إذا استقيظت الصين، فستهز العالم.
—نابليون بونابرت (1769 – 1821)
ينظر المؤرخون إلى التاريخ الصيني على أنه عجيب ومعقد، فالصين التي أُديرت في أغلب تاريخها من سلسلة من أمراء الحرب طورت عهدًا متأخرًا من التجارة الواسعة والسلام، هذه الفترة المتأخرة اتسمت كذلك بالانغلاق الصيني والعُزلة؛ بعد الاحتلال الياباني للصين في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، ثم الحرب الأهلية الصينية التي استمرت لمنتصف عام 1950، أتى ماو تسي تونج والحزب الشيوعي الصيني إلى السلطة، ليبدأ معهما عهد صيني جديد.
بدأت الصين تحت راية ماو تسي تونج عصرًا جديدًا من العزلة، كان الغرض الأساسي منها هو إعادة إحياء التنين الصيني مرة أخرى، وبالفعل صارت الصين مكتفية ذاتيًّا في عهده من أغلب الموارد والتقنيات، لكنها ظلت متأخرة عن معايير التحديث والتقنية الحديثة بحوالي عشرين إلى ثلاثين عامًا.
بعد وفاة ماو سنة 1976، بدأ الزعيم الجديد، دينج شياو بينج، سلسلة من الإصلاحات التي غيرت الصين بشكل جذري. شجع دينج التجارة الدولية وسمح باستثمار رأس المال الأجنبي. وكانت النتيجة دخول الصين الهائل إلى الأسواق العالمية وازدهار اقتصادها. كان الهدف المحدد لهذه السياسات هو الحصول على فائض كبير من العملات الأجنبية، الأمر الذي سيسمح للصين بالتحديث لتصبح أكثر استقلالية.
كانت التكلفة التي دفعتها الصين لإنجاز عملية التحديث هذه باهظة جدًّا، على سبيل المثال فقدت الصين في الفترة بين 1958 و 1961 15 مليون إنسان حسب التقديرات الحكومية الصينية، تشير دراسات إلى أن العدد الإجمالي ربما يصل لضعف الأرقام المعلنة من جهة الدولة الصينية، فقدت الصين هذا العدد من البشر فيما يُعرف بمجاعة الصين الكبرى، والتي حدثت نتيجة التحول القاسي من النمط الزراعي في الاقتصاد إلى النمط الصناعي، في عهد ماو تسي تونج.
لطالما كان الصعود الصيني مزعجًا للغرب، الذي رأى في النموذج الصيني الشيوعي مهددًا رئيسيًّا للديمقراطية الغربية، متى تكون الصين القوة العظمى عالميًّا، وقطب العالم الأول، وفي كل مرة نوقش فيها هذا السؤال تعددت العلل بأن الصين أبدًا لا يمكنها في الوقت الحالي أن تحل محل الولايات المتحدة الأمريكية، حتى جاءت جائحة كورونا وطُرح السؤال من جديد، هل تكون الصين القوة العظمى في عالم ما بعد كورونا؟
العالم في مواجهة جائحة فيروسية
في اليوم الأخير من عام 2019، أنذرت الصين منظمة الصحة العالمية، عن اكتشافها عددًا من حالات الالتهاب الرئوي الفيروسي، لم تحدد الفيروس المسبب لها بعد. في البداية اعتقد الصينيون أن الفيروس الجديد ما هو إلا موجة تفشي ثانية لفيروس السارس، الذي ضرب العالم سنة 2002 و 2003، وقتل أكثر من 770 شخصًا حول العالم، لكنهم ما لبثوا أن تراجعوا عن هذا الاعتقاد، وخلصت النتائج المعملية إلى حقيقة أن الفيروس الجديد ما هو إلا أحد تحورات فيروس كورونا، المسبب لنزلات البرد.
في الحادي عشر من يناير/ كانون الثاني أعلنت الصين عن أول حالة وفاة نتيجة الإصابة بالفيروس الجديد، والمسمى COVID-19، لرجل يبلغ من العمر 61 عامًا، كان قد زار سوق المأكولات البحرية في مدينة ووهان الصينية، وهي المدينة التي عُرفت فيما بعد كبؤرة للتفشي الوبائي.
