إذا تكلم الرجل في غير فنه أتى بالعجائب
لما كنت أسأل صاحب الأفكار! عن معتقده في النبي -صلى الله عليه وسلم- وأقواله وأفعاله وعن معتقده في القرآن لم يكن ذلك جزافا ..
وصمت الجهبذ كما اعتدنا من أمثاله الصمت فلم يُحر جوابا .. وفعل كما فعل سابقوه .. فاستدبر وأدار لنا قفاه وهو يدمدم بكلام هو الهروب في
زي الإقدام، وراح يتهمني بالتصنيف! يتهمني بأنني أصنفه .. وعجبا قال!
وهل قلت إلا ما قال الله ورسوله .. وهل قررت إلا ما قرره الصحابة والتابعون؟ كان يكفيه من أسئلتي الجواب عليها ببساطة قائلا:
محمد هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخاتم النبيين .. نشهد له بالعصمة كما نشهد له بالنبوة .. ونعلم أن كل ما ورد عنه حتى من باب الاجتهاد إنما هو في النهاية جزء من الوحي .. فما وافق الوحي كان وما خالفه نزل فيه الوحي معقبا ومصححا
كان يكفيه أن يقول أن القرآن هو كلام الله المنزل بواسطة جبريل عليه السلام لإخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد؛
ولكنه لم يجب .. تعلمون لم لم يجب؟
لأنه أدرك أن الهروب هو فرس نجاته .. إذ لو أجاب لكان كمن يقتل نفسه بسلاحه !
إذ كيف يستدرك على النبي -صلى الله ليه وسلم- قولا أو فعلا مع شهادته له بالنبوة ولأقواله وأفعاله بالعصمة؟!
هذا الذي يقول ما يقول -وأنتم لا تفهمون ما يقول- من أن النبي عفا عن فلان الذي سبه بعد أن مدحه في قصيدة -أكل بعقله حلاوة يعني- ولم يعف عن فلانة الجارية التي سبته! فلمز هذا المغموز في عقيدته بقوله هذا نبيَّنا -صلى الله عليه وسلم- في عقله وحكمه .. ومعلوم حكم من يأتي ذلك بعلم أو بجهل .. وسآتي عليه بشواهد بعدُ إن شاء الله تعالى، والرد على شقشقات جِهبذنا وشبهاته أسوقها تباعا إن شاء الله ..
فهذا الرد في حكم شاتم الرسول -صلى الله عليه وسلم-:
من شتم النبي -صلى الله عليه وسلم- في حياته أو بعد مماته فهو كافر .. وإن كان مسلما حكم بردته عن الإسلام سواء كان السب جدا أم هزلا ..
وعلى هذا الحكم إجماع علماء الأمة من لدن الصحابة إلى يوم الناس هذا ..
والدليل على ذلك من القرآن قوله تعالى :" ومنهم الذين يؤذون النبى ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين ءامنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزى العظيم"
فعُلِمَ من هذه الآيات أن إيذاء الرسول محادّة لله ورسوله، لأن ذكر الإيذاء هو الذي اقتضى ذكر المحادّة .. ودل ذلك على أن الإيذاء والمحادة كفر؛
لأنه تعالى أخبر أن من يفعل ذلك له نار جهنم خالدا فيها، ولم يقل هي جزاؤه، وبين الكلامين بون شاسع بعيد!
والدليل على أن الجد والهزل في سب الرسول سواء، قوله تعالى:" ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وءاياته ورسوله كنتم تستهزؤن لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم .." وهذا نص في أن الاستهزاء بالله وءاياته وبرسوله -جدا أو هزلا- حكمه الكفر.
ما يترتب على سب النبي حال حياته -صلى الله عليه وسلم-:
عن أبي برْزة الأسلمي -رضي الله عنه- قال: أغلظ رجل لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه- "يعني سبه وشتمه" فقلت لأبي بكر: أقتله؟
فانتهرني وقال: " ليس هذا لأحد بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" يعني أنه لا يُقتل أحدٌ سب أحدًا إلا إذا كان هذا الشاتم يسب رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- .. وأما من دون ذلك فلا يقتل وإنما يُعَزَّر!
ويستفاد من هذا الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان له أن يقتل من سبه ومن أغلظ له، وأن له أن يأمر بقتل من لا يعلم الناس منه سببا يبيح دمه، وعلى الناس أن يطيعوه في ذلك، لأنه لا يأمر إلا بما أمر الله به، لا يأمر بمعصية قط، بل من قد أطاعه فقد أطاع الله ..
وقد يعجب من يعجب من مسألة وجوب طاعة النبي في قتل من لا يعلم الناس منه سببا يبيح دمه .. ونقول لهؤلاء إنه التسليم للوحي، والشهادة القاطعة على الإيمان بالله ورسوله .. وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض أصحابه بقتل رجل كان ساجدا يصلي في المسجد النبوي على مبعدة منهم .. فتلكِؤا خشية الوقوع في إثم قتل رجل مسلم مصلٍّ ساجد لله في بيت من بيوته .. فما راعهم إلا خروجه من المسجد وقول رسول الله فيه: أما إنكم لو قتلتموه لكان أول فتنة وآخرها .. فكان هذا المأمور بقتله هو رأس الخوارج بعدُ وسبب ما فيه الإسلام من يومها وحتى الساعة من بلاء وفتن!
