضت أيامها. كما أن الواقعية السياسية توجب أن ننظر إلى الصين ومستقبلها كما هو قائم فعلاً وليس كما نتمناه أن يكون. فتوقع احتواء الصين أو إشغالها من جانب واحد من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وحسب الأهواء ومن دون عواقب خطيرة أمر غير واقعي. لذا يجب على الأمريكيين أن يتخلوا إلى الأبد عن مفهوم "مع الصين" أو "ضدها".
إن ظهور الصين من جديد كقوة عالمية سيعيد شرق آسيا إلى نظام يشبه النظام التقليدي الذي ساد المنطقة. ومن المنظور الأمريكي، سيتطلب ذلك إعادة تقييم الأدوار والمصالح والسياسات في العقود القادمة. ولإرساء الأساس لدور أمريكي إيجابى في شرق آسيا في القرن الواحد والعشرين ومابعده، تحتاج الولايات المتحدة لمراجعة وإعادة التفكير في سياستها ليس فقط تجاه الصين بل تجاه تايوان والكوريتين واليابان أيضاً.
العودة إلى مركزية الصين
الحرب الأهلية الصينية التي أقامت الصين الحديثة في 1949م كانت تحدياً رئيسياً لسياسة الولايات المتحدة الخارجية. لقد مثلت "الخطر الشيوعي" على مقياس واسع ومثلت بداية الحرب الباردة في آسيا التي كلفت الملايين من أرواح الآسيويين وأكثر من مئة ألف من أرواح الأمريكيين. إن سجل الحرب الباردة الأمريكى في شرق آسيا ملطخ بالإخفاقات السياسية الشديدة في الصين وفيتنام - حيث ساندت الولايات المتحدة ما تبين في النهاية أنها الأطراف الخاسرة - وفي كوريا وافقت الولايات المتحدة على التقسيم المبدئى لشبه الجزيزة لكنها بعد ذلك أخفقت في حماية كوريا الجنوبية بعدم ضمها إلى التزامات أمريكا الأمنية في آسيا. وبنظرة إلى الوراء، نرى أن الأحداث والقرارات المبكرة التي أدت إلى الحرب الباردة المدمرة في شرق آسيا لاتزال تشكل أساس دور أمريكا الحالى في المنطقة والولايات المتحدة مقدر لها أن تكرر النواحي المأساوية لتاريخها في شرق آسيا ما لم تغير سياستها لتعكس الأحداث والتطورات العظمى التي تتكشف في المنطقة. في شرق آسيا، ستكون للصين صدارة ومن مصلحة الولايات المتحدة أن تتعلم كيفية التعايش مع تلك المنطقة والازدهار فيها. إن مدخل سياسة الولايات المتحدة الخارجية التقليدى القائم على التحالفات الثنائية التي تهدف إلى عزل الصين لن ينجح وفي الحقيقة قد يؤدى هذا المدخل إلى كارثة.
تتصف الخبرة الغربية في العلاقات الدولية والصيغة التقليدية للعلاقات بين دول شرق آسيا بتناقضات بارزة. ففى حين تميز تعددية قطبية القوى الدولية الكبرى في أوروبا. فإن نظام شرق آسيا التقليدى كان في الغالب وحيد القطب، فالصين عندما كانت المملكة الوسطى Middle Kingdom لعبت دور القطب الوحيد لفترات طويلة من تاريخ شرق آسيا. والوجه الآخر لهذه التناقضات يتعلق بالمستويات المختلفة من "الفوضى" Anarchy بين النظامين. فالواقعيون من الساسة الحديثين بنوا دراستهم للعلاقات الدولية على الديناميكية التي تحكم الدول الأوروبية المتماثلة والمتنافسة على كسب القوة في ظل "مبدأ الفوضى المنظم" Ordering Principle of anarchy في شرق آسيا، فرض حجم الصين ووزنها تنظيماً تراتيباً على الديناميكية الإقليمية. فإلى جانب قوتها، فإن التأثير الكونفوشي على السياسات الدولية، ونظام التجارة القائم على دفع إتاوات التابعية Tributary System مكن الصين من إدارة النظام الإقليمى بطريقة سليمة نسبياً حتى القرن التاسع عشر.
