لم تكن مصر بعيدة عن آثار الحرب الأهلية الأمريكية (1861- 1865). فمبجرد انتهائها كانت القاهرة على موعد مع عدد من الضباط الأمريكيين الذين أحيلوا على التقاعد، إذ استعان بهم الخديوي إسماعيل لتطوير الجيش المصري، ولتحقيق الاستقلال عن الدولة العثمانية.
كان الخديوي مدفوعاً بعدد من الأسباب لاتخاذ تلك الخطوة، منها ظهور أمريكا كقوة عسكرية غير استعمارية في ذلك الوقت على عكس بريطانيا وفرنسا اللتين كان بينهما صراع استعماري في إفريقيا.
ورأى الخديوي أنه إذا استعان بضباط من هاتين الدولتين فقد ينقلبون عليه لمصلحة دولتيهم، بحسب أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر عاصم الدسوقي.
كذلك، كان الضباط الأمريكيون المسرّحون يمتلكون خبرة عسكرية فائقة، ورغم ذلك لم تكن أثمان الاستعانة بهم عالية مقارنة بنظرائهم البريطانيين والفرنسيين، ما عزز من اتجاه الاستعانة بهم، بحسب أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر عبد الوهاب شاكر.
وأضاف شاكر : "التقى إسماعيل ضابطاً أمريكياً يدعى تاديوس موت في حفل ملكي باسطنبول، وكلفه بالتعاقد مع عدد من الضباط الأمريكيين الذين لم يترددوا في قبول العرض، فقد كانوا بلا عمل، كما أن الرواتب التي عرضت عليهم كبيرة".
تفاوتت أعداد الضباط الأمريكيين الذين جاؤوا إلى مصر في ذلك الوقت، وفق تقديرات المؤرخين، إلا أنهم لم يقلوا عن 56 ضابطاً، بحسب شاكر.
وروى الدسوقي أن الخديوي بنى مساكن على النيل خصصت لإقامة الضباط الأمريكيين وأسرهم. وقد حل محلها الآن نادي الجزيرة.
وأشار شاكر إلى أنه عندما جاء الضباط الأمريكيون إلى مصر اعترض بعضهم على الزي العسكري المصري خاصة الطربوش، إلا أن القائمين على الجيش أخبروهم أنهم أصبحوا مجندين في الجيش المصري وعليهم الالتزام بزيّه، وفي النهاية قبلوا وتم تجنيدهم على النمط المصري.
آراء متفاوتة في المجتمع
تفاوتت نظرة المستشارين الأمريكيين للمجتمع المصري، خاصة في ما يتعلق بالدين ومدى استعداد المصريين لمواكبة العصر. قال مايكل بي أورين في كتابه "القوة والإيمان والخيال. أمريكا في الشرق الأوسط منذ 1776 حتى اليوم" إن ويليام وينغ لورنغ الذي كان قائداً للضباط الأمريكيين في مصر عبّر عن احتقاره للإسلام واعتبر أنه دين "ولد على حد السيف ومعارض لأي تنوير، وهادم لكل فكر أو نشاط مستقل".
واشتكى لورنغ أيضاً من أنه يعلّم شباب المسلمين "نفس الدروس البربرية التي قادت أسلافهم إلى العنف والإجرام"، لكنه كان يأمل في أن يظهر "لوثر عربي" ليضع حداً "لهذا التلقين للكره".
وخلافاً له، انبهر الجنرال تشارلز إيفرسون غريفرز باحترام وتقديس المسلمين للمسيح، قائلاً "هم أفضل حالاً من اليهود أو الموحدين (الربوبيين)"، لكنه كره خضوع نساء المسلمين لرجالهم، وقال: "كل مجهودات جلالته (الخديوي إسماعيل) ليصبح شعبه متمدناً وليبث الحضارة فيه ستذهب هباءً إلا إذا أزال كل الحريم والمخصيين من البلاد".
أما ويليام داي الذي انبهر يوماً ما بجمال وفخامة وأبهة الشرق، فسرعان ما أصابه اليأس والقنوط من مواكبة المصريين للعصر، وقال إنهم يتمسكون بماض قاس وغامض على عكس الأمريكيين الذين يمتلكون "روحاً خلاقة ومحلقة مثل رحالة خيالي في رحلة إلى المستقبل".
وكان وليام داي أحد الجنود الذين حاربوا سكان أمريكا الأصليين (الهنود الحمر)، وانتهى إلى الإعجاب بهم، لكنه اتخذ موقفاً عدائياً من المصريين، بحسب كتاب أورين.
مورغان وعرابي
نفر المصريون من الانعزال الثقافي للأمريكيين وعدم رغبتهم في تعلم اللغة العربية أو العيش في حي لا يسكنه الأوروبيون. وكان عدم التفاهم هذا متبادلاً بينهم وبين المصريين.
