مع طلوع صبح اليوم الثالث من الحرب كانت المشاعر في كلا المعسكرين متضاربة. فمن جهة نجحت الضربة الافتتاحية اﻷمريكية بشكل ممتاز، و من جهة اخرى كان الرد العراقي مهما و ساهم في رفع معنويات بغداد و حلفاءها و بشكل خاص الشعوب العربية. فبكل بساطة قام العراق بفعل ما لم يتم تخيله و ضرب اسرائيل و هو اول عمل على هذا المستوى منذ حرب 1973.
كانت قيمة الضربة الصاروخية العراقية من الناحية العسكرية: صفر. فصاروخ سكود مدى الخطأ في اصابته حوالي كيلومتر واحد! و الرأس الحربي لا يزيد عن الف كيلو. و حتى لو تم تركيب رأس كيماوي فلن يحدث اي شيء امام جيش يتدرب على الحرب الكيماوية منذ 100 عام كالجيش اﻷمريكي و في صحراء مفتوحة. أو على دولة جبهتها الداخلية مؤهلة للتعامل مع هكذا تحدي كإسرائيل.
لكن التداعيات الاستراتيجية و السياسية كانت مقلقة جدا لو لم يتم احتوائها. فنظرية الردع الاسرائيلية تستند على القدرة على نقل المعركة ﻷرض العرب بسرعة. و أن أي ضربة عربية يجب الرد عليها فورا و بقوة لاستعادة الردع. و لكن هذا الرد سوف يحول الحرب من حرب لتحرير الكويت من غزو العراق لحرب بين اسرائيل و امركيا من جهة و العراق من جهة اخرى مما قد يخلق تصدعات في التحالف الذي امضى بوش 5 اشهر في بناءه. و بالتالي كان المطبخ السياسي اﻷمريكي متفقا: يجب منع اسرائيل بأي شكل من ضرب العراق بشكل مباشر.
تم تحقيق الاتصال تل ابيب بعد عدة دقائق و تبين ان التقارير عن هجوم كيماوي كانت خاطئة. و طلب اﻷمريكان من تل أبيب الهدوء و تم الاتصال بالقاهرة و دمشق و الرياض لتنسيق المواقف.
لكن اسرائيل ليست بمن تهدئها الكلمات، فخلال دقائق اظهرت شاشات البنتاغون صعود 60 طائرة مقاتلة اسرائيلية للسماء. و لم تعرف واشنطن ان هذه طلعة اغارة على العراق او انها مجرد طلعة دفاعية من غارات محتملة للطيران العراقي. و اتصلت واشنطن بتل أبيب مرة اخرى لتأكيد التهدئة. فكان ان رد وزير الدفاع الاسرائيلي (موشيه ارين) بأن طلب مسارات واضحة للطيران الاسرائيلي لضرب غرب العراق و التنسيق مع الجيش اﻷمريكي في ذلك.
شعر بعض اعضاء المطبخ السياسي اﻷمريكي انهم لن يستطيعوا ردع الاسرائيليين اكثر من ذلك. فقد كان شامير صادقا معهم عندنا تعهد بعدم ضرب العراق استباقيا في شهر ديسمبر قبل بدئ الحرب بشهرين. و من ناحية الخطط كان من الممكن ترك المنطقة غرب خط طول 42 مفتوحة للاسرائيليين ليضربوا العراق هناك بدون احتمال الاشتباك مع اﻷمريكان. اراد الأمريكيون المماطلة، فقالوا للاسرائيليين (مثل هذا العرض يحتاج موافقة الرئيس اﻷمريكي مباشرة) و ذلك بهدف كسب الوقت. و في نفس الوقت تم الاتصال بالقيادة العسكرية للتحالف في الرياض و تم حثهم على ايلاء موضوع الصواريخ العراقية اكبر اهتمام ممكن (كان رد فعل شوارزكوف ببساطة: و ايه يعني؟ ما الجيش بتاعنا بيتضرب كمان. قلهم يجمدوا شوية بقى!). و في نفس الوقت اشتعل جدال في المطبخ اﻷمريكي من مدى جدوى السماح لإسرائيل بالتدخل في الحرب. "مالذي ستقدر اسرائيل على فعله و لا تستطيع امريكا ان تفعله في العراق؟".
عندها ورد اتصال من شامير، و أكد له اﻷمريكان - كاذبين - انهم يفعلون كل ما في وسعهم لضرب الصواريخ العراقية. و طلبوا منه ان يتحلى بالصبر و ان لا يقع في فخ صدام. لم يعطي شامير اي وعود بل قال انه سوف يستشير الحكومة و يعود لهم. انتهى الاتصال و بعدها بدقيقة اراد الامريكان استثمار موقف شامير و اتصلوا بوزير الدفاع الاسرائيلي! و لاحظ هنا كيفية ادارة الصراع السياسي حتى بين الحلفاء. و يجب ان نذكر ان العلاقات بين امريكا و اسرائيل كانت سيئة جدا بسبب ضغط اﻷمريكان الشديد على الاسرائيليين للجلوس لمؤتمر السلام مع العرب (و هو ما حصل مرة اخرى بنجاح هذه المرة بعد الحرب). اما على المستوى اﻷمني و العسكري فكان التعاون جيدا و العلاقات ودية.
"نحن نشعر باﻷسف لما حصل. و لكن هذا طلب رسمي من جانبنا بعدم الرد" و لم يقبل حتى اقتراح الاسرائيليين بارسال قوات خاصة لغرب العراق لضرب الصواريخ. و بعد انهاء المكالمة، فكر الأمريكان انه ممكن ان يقترحوا على الاسرائيليين (لو فشلوا في اقناعهم بعدم ضرب العراق) بأن يضربوه بصاروخ اريحا بدل عمليات جوية او انزال قوات خاصة يجب ان تمر باﻷردن أو السعودية مماقد يسبب مشاكل كبيرة. على العموم بسبب الضربة غير الاسرائيليون سياستهم السابقة و وافقوا على طلب اطقم باتريوت امريكية و التي بدأ التحضير ﻷرسالها فورا. مع ابقاء طائراتهم في الجو و رفع حالة التأهب على الحدود مع لبنان و كذلك رفع حالة التأهب لأطقم السلاح النووي، للمرة الثالثة فقط في تاريخ الدولة العبربة.
انتهت هذه الجولة الدبلوماسية بنجاح - حتى اﻷن و كان من حسن حظ التحالف ان الخسائر الاسرائيلية كانت قليلة لحد الدهشة: ابنية تكسر و اجهاتها، و مئات حالات الهلع و الصدمة و حقن النفس باﻷتروفين المضاد للهجوم الكيماوي. امور تافهة بمقاييس اي حرب. و جلس اعضاء المطبخ السياسي ينتظرون تطور اﻷحداث. و تم تقسيم العمل بين رجلين: تشيني يتفاهم مع الاسرائيليين و كولن باول يتفاهم مع شوارتزكوف حول موضوع صواريخ سكود العراقية.
بقي سؤال واحد مهم: ما العمل لو قام العراق بالضرب باستخدام الكيماوي او - و هو اﻷخطر - السلاح الجرثومي؟ في الحلقة القادمة نناقش هذه التفاصيل و معطيات هذا الاحتمال امام صانع القرار اﻷمريكي.
Crusade, Rick Atkinson