الولايات المتحدة قوة عظمى ذات أسس ثابتة في الوقت الراهن في حين أن الصين حالياً قوة تراجع منطلقاتها وهي في طور الابتعاد عن المبادئ الماركسية التقليدية البحتة. فالصين الحديثة في ظل قيادة الحزب الشيوعي الصيني، التي يتبناها التاريخ الحديث وبصورة رئيسية في شكل الإمبريالية الغربية، جعلت الإحياء القومي أولوية البلاد الأولى، إنها تحاول إعادة تشكيل التاريخ وإستعادة مكانتها اللائقة كحضارة وقوة عظمى. كان هذا هو الموضوع الرئيسي ومصدر شرعية الحزب، من حيث الجوهر، يجب أن تناضل الصين من أجل السيادة الإقليمية، فتاريخها وحجمها أوجد حاجة لديها للسيادة وهو ما يستحيل إنكاره. وفي الوقت نفسه، لايمكن للحزب الشيوعي أن يسمح للولايات المتحدة بالسيادة على آسيا لأن حكومة الولايات المتحدة تستمر في أن تمثل تهديداً للحكم الشيوعي في الصين في صيغة تحالفها العسكري مع الدول المحيطة وبسبب شجبها المنتظم لسياسات بكين، وسط الفجوة في المفهوم والتباعد في الأهداف فإن أنجح طريقة للولايات المتحدة لاستعداء الصين هي رسمها كعدو - وهي حالة مدمرة من النبوءة التي تتحقق ذاتياً.
في العلاقات الدولية، تعتبر طريقة فهم وتأويل النوايا أكثر أهمية من النوايا نفسها.هناك فجوة تتعلق بالتصورات والفهم تفصل بين الولايات المتحدة والصين. فعلى الرغم من أن سياسة الولايات المتحدة الحالية نحو الصين يمكن أن توسم بأنها دفاعية ومعتدلة، فإن الصينيين يرونها ضارة وخبيثة.فمحاولات الولايات المتحدة لحث الصينيين وإغرائهم ليلعبوا وفق القواعد الأمريكية وخصوصاً علاقة أمريكا التي تتسم بالازدواجية مع تايوان... تعتبر هذه المحاولات من قبل بكين تدخلاً ومحاولة لوضع العوائق في طريق تقدم الصين. وكلما ازدادت محاولات الولايات المتحدة إقناع الصين بمشروعية هذه السياسات ازداد إقتناع الصين بعكس ذلك.
هذه الفجوة في الفهم اتسعت بصورة معتبرة نتيجة لقصف الولايات المتحدة السفارة الصينية في بلغراد أثناء حرب الناتو الجوية في كوسوفو في العام 1999م ونتيجة لحادثة طائرة التجسس الأخيرة في جزيرة هاينان والتباعد الديبلوماسى الذي تلا هاتين الحادثتين.
ومن الواضح أن العودة إلى نظام التمركز الصيني التبعي مستحيل التصور في الظروف الدولية الحديثة. ولكن بروز شرق آسيا متمركز حول صين محدثة قوية لا يصعب تخيله. ستكون الصين مركز ثقل المنطقة من حيث السكان والمساحة والاقتصاد والقوة العسكرية، ومن حيث النشاط الاقتصادي، فالصين بطبقتها الوسطى الكبيرة والمتزايدة من المستهلكين هي سلفاً سوق جاذبة لإقتصاديات شرق آسيا المصدرة ومصدر جيد لمنتجات ومواد أولية رخيصة. بالإضافة إلى ذلك فإن الناحية الثقافية لدور الصين في المنطقة لا يمكن تجاهلها. فالثقافة الصينية بدرجات متفاوتة، كان لها تأثير ثابت على معظم مجتمعات شرق آسيا وهذا العنصر في العلاقات يكرس تأثير الصين.
من المعترف به أن بيئة أمن المنطقة المستقبلية ستتوقف إلى حد بعيد على السلوك الصيني والفهم الذي يشكله جيرانها حول نواياها. إن علاقة أمريكا المتطورة حد بعيد مسار وطبيعة دور الصين المتصاعد. إذا حقق الصينيون التفوق بعد كفاح طويل حول السيادة مع الولايات المتحدة، فإن سلطتها المتفوقة ستكون على الأرجح قاسية ومدمرة وقائمة على القوة العسكرية. ولكن إذا تحقق التفوق الصيني في ظل علاقة صينية أمريكية إيجابية. فمن المرجح عندها أن تكون الصين قوة إقليمية معتدلة أو حتى خيرة. ومرة ثانية ستتكيف الدول الإقليمية مع واقع العيش ضمن شرق آسيا تسيطر عليها الصين وسيتعزز دور الولايات المتحدة في المنطقة في تلك الحالة من المرجح أن نرى نظاماً إقليميا تسيطر عليه الصين وليس عرضة للنفوذ والإكراه الأمريكي بل إنه سيكون نظاماً مفتوحاً على المشاركة والتجارة الأمريكية.
