حقيقة لا أدري بم أبدأ الرد على هذه السلسلة من المقالات سوى بالتعبير عن شديد خيبة الأمل ..
فما زالت جماهير أمتنا العربية الإسلامية ترزح تحت وطأة الاستعمار .. نعم الاستعمار الثقافي الفكري وليس بالضرورة العسكري
إن ثقافتنا التي نسقيها أولادنا عن تاريخنا لهي ثقافة يغلب عليها الزيف والخلط .. نستمد أصولها من أعدائنا الذين نجحوا بالفعل في تدجين
العديد منا .. وإقناع أكثرنا بضرورة الرضا بحالة الجهل المستفيض، والتنطع والتعالم بناء على ذلك الفتات الثقافي المزيف الذي يلقونه لنا!
وأما من يكشف الله -عزوجل- عنه غمامة الجهل ويمنُّ عليه بنور الحقيقة فإنه ولا شك يعيش المعاناة في أبشع صورها، ولا ينفك يلقي بنفسه
في معركة تلو معركة لا يجد في ذلك وقتا لجراحاته أن يعالجها حتى تندمل .. آملا أن تستيقظ أمته من سُباتها العميق وغفلتها التي تنبي بالغيبوبة الكاملة!
ومن باب إحقاق الحق وإبطال الباطل أجدني مضطرا لسَوق ردود تبين كثيرا من الخلل الذي انتاب تلك القصة الواردة في المقالات، بادئا فيها ببيان
أصل الصراع، ومثَنّيًا فيه بالرد على بعض من استُدِلّ بهم في المقالات كعبد الرحمن الرافعي في كتابه: تاريخ الحركة القومية ، ومنتيها بقصة التفريغ الثقافي
التي وقع أكثرنا فيها من حيث لا يدري..
..........................................
الرد الأول: ( بداية القصة التي ملؤها المضحكات المبكيات!)
إن أمتنا العربية الإسلامية أمة مستهدفة منذ بزغ نجمها في عهد النبوة وما بعده .. أمة استطاعت تغيير مفاهيم العالم في عقود قليلة من الزمان
أمة استطاعت انتشال العالم من الجهل والعماية إلى سبيل العلم والرشاد .. أمة بهرت الدنيا بأخلاقها وعلومها وسماحة دينها
ولا سبيل لي الآن وفي معرض سطور قلائل أن أحكي لك القصة منذ بدايتها إلى منتهاها .. ولكني أقنع بالبيان كما قلت وبالرد على بعض المغالطات التي أتت
في المقالات التي سقتَها مع إحالتك على علم أعلام أمتنا العربية - الإسلامية في اللغة والأدب والتاريخ .. وهو الأستاذ العلامة/ محمود محمد شاكر
-رحمه الله تعالى- والذي أفنى حياته في سبيل رفع غطاء الجهل والعماية عن أمته وتبصيرها بما يحاك لها بليل .. وهو الذي كان يدري أن
أخطر ميادين المواجهة بين أمتنا وبين ما اصطلح هو على تسميته (المسيحية الشمالية) هو ميدان الثقافة والفكر والأدب .. ذلك الميدان الذي
صرنا فيه ضُحَكة الأمم ومثالا يدرس في طريقة خضوع وخنوع المهزوم للمنتصر خضوعا وخنوعا ثقافيا وفكريا قبل خضوعنا عسكريا!
..................................
ولكيلا يكون الحديث بمعزل عن أصله أبدأ معك من حيث يستطيع الجميع فهم أصول الصراع..
في قصة وصفها لنا الأستاذ العلامة محمود محمد شاكر -رحمه الله- في كتابه الفذ: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا بأنها (قصة ملؤها المضحكات المبكيات)
سألَنا فيها أن نقنع منه بالاختصار المفهم، والإيماء الخاطف، واللمحة الدالة .. وخيرنا فيها بين خطتين لا ثالث لهما:
= بين أن نتقصى المكنون الغائب من تفاصيلها المشتتة في تاريخنا وكتبنا، بعقل وهمة وجِد ويقظة وبصر وإدراك، وبأنفة من قبول الذل والعار والمهانة
وبين أن نَملَّ القصة فنطرحها عن كواهلنا قابلين لمزيد من الذل والعار والمهانة، مستحْلِين في ذلك خداع النفس بأوهام سولتها لنا حياتنا هذه الأدبية الفاسدة
والتي ألقت بكل فسادها في حياتنا اللغوية والثقافية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية، بل في صميم حياتنا الدينية أيضا، حتى أوشك أن يضيع كل
شىء كان غير قابل للضياع!
فقص علينا لمحات خاطفة -رحمه الله- من ذلك الصراع الدامي الذي نشب بين الأمة العربية - الإسلامية من جهة وبين أوربة الصليبية منذ عهد
عهد النبوة الخاتمة وحتى يومنا هذا ..
صراع اندحرت فيه فلول الصليبية الشمالية من مستعمراتها في قارتي آسيا وإفريقيا لتحاصر هنالك في الشمال .. في أوربة .. لتعاني ما تعاني
من زوال ملكها وضياع هيبتها التي زالت على أيدي المسلمين!