كإجراء وقائي أعلنت الصين بداية فبراير/ شباط تمديد العطلة السنوية للحد من انتشار الفيروس، وكانت قد أعلنت غلقًا كليًّا وجزئيًّا للمصانع في 14 مقاطعة، تمثل تقريبًا ثلثي الناتج المحلي الصيني. ما حدث كان شللًا للاقتصاد الصيني، ولولا أن الوباء انتشر عالميًّا لكانت التكهنات باحتمالية المؤامرة البيولوجية الأمريكية أمرًا مقبولًا، من الناحية النظرية، لكن الجائحة عالمية، وبفرض صحة المعلومات التي تعلنها كل دولة عن عدد المصابين والوفيات من جراء الجائحة الفيروسية فإن دولًا كالولايات المتحدة وإيطاليا وإسبانيا تجاوزت فيها عدد الإصابات عن تلك التي أعلنتها الجمهورية الصينية.
المثير للإعجاب – بفرض صحة البيانات التي تعلنها الصين حول المرض – أن الصين أعلنت منتصف فبراير/ شباط سيطرتها شبه الكاملة على التفشي المرضي، أرجع خبراء ذلك النجاح للإجراء التي فرضتها الدولة بالقوة، إجراءات العزل والإغلاق والتعقيم، والسرعة في إنشاء المشافي الميدانية المتنقلة، والتوسع في إجراء الاختبارات السريعة الكاشفة للفيروس، والتي لا تتطلب وقتًا طويلًا، كذلك الذي يحتاجه اختبار الـ PCR. الأهم من بين تلك الإجراءات هو الحزم الحكومي في تنفيذ مخططات العزل المجتمعي للقضاء على التفشي الوبائي، وما سهل هذا الحزم والإنجاز الطبيعية السلطوية للنظام الصيني.
كانت الصين أول من أعلن سيطرته على الوباء، بعدما كانت مصدر التفشي. وسعت فيما بعد لتصدير البروتوكول الخاص بها للدول التي تحتاجه للسيطرة على الوباء. في الأيام القليلة الماضية توجهت الصين بالمساعدة لعدد من الدول المنكوبة، أرسلت طائرات محملة بالكواشف الطبية وأجهزة التنفس الصناعي والكمامات وعددًا من مقدمي الخدمة الطبية لكل من إيطاليا وفرنسا، كما تعهدت بتقديم يد العون لكل من الفلبين وإسبانيا وعدد من الدول، وبالفعل أرسلت أطباءها لكل من العراق وإيران.
في مكالمة هاتفية، عبر الرئيس الصيني شي جين بينج لرئيس الوزراء الإسباني عن التضامن الواسع بين البلدين، حيث سجلت إسبانيا ثاني أعلى معدلات الوفاة عالميًّا جراء الجائحة، وسجلت حتى لحظة كتابة التقرير ما يزيد عن تسعة آلاف وفاة. وطالب شي جين بينج نظيره الإسباني بضرورة بناء علاقات قوية بين البلدين، فيما بعد الجائحة.
تحاول الصين استغلال التفشي الوبائي العالمي، لتبني جسورًا من التواصل مع دول لطالما دارت في الفلك الأمريكي ما بعد الحرب العالمية الثانية، لا سيما وأن الولايات المتحدة منذ بداية الأزمة لم تقدم مساعداتها للدول المنكوبة، اتساقًا مع رؤية ترامب لبلاده والعالم، كجزر منفصلة، السيادة فيها للولايات المتحدة والمسؤولية بالتساوي على الدول. هل يجدي استثمار الصين في الأزمة لتزيد من قوتها الناعمة، وتقوي ترسانة العلاقات الدولية الآخذة في التوسع، وهل يمكن التنبؤ بحلول الصين محل الولايات المتحدة في زعامة العالم؟
أوهام الصراع على زعامة العالم
في البداية، وقبل الخوض في تفاصيل الصراع «المفترض» بين الصين والولايات المتحدة على سيادة العالم، لا بد من الوقوف على تعريف لمفهوم القوة العظمى. المصطلح الذي ابتُدع لوصف الإمبراطورية البريطانية، التي كانت في الزمن الغابر لا تغيب عنها الشمس، والاتحاد السوفيتي، حاليًّا تصف الولايات المتحدة الأمريكية.
