في أواخر السبعينات من القرن الماضي، شرعت الصين في برنامج شامل للتحديث الاقتصادي، وخرجت من العزلة التي فرضتها على نفسها منذ أيام الزعيم ماو تسي تونغ، وفتحت الباب أمام الاستثمارات الأجنبية على أرضيها. وأتت هذه التغييرات بنتائج مذهلة، فتسارعت وتيرة النمو في مختلف المجالات، وسجلت نسب نمو قاربت 10 في المائة سنويا على مدى السنوات. ومنذ بعض الوقت، بات الاقتصاد الصيني في المرتبة الثانية عالميا، متخطيا اليابان. ألا أن هذا الانجاز يجب الا يخفي واقع أن الصين تضم أكثر من 1،3 مليار نسمة، أي أن المدخول الفردي لا يزال بعيدا عن مستوى الدول المتقدمة.
تزاوج التعاون والخلاف مع روسيا
الى جانب التحدي الاقتصادي، تطورت القدرات العسكرية الصينية بشكل متسارع، مما أثار مخاوف جمة في العواصم الغربية وفي الدول الأسيوية المحيطة بها. ذلك أن الصين استفادت من فوائضها التجارية الهائلة لشراء احدث التكنولوجيات العسكرية من روسيا التي كانت بحاجة ماسة الى العقود العسكرية لتنشيط صناعاتها الدفاعية بعد التراجع الذي عرفته بعد انهيار الأتحاد السوفياتي. الا أن خلافات عدة ظهرت بين الجانبين. فقد اتهمت روسيا الصين بشراء كمية معينة من أنظمة التسليح بغية التعرف على التكنولوجيات العسكرية المستخدمة، على أن تقوم في ما بعد بنسخها وانتاجها محليا بأسماء صينية بعد إدخال تعديلات بسيطة عليها.
ومن أهم مواضيع الخلاف بين البلدين قضية طائرة جي-11 j-11. ففي التسعينات من القرن الماضي، أوصت الصين على عدد من طائرات Sukhoi Su-27 الأعتراضية من روسيا. وتبعتها بعد سنوات بصفقات أخرى لشراء طائرات Sukhoi Su-30، وهي نماذج معدلة من ال Su-27 متخصصة في المهمات جو-أرض. وشكلت هذه الطائرات ثورة في القدرات
الصينية التي كانت مقتصرة في حينه بنماذج محلية مشتقة من طائرات MiG-21 وأخرى أكثر قدما.
لكن بعد بضع سنوات، ظهرت طائرة صينية عرفت باسم j-11 مشابهة بحد بعيد لطائرات سوخوي 27 و30. واتهمت روسيا الصين بسرقة التكنولوجيا وانتاج طائرة روسية التصميم محليا دون ترخيص. وأرخت هذه القضية بظلالها على العلاقات العسكرية بين البلدين. الا أن عمق المصالح المشتركة مكنت البلدين من تجاوز هذه الأزمة.
تصاعد الدور الصيني
ومع أن الصين تتبع سياسة متحفظة على المستوى الدولي، فان وزنها بدأ يلقي بظلاله في مسائل عديدة. فقد هددت أكثر من مرة باستخدام حق الفيتو في مجلس الأمن كلما طرحت مشاكل لا تأخذ بالاعتبار مصالحها. وتجلى ذلك في موقفها من الأزمة السورية، وتحفظها في ما يختص بعمليات حلف الأطلسي في ليبيا. لكنها في الأجمال تتجنب أخذ مواقف حادة من مواضيع لا تهدد أمنها ومصالحها بشكل مباشر.
تحاول الصين الاستفادة من الأزمة التي تضرب منطقة اليورو، حيث تعرض مساعدتها من الناحية المالية مقابل الحصول على امتيازات تجارية ونقدية في القارة الأوروبية. وتبدو العلاقات بين الصين والولايات المتحدة معقدة الى حد كبير. فالولايات المتحدة تشكل أكبر سوق للصادرات الصينية. لذلك فان التباطؤ والأزمات الاقتصادية التي تضرب الولايات المتحدة تصيب بارتداداتها الصين أيضا. وتحتاج واشنطن إلى الدعم الصيني في العديد من القضايا، على رأسها الملف التجاري وملف السلاح النووي في كوريا الشمالية، وكذلك دخول الصين كمشتر للسندات الاميركية للمساهمة في تخفيف حدة أزمة الديون الاميركية. لذلك تجد واشنطن نفسها مضطرة للعب على وتر مشدود في علاقاتها مع الصين.