ومن هذه النقطة نشأ بدواخل قادة ورهبان أوربة الصليبية حقد دفين وبغض بغيض لدار الإسلام بما ومن فيها .. فهم يرون أن كل ما هم بصدده
من الجهل والتخلف وما كان بعدُ من الارتكاس في حمأة القرون الوسطى .. كان بسبب الإسلام والمسلمين..
ونتيجة لذلك الحقد وذياك الاعتقاد كان أن شمرت الحروب الصليبية عن ساقها سنة 1096 م = 489 هـ كان الصراع قبلها مشتعلا مدة خمسة قرون
بين الصليبية المحصورة في الشمال وبين الإسلام الذي يتاخمها جنوبا، فلم تستطع جيوش أوربا الصليبية أن تفعل شيئا ذا بال .. فتدبر قادة
أوربا من رجال الكنيسة وملوك الإقطاع الأمر وخافوا من زوال سلطانهم عن جنوب أوربا .. فاتجهوا إلى شمالها، يدخلون في النصرانية الهمج الهامج
الذي لا دين له يجمعه، ليكون بعد قليل مددا لجيوش جرارة تطبق على ثغور الإسلام وعواصمه في الشام ومصر.
وكان جزءا من هذا الإعداد: تبشيعُ الإسلام في عيون أولئك الهمج من شعوب شمال أوربة وأن أهل الإسلام وثنيون وأن نبيهم كان وكان ..
وجاءت سنة 1096م = 489 هـ وجُيّشت الجيوش من هذا الهمج الهامج من النورمانديين والصقالبة والسكسون بقيادة الرهبان وملوك الإقطاع
وبدأت الحرب بمعارك مروعة سُفحت فيها دماء كثير من المسلمين واستمرت قائمة قرنين من الزمان إلا أنها في النهاية انتهت بالإخفاق واليأس
سنة 1291م = 690 هـ ...
لم يقف الأمر عند حد إخفاق جيوش أوربا الصليبية الجرارة من اقتحام دار الإسلام في الجنوب وعودتها منكسة الرؤس تجر أذيال الخيبة إلى
قواعدها في الشمال، فقد تركت الحروب الصليبية في أنفس المقاتلين من الهمج بصيصا من اليقظة والتنبه باحتكاكهم المستمر بحضارة راقية
كانت تفتنهم، وتبعث في نفوسهم الشك فيما كانوا قد سمعوه من رهبانهم وملوكهم، وتثير في نفوس العائدين إلى مواطنهم ضروبا مختلفة
من القلق، هي على قِلّتها يُخشى أن تنتشر في جماهير هذه الأمم الجاهلة، فتضعف حميّتهم ونخوتهم. وكانت حسرة وغُصّة في قلوب الرهبان
والملوك والمثقفين، وحاولوا أن يستبْقوا هذه الصورة المشوهة عن الإسلام والمسلمين قائمة راسخة في أنفس الجماهير المتحمسة للدفاع
عن نصرانيتها الجديدة..
بعد أن بطل عمل السلاح بالإخفاق واليأس، وخمدت الحروب تقريبا بين الإسلام والصليبية نحو قرن ونصف القرن، وقعت الواقعة!
اكتُسحت الأرض الصليبية في آسيا في شمال الشام، ودخلت برُمتها في حوزة الإسلام؛
وفي الـ 29 من مايو 1453 م = الـ 20 من جمادى الأولى 857 هـ سقطت القسطنطينية عاصمة المسيحية، ودخلها السلطان محمد الفاتح
بالتكبير والتهليل، وارتفاع الأذان في طرف أوربة الشرقي!
إذن، فقد وقعت الواقعة!! واهتز العالم الأوربي كله هِزّة عنيفة ممزوجة بالخزي والخوف والغضب والحقد، ولكن قارن ذلك إصرار مستميت على دفع
هذا الخزي، وإماطة هذا الخوف والرعب، وإشعال نيران الغضب والحقد، بحميّة تأنف من الاستكانة لذل القهر الذي أحدثه محمد الفاتح
ورجاله من المسلمين الظافرين.
ومن يومئذ بدأت أوربا تتغير، لتخرج من هذا المأزق الضنك. وبهمة لا تفتر ولا تعرف الكلل،
فبدأ الرهبان وتلاميذهم معركة أخرى أقسى من معارك الحرب، معركة المعرفة والعلم الذي هيّأ للمسلمين ما هيّأ من أسباب الظفَر والغلبة..
لقد علموا الآن أن معركة السلاح لن تغني عنهم شيئا، وهذه أمواج المسلمين تتدفق في قلب أوربا غربًا، ويدخل الإسلامَ سِلمًا بلا إكراه جماهيرُ غفيرة،
كانوا بالأمس نصارى متحمسين في قتال المسلمين، الوثنيين ، كما أوهمهم الرهبان، فلم يُغن هذا الإيهام عنهم شيئا..
===================
يتبع إن شاء الله