السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن الاضطرابات النفسية تؤدي إلى فقد الكثير من الطاقات البشرية في وقت السلم.
أما في وقت الحرب، فإنها تؤدي - علاوة على ذلك - إلى زيادة الخسائر وفقد الأرواح، ومن هنا كانت الحاجة إلى الاهتمام بالنواحي النفسية، وكل ما يتعلق بالوقاية من آثار الحرب، وتقديم الرعاية النفسية وعلاج وتأهيل الحالات بعد الحرب، وهذا مجال تخصص طبي مستقل، هو الطب النفسي العسكري.
القلق في انتظار الحرب:
تبدأ مقدمات الحالات النفسية المرتبطة بالحرب في الظهور قبل نشوب القتال، نتيجة للتوتر والقلق اللذين يصاحبان مدة الانتظار والترقَّب.
ومن الأعراض النفسية التي تنشأ عن ذلك: "الضجر والعصبية الزائدة، ومشاعر الخوف، والرهبة، وخفقان القلب، واضطراب النوم، والصداع، والهزال..."، كل هذه الاضطرابات نتيجة للحالة النفسية الانفعالية مدة الانتظار التي تسبق المعارك.
يلاحظ أن طول هذه المدة بسبب تهديد هجوم متوقع للعدو أو احتمال التعرض لغارات جوية، له تأثير سيئ من الناحية النفسية، ويلاحظ ذلك من خلال ما يبدو على الأفراد من مظاهر الإحباط، وفقدان روح المرح ليحل محلها التجهم والكآبة، وتزداد هذه المظاهر مع احتمالات استخدام الغازات السامة أو أسلحة الدمار الشامل، وفي هذه الأوقات تزيد نسبة الإصابة بالاضطرابات النفسية المختلفة، مثل: "القلق، الاكتئاب، الوساوس المرضية، وحالات الذهان العقلية الشديدة التي تتطلب العلاج النفسي العاجل".
واحد من كل أربعة حالات يتم إخلاؤها أثناء المعارك نتيجة اضطراب نفسي:
دور الطب النفسي أثناء الحروب ليس شيئًا كماليًّا أو ترفًا كما يتصور البعض، فإذا علمنا أن 25% من إصابات الحروب هي حالات اضطراب نفسي، بمعنى أن حالة واحدة من كل أربع إصابات يتم إخلاؤها أثناء المعارك هي اضطراب نفسي يحتاج إلى التدخل العاجل، وتزيد نسبة الإصابة في الخطوط الأمامية، خصوصًا بين العسكريين الذين يعيشون الأجواء الحقيقية للقتال.
وتزيد أيضًا بصورة ملحوظة في الأفراد الذين تتعرض أماكنهم لإصابات مباشرة ينشأ عنها أعداد القتلى والجرحى، وقد ثبت أن الأشخاص الذين يتعاملون مع الجثث وأشلاء القتلى والجرحى يتأثرون نفسيًا بصورة تفوق غيرهم من الذين لا يرون مثل هذه المشاهد، ويدعو ذلك إلى الاهتمام بالنواحي النفسية لحماية التوازن النفسي للعسكريين في جبهات القتال والمدنيين خلف الجبهة أيضًا. ولعل السبب في ذلك هو ما تتضمنه العمليات القتالية وظروف الحرب، من ضغوط انفعالية هائلة تفوق طاقة الاحتمال المعتادة لكثير من الناس. ومن دواعي الاهتمام بالأمور النفسية، أنها قد تؤدي إلى إعاقة يترتب عليها الإخلاء من ميدان القتال وخسارة للطاقات البشرية.
الاضطرابات النفسية أثناء الحرب:
من أمثلة الحالات النفسية المرتبطة بالحرب حالات الاضطراب النفسي المصحوب بالخوف والرعب التي تصيب الجنود والمدنيين، خصوصًا عند حدوث خسائر بشرية، ومن الحالات الغريبة التي تصيب بعض الجنود توقف الحركة في أحد الذراعين، وهو ما يعرف بالشلل الهستيري، وغالبًا ما يحدث في الذراع الأيمن، بحيث لا يقوى الجندي على حمل السلاح ومواصلة القتال. ويصاب البعض بحالات من الذهول، فيتصرف دون وعي بما حوله. وتذكر التقارير أن الجنود الأمريكيين كانت تتجمد أطرافهم في الحرب الكورية ليس بسبب البرد الشديد، ولكن لأسباب نفسية، كما أصيب الكثيرون منهم بأزمات تنفسي خانقة أثناء حرب فيتنام نتيجة للتوتر النفسي. ومن الحالات النفسية المعروفة التعرض لظروف الحرب حالة اضطراب ضغوط الصدمة وتسبب اختلال التوازن النفسي والإدراك والتفكير وفقدان الشخص للسيطرة على انفعاله، فيظل في حالة ذهول ورعب، يستعيد مشاهد القتال الرهيبة، ولا يقوى على التركيز أو الاستجابة للمحيطين به، ولا يستطيع النوم من هول الكوابيس المزعجة بالرغم من ابتعاده عن أماكن القتال.
