اذا كنت مدقق فى الشأن المصرى على صعيد السياسة الخارجية خلال الفترة الماضية سترى تطور حاد انتهجته الدولة المصرية بل نستطيع ان نقول ان مصر اعادت ترتيب اوراقها وفقا لما تراه يخدم امنها القومى ومصالحها الاقليمية.
فاذا سلمنا بحقيقة ان صانع القرار فى الدولة المصرية على مدار تاريخها العتيق هو وبلا شك الحاكم او القائد أو الرئيس على الرغم من وجود المؤسسات لكن دائما ما تحمل سياستها الخارجية او الداخلية طابع الرئيس وتتصبغ بصبغته.
فمصر عبدالناصر كانت ذو طابع قومى واتسمت بالتحدى الذى نبع من شخصية قائدها فقد رأى فيها القائدة لأمتها ويجب ان تتحمل المسؤلية وتدافع عن مقدراتها حتى ولو اقتضى الامر مجابهة القوى العظمى السائدة فى ذلك الوقت فنراه متحديا لبريطانيا فى قرار التاميم ومتحديا لفرنسا بامداد الثورة الجزائرية بالسلاح ولا يعبأ بالهيمنة الأمريكية فى المنطقة فأسس الاتحاد مع سوريا وانحاز للسوفيت وساهم فى تأسيس منظمةعدم الانحياز وارسل قواته الى اليمن والى الكونغو. عاشت مصر عبد الناصر ايام ثقيلة وتلقت عدوانين سافرين العدوان الثلاثى ونكسة 67 كانوا كفيلين بهدم الدولة الناصرية وزعزعت اركانها ولكن على العكس من ذلك ظل عبد الناصر قائدا ملهما لجميع حركات التحرر الناشئة فى الوطن العربى والعالم وعاشت مصر فى عصره أزهى عصورها السياسية.
على النقيض من ذلك نجد مصر السادات تنحاز للمعسكر الغربى وتميل الى الواقعية فى رؤية مصالحها ورسم سياستها , فتحررت مصر من مسؤلياتها القومية وانعزلت عن محيطها العربى والافريقى شيئا فشيئا . فتركة عبد الناصر الثقيله وأرثه النضالى لم يكن ليتحمله السادات وللحق ليس تقليلا من شأن السادات ولكن عبدالناصر ولد ليكون قائدا وعاش ومات زعيما وليس بالأمكان ملئ الفراغ الذى خلفه . تميز السادات بالدهاء والمكر السياسى فتحالف مع السوفيت لكى يضمن تدفق السلاح وانقلب عليهم بعد النصر , تحالف مع الامريكان لقناعته بأن القوة المهيمنه هى الامريكية وقد اثبتت الايام صدق رؤيته عندما تفكك الاتحاد السوفيتى . تميز بالجرأة السياسية الشديدة فى قرارته فطرد السوفيت من الجيش وذهب الى قلب اسرائيل وحيدا ليستعيد ارضه . عاشت مصر السادات منعزله عن عالمها العربى ولكنها استمرت قوية ولم تسمح بالتطاول عليها فنجدها تتحرك سريعا ضد العدوان الليبى على حدودها الغربية وتشن ضربات جوية ناجحة داخل الحدود الليبية واحيانا اخرى يقف السادات مهددا أثيوبيا أذا ما قامت بانشاء سدود فى مجرى النيل وفى واقعة اخرى لم يتردد الرجل فى ارسال قوات خاصة خارج البلاد فما يعرف بعملية قبرص . امتلك السادات ذمام القرار اثناء حكمه وذهب الى الحرب عندما فرضت عليه ولكنه اختار السلام باراداته ومات شهيدا لاختياره .
تسلم مبارك زمام الأمور بعد اغتيال السادات وامتدت فترة حكمه الى مايقارب ثلاثة عقود هى الاطول فى تاريخها الحديث بلا حروب بفضل رئيسها السابق السادات. تميزت فترة حكم مبارك بالحفاظ على مقدرات الدولة وحدودها وفقا للدستور واستكمال ما بدأه السادات من اتفاقيات ومعهادات السلام والحفاظ على الحليف الامريكى , نجح فى استيعادة علاقات مصر الخارجية بالدول العربية ولكن لم تستعيد مصر مكانتها كما كانت قبل الانعزال, همشت العلاقات الافريقية فى عهده وبقيت عند مستواها الادنى . عرف مبارك بعدم الجرأة فى سياسته ولم يتميز عهده بطابع خاص كما الحال فى عصر السادات أو عبد الناصر وعدم الذهاب الى مغامرات سياسية أو عسكرية اللهم اذا ما فرضت عليه وكان هناك اجماع دولى عليها كما فى حرب الخليج . ظل مبارك خلال عهده امينا على الدولة وموظفا بدرجة رئيس فهو ناجح فى ادارة شئون البلاد والحفاظ عليها من المخاطر وتجنب اى قرارات او سياسات قد تدخله فى مواجهات يمكن تجنبها . حافظ على جيش قوى واستكمل بناؤه معتمدا على المعونات الامريكية التى كانت ايضا ثمارا لسياسة السادات . فالرجل لم يمتلك رؤية سياسية تتلائم مع حجم الدولة المصرية ومكانتها وتأثيرها فى محيطها الاقليمى كما كانت دائما.
وللحديث بقية ...