أحد السمات لتقرير عن وزارة الدفاع فى الشهر الماضى بشأن القوة المسلحة الصينية هو مناقشته للسياسة النووية.
قبل كل شيئ الوثيقة المعنونة " التقرير السنوى للكونجرس: القوة العسكرية لجمهورية الصين الشعبية " تعكس موقف عسكرى أمريكى أكثر عدوانية أزاء الصين عما كان عليه الحال فى السنوات الماضية، فالوثيقة تحدد النظام الصينى بإعتباره منافس عسكرى وتسلط الأضواء على تزايد الأنفاق العسكرى للصين، خاصة إستثماراتها فى التكنولوجيا العسكرية المتقدمة.
منذ أصدار مثل هذا التقرير السنوى للمرة الأولى عام 2001، يسعى التقرير السنوى للإيحاء بأن الصين تشكل تهديداً نوويا متزايداً للولايات المتحدة الأمريكية. ولكن مع الأخذ في الأعتبار عقيدة إدارة " بوش" بشأن الحرب الإستباقية، فإن مثل هذه الإشارات تكشف عن أن إدارة بوش والبنتاجون تستعدان لخوض حرب نووية.
طبقا للبنتاجون، فإن " التهديد " ناجم عن مناقشة مزعومة جارية فى الدوائر العسكرية الصينية بشأن السياسة الإستراتيجية الصينية الخاصة بعدم توجيه الضربة النووية الأولى، وعدم إستخدام السلاح النووى إلا فى الرد على هجوم نووى فقط.
صرح " بيتر رودمان "، مساعد وزير الدفاع الأمريكى لشئون الأمن الدولى، للخدمات الصحفية للقوات الأمريكية : أحد الأمور التى أشرنا إليها في تقرير هذا العام هى قواتهم الإستراتيجية. فنحن ندرك أنهم شرعوا فى إجراء بعض التحديثات الهامة فى عموم قواتهم الإستراتيجية. ..
نحن نأخذهم بأقوالهم، فهم يلتزمون بعقيدة عدم توجيه الضربة الأولى، لكننا نرى أحيانا تعليقات مغايرة من جانب بعض الإستراتيجيين الصينين.
أشار البنتاجون فى تقرير إلى تصريح الجنرال الصينى ذو تشينج هو فى يوليو 2007 كأحد " التطورات الأساسية " فى السياسة الإستراتيجية الصينية. أعلن " ذو تشينج هو " أن الولايات المتحدة إذا هددت بشن هجوم على الصين فى صراعها مع تايوان، فإن الصين سترد بإستخدام الأسلحة النووية ".
ورغم إقرار البنتاجون بأن بكين إعتذرت عن تصريحات " ذو " وقالت مجرد " وجهة نظر شخصية "، وأكدت التزاماتها بسياسة عدم توجيه الضربة الأولى، وذلك خلال زيارة وزير الدفاع الأمريكى رونالد رامسفيلد للصين فى أكتوبر الماضى. إلا أن التقرير يخلص إلى أن " تصريحات ذو "، تكشف عن أن الدوائر العسكرية والمسئولين المدنيين فى الأمن القومى يناقشون بشكل واسع وغير مسبوق، الجدوى الراهنة لسياسة عدم اللجوء للضربة النووية الأولى ".
فى هذا الإطار، يستشهد التقرير بعدد من الأمريكيين الصينين؛ منهم " تشوشولونج " العالم بجامعة " كوين جوا" الذى كررت وسائل الإعلام قوله فى يوليو 2007 بأنه " إذا قامت بلدان أجنبية بشن حرب شاملة ضد الصين إستخدمت فيها كل الأسلحة المتقدمة عدا الأسلحة النووية. فإن الصين قد تتخلى عن التزامها بسياسة عدم اللجوء للضربة النووية الأولى فى ذلك الوقت، الذى يكون فيه مصير البلاد فى الميزان".