القوة العظمى هي التي لديها القدرة على إبراز التأثير والفرض السيطرة في أي مكان في العالم، وأحيانًا في أكثر من مكان بالعالم.
—أليس ميلر، باحثة ومحللة أمريكية عملت سابقًا لـ CIA
تحتاج الدولة لتكون قوة عظمى للتفوق في مجالات متعددة؛ الاقتصاد والعسكرية والقوى الناعمة. في الاقتصاد على سبيل المثال، تظهر الصين كقوة اقتصادية عالمية، وتتفوق في الترتيب على الولايات المتحدة الأمريكية قياسًا على الناتج الإجمالي المحلي (تعادل القوة الشرائية)، وذلك مرده إلى أمرين، أولًا كونها مصنع العالم الحالي، بفعل السياسات التحديثية التي بدأها ماو تسي تونج وأكملها خلفاؤه على قمة الحزب الشيوعي الصيني، وثانيًا لأن الكثافة السكانية البالغة 1.3 مليار نسمة، من شأنها رفع الناتج المحلي الإجمالي، لمضاعفة حركة البيع والشراء محليًّا، لتلبية الحاجات الأساسية للمواطنين الصنيين.
تعتمد الصين منذ عام 1979 سياسة متطرفة للتحكم في الزيادة السكانية المطردة، وهي سياسة الطفل الواحد «One-Child Policy»، ويُتوقع لهذه السياسة أن تؤثر على الاقتصاد الصيني مستقبلًا، فتنخفض معدلات الناتج المحلي الإجمالي تأثرًا بتناقص السكان وتناقص حركات البيع والشراء محليًّا تبعًا لذلك.
فيما يخص الشق العسكري، فإن الصين تتأخر كثيرًا عن الولايات المتحدة، ويأتي ذلك متسقًا مع السياسة الصينية التقليدية بالعزلة وتجنب الصراعات الدولية ما بعد الحرب الأهلية، ففي الوقت الذي كان الإنفاق العسكري الأمريكي فيه يتعدى الـ 600 مليار دولار، كان نظيره الصيني يقف عند 228.2 مليار دولار (عام 2017). يصدق هذا التباين الضخم في الإنفاق العسكري انتشار ما يزيد عن 500 قاعدة عسكرية أمريكية حول العالم، فيما حطت القاعدة العسكرية الصينية الأولى في العالم في جيبوتي سنة 2017.
تحاول الصين مجابهة الولايات المتحدة في مجال القوى الناعمة، على سبيل المثال دشنت في 2018 مشروعًا لإنشاء مدينة سينمائية على غرار هوليود أمريكا وبوليود الهند، المدينة أُنشئت على مساحة 500 ملعب كرة قدم، بتكلفة إجمالية تتجاوز سبعة مليارات دولار، واستدعت الحكومة الصينية صناع السينما من دول العالم، لكن أمام الرقابة الحكومية الصارمة، وفراغ المحتوى من المضمون وتفاهته، لم تفلح الصين إلى اليوم في المنافسة في هكذا مسار، وأمام البون الواسع بين الولايات المتحدة والصين كيف لنا أن نتوقع منافسةً بينهما على زعامة العالم.
التجربة الصينية في النهوض بالدولة بعد الاحتلال والاحتراب الأهلي لا يمكن اعتبارها بالكلية تجربةً ناجحة، لأن الصين والحزب الشيوعي الصيني سحق الفرد الصيني أملًا في صالح الجماعة، وفرض التحديث والتحول من الزراعة إلى الصناعة بالقوة، وكذلك يجبر العمال على العمل في ظروفٍ شاقة بأجور زهيدة، وذلك ما جعل الصين مصنع العالم الحديث اليوم. تنتقل الشركات العالمية العابرة للحدود إلى الصين فتنشئ مصانعها هناك، حيث العمالة الرخيصة المهدرة الحقوق، وتعود فتبيع بضاعتها للعالم بأثمانٍ مقبولة، فتحقق البيع الكثير والفائض الوافر. مع الوقت طورت الصين شركاتها الخاصة إلى جانب الشركات الأجنبية على أراضيها، وكثير من إنجازاتها الصناعية لم يكن مبتكرًا، وإنما تمت القرصنة على التكنولوجيا الأجنبية، الأمريكية والأوروبية، لصالح الشركات والمصانع الصينية.
