استراتيجية إسرائيل فى مواجهة مبادأة حزب الله:
- بعد انتزاع المبادأة ظهرت حكومة أولمرت فى بداية الحرب وكأنها كانت تنتظرها لتصفية حساباتها مع حزب الله بشكل نهائى كما ربطت إسرائيل أهدافها واستراتيجيتها بالأجندة الأمريكية، حيث وجدت كل من واشنطن وتل أبيب فى هذه الحرب فرصة أيضا لنزع ورقة حزب الله من أيدى سوريا وإيران، وتحدد الهدف الاستراتيجى لإسرائيل منذ بداية الحرب فى تدمير حزب الله وإنهاء نفوذه السياسى فى لبنان، وجعل المنطقة جنوب نهر الليطانى بمثابة حزام امن لإسرائيل خالية من كل مظاهر التسلح باستثناء قوات الجيش اللبنانى وقوات دولية رادعة. وبما يضع نهاية للوضع الثابت الذى كان يتمتع به حزب الله فى الجنوب منذ عام. عندما كانت قواته تواجه القوات الإسرائيلية على الحدود مباشرة وبعيده إلى ما وراء الليطاني.
إلا أنه مع تتابع أحداث الحرب، وما تعرضت له القوات الإسرائيلية من خسائر ومشاكل، تقلص هذا الهدف إلى إزاحة حزب الله إلى ما وراء الليطاني، ثم تقلص بعد ذلك إلى إنشاء حزام أمنى بعمق 8 - 10 كم شمال الخط الأزرق، وفى الأيام الأخيرة من الحرب تقلص هذا الهدف أكثر وتحدد فى حزام أمنى بعمق 2 - 3 كم فقط. ثم بعد توقف الأعمال القتالية تمحور الهدف الاستراتيجى فى نزع سلاح حزب الله بمساعدة قوات اليونوفيل، وحتى هذا الهدف لم ينص عليه قرار مجلس الأمن 1701 صراحة لأن فى تنفيذه استحالة مادية حيث يدخل القوات الدولية فى مواجهة عسكرية مع حزب الله سبق أن فشلت فيها القوات الإسرائيلية نفسها، فكيف تقبل الدول التى أرسلت جنودها إلى لبنان ضمن قوة اليونوفيل أن تطلب منهم تنفيذ ما عجزت عنه إسرائيل، وبما يعرضهم لخسائر جسيمة لم تقبل إسرائيل أن تعرض لها قواتها؟واجهت إسرائيل فى بداية الحرب ثلاث تحديات رئيسية على النحو الآتي:
التحدى الأول: أن تضع نهاية وحدا للتهديدات الواقعة على المدن الإسرائيلية بفعل القصف الصاروخى لحزب الله، وبما يؤدى إلى تدمير قدراته الصاروخية جنوب وشمال الليطاني.
التحدى الثاني: العمل على تدمير البنية التحتية لحزب الله، ليس فقط فى جنوب لبنان ولكن أيضا فى البقاع والضاحية الجنوبية لبيروت لتدمير مؤسسات الحزب فى كل هذه المناطق.
التحدى الثالث: وجوب أن تفعل كل ذلك بطريقة لا تجرها إلى حرب طويلة أو إلى احتلال مناطق لا تستطيع أن تحتفظ بها فى مواجهة هجمات فدائية قوية.
ومن المعروف انه من الناحية التاريخية لا يرغب الإسرائيليون فى القتال ضد مواقع دفاعية ثابتة، حيث تعتمد عقيدتهم العسكرية على عمليات الالتفاف والتطويق حول هذه المواقع وتجنبها والوصول إلى أجنابها ومؤخراتهم ثم حصارها مع تدمر مناطقها وارتالها اللوجستية، وبما يؤدى بعد ذلك إلى سقوطها فى أيديهم كثمرة ناضجة عندما يستسلم العدو. إلا أن هذا الأسلوب لم يكن مجديا فى التعامل مع مواقع حزب الله فى الجنوب، بالنظر لقدرة حزب الله العالية على الصمود، وحتى مع افتراض نجاح إسرائيل فى احتلال المنطقة حتى جنوب الليطاني، فإن ذلك لن يحقق أى من أهداف إسرائيل الاستراتيجية، حيث سيدخلها فى نفس دوامة حرب الاستنزاف التى وقعت فيها لأكثر من عشر سنوات فى هذه المنطقة حتى اضطرت للانسحاب منها عام 2000. وأيضا حتى مع افتراض خسارة حزب الله للمنطقة جنوب الليطاني، فأن مقاتلين فى البقاع والضاحية الجنوبية من بيروت سيظلوا متماسكين فى مواقعهم، قادرين على شن هجمات مضادة ضد الإسرائيليين جنوب الليطاني، ومن ثم فإن معركة برية تركز فقط على جنوب الليطانى لن يكون خيارا مناسبا لإسرائيل، إلا إذا شعر الإسرائيليون بأن هزيمة حزب الله فى الجنوب ستوهن من عزيمته وإرادته على المقاومة، وهو أمر مشكوك فيه.
لذلك توصلت المخابرات الإسرائيلية إلى نتيجة وهى أن حزب الله اتخذ بالفعل قرارا استراتيجيا بألا يقاتل فى حرب متحركة، ولذلك يلزم على القوات الإسرائيلية أن تقاتله حيثما اختار حزب الله مكان المعركة وأسلوبها، وهو ما يعنى ضمنيا فقدان إسرائيل المبادرة التى انتزعتها منه مع بداية الحرب. وبذلك تحددت خيارات إسرائيل فى ثلاث خيارات هى:
الخيار الأول: أن تتعامل أولا مع منطقة جنوب الليطانى لتدمير وإزالة مواقع حزب الله منها، ثم بعد ذلك تتعامل مع المناطق الأخرى المتواجد فيها مؤسسات حزب الله ومواقعه.