قال تعالى:" وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى "
فالحكم إذن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه .. إن شاء قتله -وهو الأصل- وإن شاء رحمه وعفا عنه برحمته وهو أرحم الخلق .. وليرجع من يريد أن يرجع إلى ذلك تفصيلا في كتاب الصارم المسلول على شاتم الرسول جـ 2 / صـ 234
وأما من يلمز النبي في عفوه عن فلان الذي سبه وعدم عفوه عن فلانة التي سبته فالرد عليه من وجوه:
أولا: أن قائل هذا أتي من قبل عُجمته وفهاهته .. وعيه وعجزه عن فهم العربية .. لقد ساق لنا الجهبذ قصة ما كان من هجاء كعب بن زهير للنبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يفهم فرق بين أن يهجو شاعر النبي مرة واحدة بسبب كراهته لإسلام أخيه وبين من امتهن سب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجعله لهوه ولعبه ومسامرته وحكيه ..
أخرج البيهقي في دلائل النبوة عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: القينتان كانت تغنيان بهجائه، وسارة مولاة أبي لهب كانت تؤذيه بلسانها، وكانت سارة مغنية نوّاحة بمكة، يلقى عليها هِجاء النبي فتغني به" فاللغة مبينة هاهنا أن الأمر كان منهن جميعا طواعية ولم يكن عن إكراه" .. ومن لم يفهم معنى العبارتين فليذهب ليتعلم العربية من جديد -إن كان قد تعلمها اصلا- ..
ثانيا: أين الإجبار الذي تعرضت له الجاريتان من أجل سب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟
ثالثا: لماذا أجبرتا دون غيرهما من جواري المشركين على أمر مسبة الرسول .. على كثرة الجواري المغنيات في قريش وشدة بغض جميع المشركين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- .. ثم أين جِهبذنا من مسألة أنه كان هناك مسلمون ما زالوا في مكة لم يستطيعوا الفرار بدينهم إلى المدينة
وقد حضروا هذه الوقائع ..
قال تعالى حاكيا عن هؤلاء المؤمنين الذين كانوا يقيمون في مكة حتى عام الفتح " ... ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطـؤهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما "
رابعا: لو أن الجاريتين كانتا مقهورتين مضطرتين إلى فعلهما لنُقل ذلك إلى رسول الله .. وما ظنك به وهو كما قال عنه ربه " رؤوف رحيم "؟!
لقد كانتا كما قلت لكم .. قد امتهنتا سب رسول الله مهنة لهما مع سارة مولاة أبي لهب .. وهذا فيه ما فيه من الإزراء بمرتبة النبوة ومكانة النبي -صلى الله عليه وسلم- فوق مرتبة الكفر ببون بعيد .. وفيه أيضا ما فيه من الصد عن الإسلام ونبيه وكتابه وسنته
لماذا انتقم النبي -صلى الله عليه وسلم- من بعض من سبه ولم يقتل الآخرين؟
معلوم أن المشتوم هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو خير الخلق أجمعين .. ومعلوم مما سبق .. ما شرعه له الله من قتل من سبه أو آذاه ..
فهو -صلى الله عليه وسلم- بالخيار في قتل من سبه إن شاء قتله كما فعل مع البعض وإن شاء عفا عنه كما فعل مع آخرين .. ومرد ذلك كله إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد عفا عمن عفا عنهم بحلمه وفضله .. وقتل من قتل منهم بحكمته وعدله .. ففعله -صلى الله عليه وسلم- دائر بين الفضل والعدل
فهل يستدرك على النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا إلا صاحب دخيلة متهم؟!
لقد ذكرني جهبذنا بما كان من رأي أولئك القدرية الذين استدركوا على الله عزوجل عقاب المجرم منهم بحجة القدر!
وقصة ذلك أن الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني دخل يوما على الصاحب بن عباد وعند القاضي عبد الجبار المعتزلي الذي كان يقول بمسألة القدر وينفي الإرادة الإلهية في مسألة أفعال العباد .. فقال عبد الجبار قائلا -ومصححا بذلك مذهب القدر- ومعرّضًا بأبي إسحاق: سبحان من تنزه عن الفحشاء! - يريد بذلك أن العبد هو الذي يخلق أفعاله وأن الله ليس له في السماح بذلك أدنى تدخل- ، ففهم الإسفراييني ما أراد عبد الجبار من مقالته فرد عليه قائلا:
سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء! .. ففطن عبد الجبار أن الإسفراييني فهم تعريضه .. فدخل في الجدال دخولا صريحا فقال: أيشاء ربنا أن يعصى؟ فقال له الإسفراييني: أيعصى ربنا قهرا؟! فتغيّظ عبد الجبار ثم قال للإسفراييني: أفرأيت إن منعنيَ اللهُ الهدى ثم حكم عليّ بالرَّدَى -يعني الموت- يكون بذلك قد أحسن أم أساء؟ فرد عليه الإسفراييني ردا ألجمه به وبهته، فقال له:
إن كان الله قد منعك ما هو لك فقد أساء، وإن كان منعك ما هو له فإنما يختص برحمته من يشاء! فبهت لذلك القاضي عبد الجبار ..
وجريا على سنن ما مر من قصتنا .. فقد سألَنا جِهبذنا نفس سؤال القاضي عبد الجبار للإسفراييني .. وعليه فنقول له:
إن كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منعهم رحمة هي حقهم فقد أساء -وحاشاه- .. وإن كان منعهم رحمة هي حقه فإنما
يختص برحمته من يشاء!
وفرق واسع وبون بعيد بين رحمة الله ورحمة نبيه -صلى الله عليه وسلم- .. فكل صفة على قدر موصوفها.