وكتب أكاديمى آخر، " شيني دين جلى" فى صحيفة " الأمن الصينى " أواخر العام الماضى إذا ما تصورنا أن القوات الصينية التقليدية دمرت، وأن تايوان انتهزت الفرصة لإعلان استقلالها وفرضه كأمر واقع، فإن الصين لا يمكن أن تسمح بتدمير أسلحتها النووية بواسطة هجمات محكمة بإستخدام الأسلحة التقليدية، دونما إستخدامها كوسيلة للدفاع".
لا تقدم أى من هذه التعليقات دليلا على أن بكين تخلت عن الالتزام بسياسة عدم توجيه الضربة النووية الأولى المعلنة من جانب الصين منذ أعلنت الصين حيازتها لاسلحة نووية فى الستينات علاوة على ذلك، وبصرف النظر عن وجود أية مؤشرات على تعزيزات عسكرية، فإن الدلائل على إمكانية إستخدام أسلحة نووية لمواجهة هجوم أمريكى بالأسلحة التقليدية، يؤكد ضعف الصين مقارنة بالولايات المتحدة. ..
رغم الجهود التى تبذل لتحديث التسليح التقليدى والعقيدة الأستراتيجية، إلا أن معظم الأسلحة الصينية قديمة. ومعظم التكنولوجيا العسكرية الصينية المعقدة لازالت تعتمد بكثافة على مصادر خارجية، وخاصة الروسية. وعلى الرغم من الكثافة العددية للقوات المسلحة الصينية إلا أنها تستخدم معدات شبة اوتوماتيكية، وقيادتها بلا خبرات ومعظم الجنود الصينيين فلاحين وغير مدنيين...
الحقيقة أن تقرير البنتاجون تعمد إلقاء الأضواء على تعليقات محدودة ومعزولة. .. وأن هذا الأختبار فى حد ذاته يكشف بوضوح السياسة النووية لإدارة بوش، أكثر مما يكشف السياسة النووية للصين. ويجب ملاحظة أنه فى عز الحرب الباردة، لم تتخل الولايات المتحدة عن سياسة الضربة النووية الأولى، والحقيقة، هي ان الولايات المتحدة وضعت أسلحة نووية تكتيكية فى أوروبا وفى كوريا الجنوبية، وزعمت عدم قدرة الولايات المتحدة والقوات المتحالفة معها على الصمود أمام الأسلحة التقليدية للقوات السوفيتية أو الصينية.
الإشارة إلى احتمالات التهديد الصينى هو مجرد حجة تقليدية لتبرير الجهود المكثفة للبنتاجون لتحديث وتطوير ترسانته من الأسلحة وفرض هيمنة نووية لا يمكن تحديها. . نشر مقال فى الفورين أفيرز عدد مارس / أبريل بعنوان " الضربة النووية الأولى الساحقة للولايات المتحدة "، قدمت تقييما تقريرياً واقعيا لاتجاه السياسة النووية الأمريكية.
خلال الحرب الباردة، كانت العقيدة النووية تقوم على أساس " التدمير المتبادل ". من خلال الاف الأسلحة النووية الموضوعة على منصات الأطلاق المتعددة والمتنوعة، ومنها الغواصات، والطائرات الحربية، والصواريخ بعيدة المدى
أشار مقال الفورين أفيرز إلى أن بعض القطاعات فى المؤسسة الأمريكية لم توافق على عقيدة " التدمير النووى الشامل " وأن البنتاجون الآن يكافح من أجل " الضربة الأولية الأولى" – تلك هى، القدرة على محو والقضاء على قدرة العدو فى الرد نوويا على الضربة النووية الأمريكية الأولى. تم تخصيص معظم المقالة للقيام بتحليل دقيق، بإستخدام المصادر المتاحة، عن القدرة الروسية للصمود وتوجيه ضربة إنتقامية، إذا ما قامت أمريكا بتوجيه الضربة الأولى. والنتيجة التى يخلص لها المقال أنه مع ضعف تفوق الدفاعات الروسية، وضعف غواصاتها النووية وصواريخها البعيدة المدى بعد أنهيار الإتحاد السوفيتى عام 1991، أصبح من الممكن أن تقوم الولايات المتحدة بتدمير كل الأسلحة النووية الروسية فى الضربة النووية الأولى. وتصبح روسيا عاجزة عن الرد.