الصراع الصيني-الأميركي حول تايوان
تشكل تايوان موضوع خلاف استراتيجي كبير بين الصين والولايات المتحدة. وتعمل الصين جاهدة الى إبعاد الولايات المتحدة عن تايوان التي تعتبرها جزءا من أراضيها. وفي العام 1979، اقر الكونغرس الأميركي قانونا يسمى قانون العلاقات مع تايوان Taiwan Relations Act يجبر الولايات المتحدة على بيع تايوان الأسلحة التي تحتاجها للدفاع عن نفسها. الا أن الصعود العسكري الصيني وتخوف الولايات المتحدة من إغضابها عرقلا تنفيذ هذا الاتفاق الى حد بعيد. ونتيجة لذلك، انكسر توازن القوى بين تايوان والصين خلال السنوات الماضية. وتشير تقارير وكالة الاستخبارات الدفاعية الأميركية Defense Intelligence Agency الى أن تايوان تملك أقل من 400 طائرة قتالية عملانية، في مقابل 2300 طائرة لدى الصين، منها أعداد متزايدة من طائرات j-10 وj-11 الصينية وSu-27 وSu-30 الحديثة. يضاف الى ذلك ما لا يقل عن 1100 صاروخ موجه الى جزيرة تايوان التي تبعد نحو 160 كلم عن البر الصيني.
قضية ال F-16
في المقابل، سعت تايوان منذ سنوات الى تعزيز قدراتها العسكرية، خصوصا سلاحها الجوي. ولدى تايوان 150 مقاتلة من نوع أف-16 أيه/بي F-16 A/B حصلت عليها منذ التسعينات من القرن الماضي. وهي النموذج الأول من هذه المقاتلة الأميركية، حيث أن قدراتها محصورة بعض الشيء في المهمات جو-جو. كما أن قدراتها الرادارية ليست على المستوى المطلوب بالمقارنة مع المقاتلات الصينية الحديثة.
وكانت تايوان طلبت منذ العام 2006 الحصول على 66 طائرة من الطراز الحديث اف-16 سي/دي F-16 C/D لتحل محل أسطول تايوان القديم من طائرات F-5 الذي يزيد عمرها على 30 عاما، الى جانب نحو 60 طائرة متقادمة فرنسية الصنع من نوع Mirage 2000. الا أن الولايات المتحدة أجلت الموضوع مرارا وتكرارا مخافة إغضاب الصين التي تبدي حساسية مفرطة في كل ما يتعلق ببيع أسلحة الى تايوان. ودام هذا الوضع لسنوات حتى حزمت إدارة الرئيس أوباما أمرها في أيلول الماضي.
أعلنت المصادر الأميركية عزمها على مد تايوان بأسلحة جديدة وأنظمة رادار متطورة لأسطولها من الطائرات المقاتلة F-16 في إطار صفقة تبلغ قيمتها 5.85 مليار دولار.
وتشمل الصفقة تحديث 145 طائرة F-16 A/B، ومواصلة برنامج تدريب على هذه الطائرات، وشراء قطع غيار لطائرات F-5 الأقدم، وطائرات C-130 للنقل ومكونات أميركية لمقاتلة أي دي أف IDF التايوانية الصنع الأقل قدرة من ال F-16. وبحسب المصادر الأميركية، فان الصفقة تحافظ على الألوف من فرص العمل.
تشير المصادر المطلعة الى أن القرار الأميركي الأخير يمثل التسوية المقبولة بين التزامات واشنطن تجاه تايوان، وخوفها من إغضاب الصين. ذلك أن تحديث طائرات F-16 التايوانية الموجودة سيستغرق وقتا أقل بكثير مما يستغرقه تصنيع طائرات جديدة، كما أن طراز A/B المحدث سيكون له فعالية مقاربة بنسبة 80 في المائة بالنسبة الى طراز C/D الذي طلبته تايوان منذ العام 2006 دون جدوى. وهذا الخيار اقل كلفة على تايوان ويتيح لها تحسينا سريعا لقدرات سلاحها الجوي.
