شهد اقتصاد أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى طفرة هائلة منذ بداية الألفية الجديدة, وقد تميزت هذه الطفرة بزيادة التجارة والاستثمار المتنامي بسرعة في القارة ، كما أنها شهدت منافسة بين الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية والصين ومع ذلك فقد
كانت الصين سباقة فى العديد من المجالات على الرغم من سعي اكبر منافسيها وهى الولايات المتحدة لتوسيع نفوذها فى القارة الأفريقية.
بالنسبة للولايات المتحدة عبرت عن التوترات الإمبريالية مع الصين في الآونة الأخيرة بالحرب التجارية المتنامية مع الصين لكن صعود الصين كقوة عالمية أدى إلى تسارع وتيرة هذا التنافس لعدة سنوات ومع جانب النضال من أجل مجرد الوصول إلى الموارد ، فإن الإمبريالية تبقى هي الدافع التنافسي للسيطرة على الموارد والأسواق حيث تمثل أفريقيا عنصراً حاسماً في الأهداف الاستراتيجية للصين لتحقيق النمو الاقتصادي والهيمنة.
عندما نتمعن في التوسع الصيني عبر القارة الأفريقي نجده يسير بشكل دراماتيكي بحيث إنتقل من التجارة إلى الاستخراج إلى التصنيع حتى أصبحت الشركات الصينية مسئولة عن حوالي12 في المائة من صناعة القارة ، لتبلغ قيمتها نحو 500 مليار دولار في عام 2012 وبذلك أصبحت الصين أكبر شريك تجاري لأفريقيا ، وبالمقابل بدأت التجارة بين الولايات المتحدة وأفريقيا في الانخفاض ومع تحول الولايات المتحدة بشكل حاد من واردات النفط الأفريقية إلى الإنتاج المحلي تضاعفت الوظائف التي أنشأها الاستثمار الأجنبي الصيني المباشر في عام 2016 مقارنة بالعام الذي يسبقه ، وهي نمثل في مجملها أكثر من ثلاثة أضعاف الرقم الذي أنشأه الاستثمار الأمريكي.
وكما يصف مركز بروكنجز في تقرير حديث له حول الأمر ، فإن "دور الصين في القارة الإفريقية تم تحديده من خلال تمويل أكثر من 3000 مشروع حساس في البنية التحتية كما قدمت الصين أكثر من 86 مليار دولار من القروض التجارية للحكومات الأفريقية والكيانات المملوكة للدولة بين عامي 2000 و 2014 ، بمتوسط يبلغ حوالي 6 مليارات دولار سنوياً , ونتيجة لذلك أصبحت الصين أكبر دائن للمنطقة ، حيث تمثل 14 في المائة من إجمالي ديون أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى كما تمثل الصين حوالي نصف المقاولين الدوليين في أفريقيا في مجال البناء .
عادة ما تقوم الشركات الصينية ببناء البنية التحتية فى الدول الإفريقية ، حيث يتم دعم القروض من خلال عائدات النفط أو المعادن ، والتي تتميز بأنها صفقات مقايضة "النفط مقابل البنية التحتية" مع "عدم وجود قيد او شرط" وهذا يعتبر أمراً مشجعا لتلك الحكومات التي لا تمتلك موارد مالية كافية لتمويل مشروعاتها.
وفي زيارة رفيعة المستوى للقارة عام 2015 ، تعهد الرئيس شى جين بينغ "رئيس جمهورية الصين الشعبية" بإستثمار 60 مليار دولار بحيث تساعد الدول الأفريقية في رسم مسار مستقل خال من الشروط الشاقة للشركات متعددة الجنسيات الغربية ومنها المؤسسات المالية الدولية (International financial institutions) وصندوق النقد الدولي (International Monetary Fund) والبنك الدولي (World bank).
لقد نشأت أزمة الديون الأفريقية في الثمانينيات والتسعينيات من خلال التقشف الصارخ لبرامج التكيف الهيكلي في المؤسسات المالية الدولية ، حيث صاحبت القروض "شروطاً" قاسية للخصخصة ، وإلغاء القيود ، وخفض الميزانيات الوطنية وفرض معدلات سداد القروض الكبرى
ففي أعقاب الركود الذي شهدته افريقيا فى منتصف السبعينيات ، مهدت السياسة النيوليبرالية والتكيف الهيكلي الطريق لاستعادة الربحية العالمية من خلال شروط التجارة والاستثمار المؤاتية للغرب ، وهي السياسات التي كانت بمثابة اعتداء غير قانوني على طبقة العمال الافارقة , هذه السياسات سهلت "السيطرة الجديدة " أى الحالية للاستثمار في أفريقيا.
وهذا الوضع كان له دلالة على أن الصين كانت قادرة على الاستفادة من إعادة هيكلة النيوليبرالية ذاتها لتغذية نموها الضخم ، كما فعل المنافسون الآخرون للغرب في إفريقيا مثل روسيا والهند ، في حين أن الولايات المتحدة التي لا تزال أكبر مستثمر في القارة مع ما يقرب من 50 مليار دولار من الاستثمارات ، فإن السياسات التي عززت هذا النمو عززت منافسيها بشكل متناقض.