ضد التشاؤم الأمريكي
الفرضية المستخلصة في معظم السيناريوهات الأمريكية هي أن الصين تشكل تهديداً لجيرانها وللولايات المتحدة. ولكن ماذا لو تصرفت الصين كدولة مسيطرة خيرة أو على الأقل كدولة معتدلة؟ فالكثيرون بمن فيهم العلماء البارزون مثل الباحث الراحل جيرالد سيجال Gerald Segal في كتابه (دفاعاً عن الصين) حاججوا أن أعمال الصين العسكرية كانت تاريخياً دفاعية أو تأديبية في طبيعتها ونادراً ما كانت إمبريالية، وأن المبادئ الخمسة للتعايش السلمى التي وضعها رئيس وزراء جمهورية الصين الشعبية تسو إن لاي ZhouEnlai قائمة على مفاهيم عدم التدخل وعدم نشر القوات خارج البلاد، وهكذا. من المنظور الصيني -تستخدم القوة العسكرية فقط لتحقيق الاستقرار المحلى "كما في التيبت وتايوان" أو الدفاع الوطني "كما في في حالة كوريا والهند وفيتنام".
ومع استمرار شرق آسيا في الظهور كنظام إقليمي، يمكن تحقيق صيغة من "التوازن الهش Soft balance" حيث يتم ردع قوة الصين من قبل الدول الأخرى في المنطقة بالإضافة إلى الولايات المتحدة وهذا لايشكل توازناً غير مستقر للقوة العسكرية بالمعنى التقليدي، بل -رداً على الضغوط التي تمارس عليها. بالإعتماد الاقتصادي المتبادل مع الدول الأخرى- تحاول الصين الوصول إلى إجماع بشأن القضايا الإقليمية مع اللاعبين الآخرين بدلاً من المخاطرة بالنزاع والعداء عبر "الاستئساد" على هؤلاء اللاعبين، وفي السياق الآسيوي الأكبر ستكون الهند وروسيا عاملين في البنية الكلية للتوازن. وتستطيع الولايات المتحدة أن تلعب دوراً حاسماً كعامل توازن خارجي.
إن جوهر إرتباط الولايات المتحدة المستقبلى بشرق آسيا جوهر إقتصادى، وهذا لا يعني أن الولايات المتحدة يجب أن تحتفظ بالسيطرة على شرق آسيا لتأمين مصالحها الإقتصادية هناك. فلو كان الحال كذلك فعندها ستحاول كل قوة إقتصادية عالمية كسب السيطرة واحتكار السلطة في المناطق التي تعتبرها مفتاحاً لسلامتها الاقتصادية. وحتى بعد تأمين سيطرتها ستكسب الصين القليل من زعزعة الاستقرار الذي يؤمن التبادل الاقتصادي والرفاهية في المنطقة، إن تدمير العلاقات عبر المحيط الهادي سيكون مدمراً للصينيين. حوالي 35% من الصادرات الصينية تذهب إلى الولايات المتحدة، وفضلاً عن ذلك فإن اثنين من أهم شركائها التجاريين -اليابان وكوريا الجنوبية- يعتمدان أيضاً على قدرتهما على التصدير إلى السوق الأمريكية. ومع عضوية الصين القادمة في منظمة التجارة العالمية، فإن الاعتماد المتبادل على شبكة التجارة عبر المحيط الهادي سيستمر في التوسع. من المسلم به أن شرق آسيا والمحيط الهادي متخلفان جداً عن أوروبا من حيث التعاون والتكامل الإقليمي، ولكن من الخطأ الإعتقاد أن الصين الصاعدة ستفجر حتماً سباقات التسلح وعدم الاستقرار. فالرغبة المشتركة بالسلام والرفاهية التي تقوي الاتحاد الأوروبي متوفرة في شرق آسيا أيضاً. التحدي الصيني القادم يكمن في مجال الثروة القومية لا الأيديولوجيا، القلة في بكين تضع الايديولوجيا قبل الأرباح. والأقل من القليل هم الذين يخاطرون بالاستقرار والثروة لنشر أيديولوجيا بائدة. والمحاججة بعكس ذلك مبالغة وسذاجة أبدية.