بحسب المصادر العسكرية المتخصصة، فان التحديث سيشمل تزويد طائرات F-16 التايوانية برادارات ذات صفيف مسح الكتروني نشطActive Electronically Scanned Array ، وأنظمةGPS الملاحية، ونظام لإدارة الحرب الالكترونية من نوع Terma ALQ-213، وقنابل موجهة بالليزر من نوع Paveway 2، وصواريخ جو-أرض من نوع جدام JDAM وصواريخ جو-جو حديثة من نوع AIM-9X، وأنظمة تصويب بالخوذة، وتحديث مكونات المحركات، وحواضن للتصويب.
وقد رحبت تايوان بالقرار الأميركي، معتبرة أنه برهان على التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن البلاد. لكنها شددت على أنها ما زالت تسعى لشراء 66 طائرة F-16 من طراز C/D الأحدث.
أما الصين، فأعربت عن أسفها للقرار الأميركي، لكنها لم تصعد الموقف أكثر، مما اعتبر قبولا ضمنيا ولو على مضض بالتسوية.
خطر صاروخ DF21D الصيني
من ناحية أخرى، تهتم الأوساط العسكرية الأميركية بشكل خاص في متابعة برنامج صيني لتطوير صاروخ بالستي أرض-بحر بعيد المدى، هو الأول من نوعه في العالم، مخصص لضرب المجموعات البحرية الكبيرة. وينبع التخوف من أن مثل هذا الصاروخ قد يعرقل الخطط الأميركية لنشر حاملات طائرات ومجموعات بحرية لمساعدة تايوان في حال تعرضها لهجوم من الصين. كما يشكل خطرا على التوازن العسكري في المنطقة، وعلى حرية حركة الأسطول الأميركي في شرق آسيا.
تشير المصادر المطلعة الى أن مدى الصاروخ يزيد على 1500 كلم، فيما أشارت مصادر أخرى الى أنه يتخطى 2500 كلم. وينبع الخطر من أن الصواريخ البالستية تبلغ سرعة تزيد على ماخ 6،0 وبالتالي فان اعتراضها قبل إصابتها الهدف صعب للغاية. وثمة غموض حول درجة تقدم البرنامج. ففي حين تقول الصين أنها لا تزال في مرحلة تطوير الصاروخ، وأن البرنامج يواجه تحديات تقنية صعبة، تقول الولايات المتحدة أنه بات في مرحلة النشر الأولية.
مهما يكن من أمر، شرعت القوات العسكرية الأميركية في تطوير إجراءات مضادة للتهديدات الصينية المستجدة. وتتركز الجهود على مفهوم المعركة الجوية-البحرية AirSea Battle Concept المشترك بين سلاحي الجو والبحرية الأميركيين. ويتضمن المفهوم منع القوات الصينية من الكشف عن الأهداف البحرية وتتبعها، ونقل بيانات التصويب.
وحسب ما كشف عن المفهوم، ستقوم الولايات المتحدة بتنفيذ عمليات في الفضاء لتعمية أقمار المراقبة الصينية، وقد يكون تطوير مشروع العربة المدارية الأختبارية اكس-37بي X-37B مرتبطا بهذا التطور. كذلك استخدام شبكة من طائرات وعربات المراقبة متصلة بصواريخ جو-أرض بعيدة المدى لضرب الرادارات ومواقع اطلاق الصواريخ الصينية.
هذه التصورات لا تعني أن الحرب بين الصين والولايات المتحدة واقعة لا محالة، فهناك الكثير من المصالح المشتركة التي تجمع بينهما. لكنها تشير الى المدى الذي وصل اليه الخطر الصيني. ولا تبدو اليابان وكوريا الجنوبية بعيدة عن المخاوف الأميركية، اذ تعتبر هاتان الدولتان الحليفتان للولايات المتحدة أن الدعم الصيني هو الذي يسمح لكوريا الشمالية بمواصلة برامجها النووية والصاروخية ويمنع الانهيار الاقتصادي الذي يتهددها.
ختاما، أدى صعود الصين الى منافع جمة على الاقتصاد العالمي، حيث تعتبر هذه الدولة مصنع العالم حسب القول الشائع، إلا أن صعودها العسكري يشيع الكثير من المخاوف. وسيكون موضوع الحد من طموحات النمر الصيني من أهم الموضوعات المطروحة على الصعيد الدولي خلال السنوات المقبلة.