ذكر أورين أن جيمس موريس مورغان، أحد الضباط الانفصاليين الذين لعبوا دوراً في تطوير الجيش المصري، وبّخ أحمد عرابي لأنه كان يقوم للصلاة كل صباح، بدلاً من تنظيف بندقيته.
وقام مورغان مرة أخرى بإثارة مشاعر المصريين عندما غازل فاطمة ابنة الخديوي البالغة من العمر تسعة عشر عاماً غزلاً مكشوفاً. وعندما طلب رئيس شرطة القاهرة من مورغان إحضار كوب ماء له، كانت إجابة زوج ابنة وزير خزانة الانفصاليين، الجنرال مورغان، هي إلقاء الماء على وجهه بعنف.
انتقال العداء بين الضباط الأمريكيين إلى مصر
العداء الذي كان بين الجيشين الجنوبي والشمالي انتهى في أمريكا بنهاية الحرب، إلا أنه انتقل مع المستشارين الأمريكيين إلى مصر، وكثيراً ما كانت تحدث احتكاكات بينهم.
وروى شاكر أنه حين زار الرئيس الأمريكي الأسبق يوليسيس غرانت مصر، بعد انتهاء فترة رئاسته الثانية، في زيارة قابل فيها المستشارين الأمريكيين وحاول اقناعهم بالعودة إلى أمريكا، خرج الجنرال تشارلز ستون، رئيس هيئة أركان الجيش المصري، إلى استقباله بناء على تكليف من الخديوي. إلا أن ابنة أحد الجنرالات الجنوبيين الذين شاركوا في الحرب الأهلية سبّت الرئيس السابق أمام الحضور لمجرد أنه كان ضابطاً بالجيش الشمالي.
بناء الجيش وتطويره
رغم كل هذه العوامل، قام المستشارون الأمريكيون بأدوار متعددة. يقول شاكر: "بعضهم أشرف على إعادة تسليح الجيش المصري، وشارك آخرون في الاستكشافات الإفريقية، وأسند لفريق منهم إنشاء المصانع الحربية داخل مصر، ولفريق آخر استيراد الأسلحة، وأشرفت مجموعة على إنشاء مدرسة العباسية لتعليم الجنود المصريين القراءة والكتابة، وأنشأوا مكتبة كبرى بهيئة أركان الجيش".
بعد تأسيس مدرسة العباسية وصل عدد كبير من الضباط بصحبة أبنائهم، مطالبين بأن يتلقى أبناؤهم تعليماً أيضاً مثل الجنود، ووافق الجنرال ستون على أنه من حق أي ضابط أن يصحب ابنه من أجل التعليم، وسرعان ما كان نحو أربعة آلاف طفل مصري في ملابس أنيقة يدرسون في مدارس ابتدائية كوّنها المحاربون الأمريكيون السابقون، وفي ثلاث سنوات صار ثلاثة أرباع الجنود يجيدون القراءة والكتابة، ذكر أورين.
وروى أورين أنه عندما ارتدى الضباط الزي الأزرق الجديد، وأكتافهم وأحزمتهم موشاة بالذهب، تباهى مورغان بأنه "لامع كالبرق، بحيث يمكنك أن تتوقع قدوم الرعد"، وكان يُحتفل بهم بدعوات مكثفة إلى الحفلات والسهرات.
استمرت الاحتفالات بضباط إسماعيل لمدة أسبوع كامل، وكانت تلك الحفلات "مبهرة وأكبر قدرة على الاحتمال" من وجهة نظر الكولونيل ويليام داي، فجمال السيدات الحاضرات وملابسهن الملونة وهن يتناولن الشراب المسكر في سرادقات مخملية جعلته يتأوه قائلاً: "لقد وصلت إلى حدود الخيال، وكل شيء يتراقص أمام ناظري كحلم جميل".
الرحلات الاستكشافية
بحسب شاكر: "إن الاستكشافات الإفريقية كانت أبرز ما شارك فيه الضباط الأمريكيون، فقد وصل الضابط الأمريكي شاييه لونغ إلى البحيرة التي يخرج منها النيل وأطلق عليها اسم بحيرة إبراهيم باشا (والد إسماعيل)، إلا أن الإنكليز تجاهلوا فيما بعد هذا الضابط وأسموها فيكتوريا".
وذكر أورين أن إحدى هذه الرحلات كانت بقيادة رولي كولستون الذي غادر مصر عام 1874 وسار لمدة ثلاثة أشهر عبر مناطق دارفور وكردفان، وكان ثمانية من المصريين المرافقين له يموتون يومياً بسبب الإرهاق والأمراض، حتى أصيب كولستون نفسه بمرض في المثانة أدى إلى إصابة نصفه الأسفل بالشلل، ومع ذلك رفض أن يرجع، واستمر في جمع عينات من الأحجار والنباتات، وفي كتابة التقارير.