أثارت المشاركة الاقتصادية المتزايدة من جانب الصين الرهانات على علاقاتها في أفريقيا ، مالياً واستراتيجياً كما هو الحال مع الولايات المتحدة خاصة مع وجود القيادة الأفريقية (أفريكوم) وشبكة قواعد الطائرات بدون طيار ومرافق التدريب في جميع أنحاء أفريقيا ولكن توسعت بصمة الصين العسكرية في القارة أيضا ، مع وجود قاعدة عسكرية جديدة في جيبوتي ودور متزايد في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة ووفقاً لصحيفة ديلي بيست ، فإن "بكين تطلق 20 مليون دولار سنوياً لاستئجار العقارات لقاعدتها في جيبوتي ، وقد تمركز بالفعل أكثر من 1000 جندي هناك ، مع مساحة كافية لعشرة أضعاف هذا الرقم إذا لزم الأمر علاوة على ذلك ، منحت الحكومة الصينية قروضاً للدولة المضيفة بلغت 1.1 مليار دولار لتطوير ميناءها التجاري ، وبناء مطار إضافي وسكة حديد تمتد إلى أديس أبابا ، وخط أنابيب لنقل المياه من إثيوبيا وهذه التحركات زادت من التوترات الامريكية الصينية في إفريقيا.
في وقت سابق من هذا العام ، أدلى الجنرال توماس والدهاوسر قائد قوات القيادة الأميركية في أفريقيا ( أفريكوم) بشهادته أمام لجنة القوات المسلحة الأمريكية بأنهم "يراقبون بدقة التعدي الصيني والوجود العسكري الناشئ في جيبوتي.
في مارس 2018 زار وزير الخارجية الأمريكي السابق ريكس تيلرسون ، خمس دول أفريقية وقد كانت لديه انتقادات قاسية للعلاقات الصينية في إفريقيا ، معلناً أن وضعهم "يشجع التبعية باستخدام عقود غامضة وممارسات إقراض مفترسة وصفقات فاسدة تثير الأمم في الديون وتقليص سيادتها ، وحرمانها من نموها طويل الأجل المستدام ذاتياً ... فالاستثمار الصيني لديه القدرة على معالجة فجوة البنية التحتية في أفريقيا ، لكن نهجه أدى إلى تصاعد الديون وقلة من الوظائف إن وجدت ، في معظم البلدان".
وبالمثل ، فإن مبادرة "الحزام والطريق" التي تبلغ قيمتها 1.4 تريليون دولار - وهي خطة عالمية لربط التجارة والبنية التحتية التي تربط العديد من القارات بما في ذلك شرق أفريقيا - أثارت قلق الولايات المتحدة ففي الآونة الأخيرة وصف وزير البحرية الامريكى ريتشارد سبنسر المشروع بأن الولايات المتحدة على دراية وثيقة بفرض سياسات مدمرة لغرض وحيد هو خلق اقتصادات أفريقية صديقة للمستثمرين وهي دائما على استعداد لتهديد القوة العسكرية حسب الحاجة لحماية مصالحها.
أدى الانخفاض العالمي في أسعار السلع في 2014-2015 إلى حدوث ألم اقتصادي على الدول الأفريقية المنتجة للنفط التي تعتمد عائداتها بشكل كبير على ارتفاع أسعار النفط على الرغم من أن متوسط الناتج المحلي الإجمالي لهذه الدول كان متوقعًا من البنك الدولي أن يرتفع بشكل طفيف فوق 3% في 2018 و 2019 ، فإن الانخفاضات المستقبلية في أسعار السلع تعد بجولات جديدة من عمليات الإنقاذ من قبل المؤسسات المالية الدولية ، مما سيؤدي الى تخفيض الميزانية والتقشف سيسبب ضربة قوية للناس العاملين والفقراء.
وربما السوق المتقلبة والعجز الذي تعانيه الدول المنتجة للنفط سوف يجبر المقرضين الصينيين على طلب قروضهم الخاصة.
التدافع الجديد فى أفريقيا لا يؤدي إلا إلى تغذية المنافسات الإمبريالية بين القوى العظمى في العالم ، خاصة بين الولايات المتحدة والصين وبينما يحقق ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي آفاق جديدة في هذه الطفرة غير المسبوقة فإن الحقيقة الصارخة هي عدم المساواة المتنامية بين أغلبية القارة وطبقات الحكم الإفريقي وهذا الاندفاع نحو تحقيق الأرباح وما يجره من التقلبات الاقتصادية والعسكرية لا يعود في الواقع على دول القارة الأفريقية إلا بعدم الاستقرار وزيادة الاستغلال والعنف وإستمرار الصراع.
* المقال ورقة بحتية أعدتها الباحثة كمشاركة في ورشة العمل التخصصية حول السياسة الخارجية الامريكية في الشرق الأوسط وإفريقيا التي أقامتها الأكاديمية الليبية بمدرسة العلوم الاستراتيجية والدولية قسم الدراسات الإقليمية والدولية شعبة الأمريكية في الأكاديمية 2018 م.
http://almusallh.ly/ar/stratigystud/1893-2018-11-29-10-49-50