كما يشير مقال الفورين أفيرز بوضوح إلى أن الأسلحة النووية الصينية أيضا عرضة لهجوم أمريكى وذلك بقوله: " يمكن للولايات المتحدة أن توجه ضربة نووية أولى ناجحة ضد الصين، سواء وجهتها فجأة أو فى خلال هجوم صينى. فالصين لا تملك إلا ترسانة نووية إستراتيجية محددة. وما يملك جيش التحرير الشعبى من صواريخ ياليستية، أو صواريخ بعيدة المدى، لم يتم تحديثه. كما أن الصين تملك غواصتان تحملان صواريخ باليستية، إلا أن أحدهما تعمل والثانية لا يمكنها مغادرة المياه الصينية لانها غير قادرة على العمل.
أما قوة قاذفات القنابل الصينية المتوسطة المدى، فهى أيضا غير مؤثرة. فهى إما من طراز عتيق أو معرضة للهجوم. وطبقا للتقديرات العلنية للحكومة الأمريكية، فإن مجمل الترسانة النووية العابرة للقارات تتكون من 18 منصة اطلاق ثابتة لإطلاق رءوس نووية. وهى غير جاهزة للإطلاق، لإن الرؤوس النووية محفوظة فى المخازن، والصواريخ نفسها غير مزودة بالوقود. تستخدم الصواريخ الباليسية الصينية الوقود والسائل، الذى يفسد الصاروخ إذا وضع فيه أكثر من 24 ساعة. ولذلك لا يزود به الصاروخ إلا قبل إطلاقه بساعتين. كذلك، فإن الإفتقار إلى نظام متقدم للإنذار المبكر يجعل هذه الصواريخ عرضة للهجوم والتدمير. وهكذا يتضح أن الصين ليست بمنأى عن هجوم بالصواريخ الأمريكية أو ضربة أمريكية تستخدم مئات من صواريخ كروز الحاملة لرءوس نووية "
يشير مقال الفورين أفيرز، وهى المجلة الوثيقة العلاقات بالمؤسسة السياسية الأمريكية، إلى أن هناك مناقشات واسعة ومشروعات لدى قيادات الإدارة الأمريكية والبنتاجون حول إمكانية توجيه ضربة نووية أولى ضد أعداء الولايات المتحدة، سواء ضد روسيا، أو الصين أو أية بلدان نووية أخرى. وتستخدم التقديرات المبالغ فيها عن التهديد الصينى لتبرير التحسينات الإضافية للترسانة النووية الأمريكية.
الخطر الأكبر من نشوب حرب نووية لا يأتى من الصين، بل من الولايات المتحدة. فمنذ أنهيار الإتحاد السوفيتى، تسعى واشنطن لاستخدام تفوقها العسكرى لمعادلة التراجع الأقتصادى الأمريكى والركود الطويل المدى. خاصة لفرض سيطرتها على المناطق الغنية بالثروات الطبيعية فى الشرق الأوسط ووسط آسيا.
فى هذا الإطار، غزت إدارة بوش أفغانستان والعراق وتهدد إيران.
لا شك أن إنشغال الولايات المتحدة بالصين، يرجع للتوسع الإقتصادى الصينى وتزايد نفوذها السياسى فى آسيا، وأيضا على النطاق العالمى. ويكشف تركيز إهتمام البنتاجون على الصين، ما هو أكثر من الأستعداد الأمريكى لشن حرب، بل أيضا السعى لشن هجمة نووية ضد الصين، وضد النظام فى بكين رغم الضعف الصينى العسكرى بالنسبة للولايات المتحدة.....