قال كولستون: "مع أنني مشلول بسبب مرض قاس، يبدو أنه مميت، أرغب في القيام بواجبي حتى آخر لحظة"، وعندما اشتد المرض عليه أمر بربط نفسه على حصان واتجه إلى القاهرة.
اتهامات بالتواطؤ مع الإثيوبيين
شارك المستشارون في الحملة على الحبشة، إلا أنها لم تنجح، ووقتذاك ألقى بعض ضباط الجيش المصري، ومنهم أحمد عرابي، باللوم على الضباط الأمريكيين، واتهموهم بالتواطؤ مع الإثيوبيين باعتبار أنهم مسيحيون مثلهم، إلا أن التحقيقات التي أجريت بعد رجوع الحملة برّأتهم، بل إن الخديوي نفسه قام بتكريمهم، بحسب شاكر.
تسريح الضباط ومنازعات قضائية
وأوضح شاكر أن الضباط الأمريكيين مكثوا فترة راوحت بين خمس وسبع سنوات انتهت برحيلهم بسبب أزمة الديون التي شهدها عصر إسماعيل، خاصة أن البريطانيين أصروا على تسريحهم كشرط لتسوية الأزمة باعتبار أن مصر تمر بأزمة مالية كبرى، في حين تدفع رواتب كبيرة لهؤلاء الضباط.
وقال: "عدد من الضباط الأمريكيين دخلوا في منازعات قضائية دولية مع الحكومة المصرية بعد تسريحهم قبل انتهاء العقد المبرم معهم، وذلك من أجل الحصول على باقي مستحقاتهم".
وذكر أورين أن تاديوس موت رحل إلى إسطنبول مستشاراً لعدد من السلاطين، وعمل داي مستشاراً لملك كوريا، ودخل لونغ الدوائر الدبلوماسية بعد تخرجه من مدرسة الحقوق بجامعة كولومبيا، وعمل صامويل لوكيت الذي كان أحد المشرفين على مدرسة العباسية وأحد قادة الحملة على الحبشة مهندساً وصمم خطوط السكك الحديدية لشيلي، في حين عمل هنري براوت، الذي تولى أمر البعثة الاستكشافية التي قادها كولستون بعد رجوع الأخير إلى مصر بسبب المرض، تنفيذياً في شركة خطوط السكك الحديدية أيضاً.
ولكن ذلك لا يعني أنهم جميعاً حققوا نجاحاً في حياتهم العملية، فمثلاً أدمن هنري سيبلي، وكان مشرفاً على سلاح المدفعية، وألكسندر رينولدز، مساعد ستون في تأسيس الجيش المصري، الخمر حتى توفيا متأثرين بذلك، ولم يتعاف كثير من الأمريكيين من الأمراض التي أصيبوا بها في إفريقيا. ومات كثير منهم بسببها، من بينهم إيراتوس سبارو بيردي، قائد إحدى البعثات الاستكشافية إلى إفريقيا، ورولي كولستون.
أضاف أورين أن الحكومة المصرية كانت مدينة لهم جميعاً، وفي النهاية وصلتهم المبالغ المستحقة لهم، إضافة إلى 6000 دولار كمعاش، وقد مكّن هذا المبلغ تشارلز إيفرسون غريفز من سداد الرهن على مزرعته في ولاية جورجيا الأمريكية، وبناء بيت عليها.
لورنغ كان أكثرهم حظاً، فقد عاد إلى الولايات المتحدة وعاش طويلاً ليكتب مذكراته ويجوب الحدود الغربية، وتوفي في نيويورك عام 1887، ودفن في موطنه بفلوريدا، وحضر جنازته 10 آلاف شخص حسبما ذكر أورين.
وأشار أورين إلى أن واحداً من هؤلاء الضباط ظل في مصر وهو ستون، فقد رُقي إلى رتبة جنرال وظل في منصبه هذا حتى عام 1879، عندما قامت فرنسا وبريطانيا بالضغط على العثمانيين لخلع إسماعيل عن العرش.
غادر الأمريكيون مصر، وبعضهم يحمل مشاعر ود وولع تجاهها، في حين كان البعض الآخر يحمل مشاعر أقل دفئاً بكثير.
واشتكى لوكيت وهو يتذكر: "لقد خدع كل رجل خرج من مصر. فالأمر كله كان خدعة كبرى، كلها مظاهر وكلها أوهام". وخلص داي إلى أنه ليس بإمكان أي شخص تحقيق أي إنجازات في مصر إلا إذا منح صلاحيات كبيرة"، وأضاف: "لا يجب على أي أجنبي أن يخدم مصرياً".
ولكن ستون كان له رأي مختلف، قال: "كانت مصر ودودة وكريمة للغاية معنا في أوقات الرخاء، وعندما تزدهر مرة أخرى ستعاود معاملتنا تلك المعاملة الحسنة".
مصدر