هؤلاء أكثر قابلية لإصابات الحرب النفسية:
هناك بعض الفئات من العسكريين والمدنيين أكثر عرضة للإصابة بالاضطرابات النفسية الشديدة وقت الحرب دون سواهم، من هؤلاء جنود المؤخرة الذين لا يشاركون فعليًّا في القتال، لكنهم يعيشون حالة التأهب تحت تهديد هجوم متوقع للعدو، وكذلك أسرى الحرب الذين يمكثون طويلاً تحت الحصار تحيط بهم قوات معادية.
كما تزيد حالات الاضطراب النفسي في العسكريين الذين ينتقلون من وحداتهم الأصلية إلى أماكن جديدة لم يألفوها، كذلك عند صدور الأوامر بالانسحاب السريع.
وهناك عوامل أخرى لها علاقة بفقدان التوازن النفسي، مثل: "مستوى التعليم المنخفض، عدم استكمال التدريب والإعداد الجيد، ووجود تاريخ (سابق) لاضطرابات انفعالية"، حيث يؤثر ذلك سلبًا عند التعرض لمواقف الحرب العصبية.
الوقاية قبل العلاج:
يعد الدور الوقائي للطب النفسي العسكري ذا أهمية بالغة في ظروف الإعداد للحرب، بالنسبة للعسكريين الذين يوجدون بعيدًا عن ذويهم أو المدنيين الذين يتأثرون أيضًا بحالة الحرب التي تعيشها بلادهم، ودور الطب النفسي هنا هو تقديم الدعم النفسي والإعداد للتأقلم مع أجواء الحرب، وكذلك التخطيط للتدخل العلاجي والاهتمام بالجانب المعنوي والروح القتالية في مواجهة أي حرب نفسية موجهة من العدو. ومن هنا تأتي أهمية وجود خدمات نفسية متكاملة في المستشفيات العسكرية والمدنية قبل أن يتم إخلاء الحالات إليها، وأثناء العمليات يجب تقديم الخدمات النفسية بصورة فورية ومنتظمة. والجدير بالذكر، أن بعض حالات الإخلاء نتيجة الاضطراب النفسي يكون سببها الإرهاق الشديد أو اضطراب النوم لعدة أيام، ولا تحتاج مثل هذه الحالات سوى تقديم كمية كافية من السوائل والغذاء والراحة لمدة (12) ساعة، يعود بعدها المقاتل إلى سابق لياقته البدنية والذهنية، ويمكنه مواصلة تأدية مهامه.
العلاج وتضميد جراح الحرب:
يهدف العلاج إلى تخفيف المعاناة النفسية بعد مواقف الحرب العصيبة التي تفوق طاقة الاحتمال المعتادة، كما يهدف إلى منع الإعاقة المؤقتة والدائمة، وإعادة تأهيل المصابين وإعدادهم نفسيًا لمواصلة أداء مسؤولياتهم. ومن وسائل العلاج النفسي المتبعة للتغلب على التوتر النفسي والمخاوف، طريقة العلاج السلوكي والاسترخاء، وتقديم جلسات سريعة للمصابين مع الاهتمام بالحالة الصحية، وقد تستخدم جرعات من الأدوية المهدئة للسيطرة على الأعراض النفسية الحادة. ويستمر دور الطب النفسي عقب الأزمة في علاج الحالات التي تظهر بعد مدة، نتيجة التعرض للصدمات خلال الحرب، وفي تأهيل المصابين للعودة للانخراط في الحياة. كذلك مواجهة الآثار النفسية للحرب على المجتمع، ومنع الإعاقة النفسية وتضميد الجراح الناجمة عن ظروف الحرب العصبية، وبالرغم من أن هذا الدور يقوم به الأطباء النفسيون، فإننا نذكر هنا، بأن الكثير منهم يتعرضون أيضًا للإصابة بالضغوط النفسية، نتيجة لوجودهم في ميادين القتال أو بالقرب منها في ظروف الحرب.
د. لطفي الشربيني