الخيار الثاني: أن تتجنب مواقع حزب الله جنوب الليطانى وتعزلها، ثم تتحرك فى مواقعه الخلفية لمهاجمتها وتدميرها، ثم تعود بعض ذلك لمهاجمة مواقعه فى الجنوب بعد أن يكون القصف الجوى قد أجهدها.
الخيار الثالث: أن تهاجم مواقع حزب الله فى الجنوب فى ذات الوقت الذى تهاجم فيه مواقعه الخلفية فى وادى البقاع (تطبيقا لنظرية الحرب الجو برية) بواسطة عمليات التفاف وتطويق واسعة، وأيضا مع مهاجمة أهدافه على الشريط الساحلى وحتى مدينة صور، وطبقا لتطور القتال يمكن أن تصل فى هجومها إلى بيروت، وهو ما يتطلب أحجاما كبيرة من القوات تنتشر فى لبنان على مساحات شاسعة، وهو ما يشكل جهدا مضنيا على قدرات إسرائيل اللوجستية ناهيك عن ضرورة توفير دعم ومساندة جوية قريبة لكل محور من محاور الهجوم البري. ولكن تبقى المشكلة بالنسبة لإسرائيل، ليس فى الوصول إلى هذه المناطق - فهذا فى أمكان وقدرات وحداتها المدرعة - ولكن المشكلة فى قدرتها على البقاء والتمسك بهذه المناطق والدفاع عنها فى مواجهة هجمات مضادة مستمرة من جانب مقاتلى حزب الله - أضف إلى هذا مشكلة أخرى وأن الهجوم الإسرائيلى فى وادى البقاع يتطلب تأمين الجناح الأيمن (الشرقي) من جهة سوريا، وهو ما يتطلب تخصيص قوات إسرائيلية إضافية لهذه المهمة، إن لم يكن مهاجمة سوريا ذاتها وارد فى التخطيط الإسرائيلي. والتى ستكون بالقطع هدفا سهلا وثمينا لمقاتلى حزب الله، كما كانت الارتال اللوجستية الأمريكية فى حرب العراق عام 2003 أهدافا سهلة لمقاتلى (فدائيون صدام) مما أضطر القوات الأمريكية أن تخصص فصائل مدرعة لحماية هذه الارتال، هذا مع الوضع فى الاعتبار أن مثل هذه العمليات البرية العميقة فى لبنان - إلى جانب ما ستحدثه من ارباكات فى الإمدادات اللوجستية للقوات المهاجمة على الثلاث محاور (القطاع الشرقى والقطاع الأوسط والقطاع الساحلي)، فأنها ستطيل زمن الحرب، وبما ينعكس فى استمرار تعرض المدن والمستعمرات والأهداف الاستراتيجية الإسرائيلية لقصف صواريخ حزب الله، وما يترتب على ذلك من ثورة وغضب الشارع الإسرائيلى ضد الحكومة الإسرائيلية، وتفسخ الإجماع الوطنى فى إسرائيل حول الحكومة والجيش الإسرائيلى فى قراراتهم المتعلقة بالحرب، لاسيما لو اضطر حزب الله إلى استخدام صواريخه بعيدة المدى طراز (زلزال) ضد العمق الإسرائيلي.
ولقد اعتمدت الاستراتيجية الإسرائيلية فى الأساس مع بداية الحرب على ما تتمتع به إسرائيل من سيادة جوية على مسرح العمليات فى تدمير مواقع حزب الله وبنيته الأساسية بواسطة القصف الجوى المكثف، مع القيام بعمليات برية محدودة بواسطة مفارز مدرعة ومشاة ميكانيكية بهدف جس نبض مواقع حزب الله فيما يشبه عمليات (الاستطلاع بقوة) إلا أن هذه العمليات باءت بالفشل - حيث تكبدت كتيبة المفرزة المتقدمة من لواء جولانى التى دفعت فى مثلث عتيرون - مارون الرأس - بنت جبيل خسائر بشرية ومادية جسيمة مما اضطر القيادة الإسرائيلية إلى سحبها من ميدان المعركة بعد انهيار الروح المعنوية فى صفوف هذه الكتيبة. وعندما وسعت القوات الإسرائيلية هجومها فى الأسبوع الثالث من الحرب عبر أربعة محاور بدفع لواء ناحال بجانب لواء جولانى تكبدت هذه القوات أيضا خسائر بشرية ومادية جسيمة لم تستطع معها أن تكسب أرضا شمال خط الحدود بأكثر من 2 - 3 كم، وحتى فى هذا العمق المحدود جدا كانت القوات الإسرائيلية غالبا ما تتراجع عن مواقعها تجنبا لمزيد من الخسائر، كما أن جميع علميات الإبرار الجوى التى أجرتها القوات الخاصة الإسرائيلية فى شرق صور وفى تلة مسعود والنبطية وجنوب الليطانى وحتى عملية الإبرار الجوى التى أجريت بقوة لواء مظلى كامل وباستخدام خمسين مروحية فى جنوب مرجعيون ووادى الخيام فى الأيام الأخيرة من الحرب، والأبرار الجوى شرق صور كلها جميعا باءت بالفشل فى تحقيق أهدافها سواء فى تدمير مواقع صواريخ حزب الله أو قتل وخطف كوادر سياسية وعسكرية مهمة فى حزب الله.
يتبع .......