البديل المرفوض
أثبت التغيير في التوزيع العالمي للقوة أن تزامن حدث ما له تأثير عميق على السياسة غالباً ما تكون مصحوبة بالحرب، تاريخياً تسببت الحرب في سقوط قوة عظمى الأمر الذي مكن من ظهور قوة جديدة، أو أدى إلى تحارب دولتين متنافستين من أجل السيادة. في الحالة الثانية نتجت الحرب لأن الدولة المسيطرة الحاكمة قاومت تحدي القوة العالمية الصاعدة، يجب على الولايات المتحدة أن تتجنب هذا الفخ.
فكرة أن أفضل طريقة لحماية مصالح الولايات المتحدة في شرق آسيا هي تصوير الصين على أنها تهديد وشيك الوقوع فكرة خطيرة وقصيرة النظر. ولعب ورقة الصين الجديدة هذه يمكن أن يثير المخاوف الأمريكية ويحشد بعض التأييد المحلي لسياسة أمنية أمريكية عدوانية للتعامل مع هذه "التهديد". ولكن ردة فعل شرق آسيا ستكون ضد مصالح الولايات المتحدة سترد الصين بإعادة توزيع الموارد، وقد تقرر اليابان وكوريا الجنوبية أن سياسة الولايات المتحدة خاطئة وتتبعان سياسات مستقلة للتكيف مع الصين.
كانت الصين تاريخياً قوة قارية وستستمر بالمحافظة على تركيزها الاستراتيجي على الكتلة الآسيوية وبافتراض هذه النظرة القارية فإن أى عدو محتمل يجب أن يكون مستعداً للانخراط في حملات برية طويلة يمكن أن تتطلب تشكيلات برية كثيفة وتوقع أعداداً كبيرة من الإصابات. محاربة الصين في حرب برية طويلة في آسيا ستكون كارثة للولايات المتحدة لأن القوات الأمريكية لن تكون قادرة على تهديد مراكز الصين التقليدية -مساحتها الواسعة وسكانها- من دون خسارة كبيرة في الأرواح الأمريكية. وفي غياب التهديد المباشر للأمن القومي الأمريكي من الصعب أن نتصور سيناريو حيث يدعم الجمهور الأمريكي نزاعاً مع الصين حول السيطرة على شرق آسيا وخصوصاً في ضوء كره الأمريكيين للإصابات والحوادث المؤسفة وحتى البسيطة.
على سبيل المثال: تعارض الولايات المتحدة استخدام القوة العسكرية في تايوان وتقول إن ذلك يهدد بمجابهة مع الصين من أجل "أمن" الجزيرة "الرئيس جورج بوش الابن أوضح ذلك أكثر بالقول بطريقة لاتليق برجال الدولة إن الولايات المتحدة ستأتي حقاً لمساعدة تايوان". ومع ذلك يمكن رؤية عدم تناسق عظيم في الأهمية التي تعيرها الصين والولايات المتحدة لهذا الموضوع، وبعيداً عن الكلام الطنان. فجمهورية الصين الشعبية ملتزمة تماماً بمنع الإنفصال التايواني حتى ولو تكلفت نزاعاً عسكرياً على نطاق واسع مع الولايات المتحدة. وعلى العكس من ذلك، من الصعب أن نتصور الولايات المتحدة تضحي بأعداد كبيرة من الأمريكيين في حرب مع الصين من أجل "الأمن" التايواني "وهو تقييم للموقف يشارك فيه الصينيون أيضاً".
إن أي سيناريو لنزاع مستقبلي حول شرق آسيا يجب أن يفترض أن الصين ستحارب لتستمر كدولة متماسكة، في حين أن أمريكا ستحارب من أجل سيطرة محفوفة بالمخاطر على منطقة تراها كقوة أجنبية بعيدة، فبالنسبة للولايات المتحدة ستبرهن حرب السيطرة مع الصين في شرق آسيا أنها مكلفة جداً وأنها في النهاية لايمكن كسبها.