هل تكون الصين أكبر المستفيدين من أزمة كورونا؟
أعلنت الصين سيطرتها على الوباء رغم أنها مصدر التفشي الأول للوباء، حسب ما هو متوفر من معلومات حتى الآن. هذا الإنجاز يؤهل الصين لشغل فراغ خلفته دول العالم الأول اليوم، في حربها مع هذا الوباء الخطير، حيث الولايات المتحدة تحقق أعلى معدل إصابات في العالم، والدول الأوروبية وصلت لمستويات مزرية من التفشي وفقدت بعضها السيطرة على الأمر، لتُحقق أعلى معدلات وفيات في العالم.
لم تتوانَ الصين عن مد يد العون للدول المنكوبة، كما أسلفنا، وتحاول حاليًّا رسم صورة لطالما حاولت رسمها، صورة التنين الموادع، هذه الصورة أوعزت لبعض المتابعين للسياسة العالمية أن الصين سيكون لها مكانٌ أكبر في عالم ما بعد كورونا، وربما غالى بعضهم بالقول إنها ستخلف الولايات المتحدة على سيادة العالم، فهل يكون ذلك؟ وأي شواهد تطابق ذلك الظن أو تخالفه؟
بمراجعة الموقع الرسمي لمنظمة الصحة العالمية، فإن أهم ما يميز الأوبئة محليتها، بخلاف الكوليرا التي انتشرت في أنحاء متفرقة من العالم سنة 1817 قبل أن تنحسر، ويعرف لها العالم بروتوكلات وأمصالًا للحد من انتشارها، ومما يساعد على الحد من انتشار أي وباء خارج البؤرة الأولى التي عُرف فيها أن يتيح البلد موطن التفشي الأول ما لديه من معلومات لغيره من الدول للتكاتف والتوصل لعلاج لهذا الوباء، وهو ما لم تفعله الصين في أول الأمر، وبدلًا من ذلك أنكرت طوال شهر ديسمبر/ كانون الأول ظهور وباء ينتقل بين البشر في مدينة ووهان، ولدى إرساله رسالة تحذيرية إلى زملائه من المرض الجديد، اعتقلت السلطات الطبيب لي وينليانج، مدعيةً نشره أخبار كاذبة لإثارة الرعب بين البشر.
توفي الطبيب لاحقًا بالمرض الذي حذر منه، واعترفت الصين بالوباء بنهاية ديسمبر، لكنها أنكرت إمكانية انتقاله بين البشر، وسمحت على إثر ذلك لـ 40 ألف عائلة صينية بالاجتماع والاحتفال وتشارك الطعام في احتفالات رأس السنة الصينية. بدأت الصين إجراءات الحجر الصحي على المدينة فقط يوم 23 يناير/ كانون الثاني، بعد قرابة الشهرين من بدء تفشي المرض، خلال هذه الفترة كان ملايين البشر قد زاروا المدينة لاحتفالات رأس السنة، وخرجوا منها محملين بالفيروس الفتاك، ثم بدأت الدول تُعلن تباعًا عن اكتشاف حالات مصابة لأفراد عائدين من الصين، أو مخالطين لهم، بالفعل كان السيف قد سبق العذل.
فإن كانت الصين اليوم تمد يدها بالعون للدول المنكوبة، فإنها في موضع التهمة أول الأمر، جراء السياسات العنيفة التي تتبعها، والتي لم تترك للأطباء حرية الفحص وإعلان المرض، ومن ثم تتخذ السلطات الصينية قرارات مبكرة بالعزل الصحي لموطن الوباء قبل أن يصير جائحةً عالمية.
ربما تحتاج دول العالم الأول في هذا الوقت للمساعدة، أيًّا كان مصدرها، وهو ما يفسر تهافتها على البضائع الصينية المرتبطة بالصحة والنظافة العامة. لكن في عالم ما بعد كورونا أولى بهذه الدول أن تعدل عن جعل الصين مصنع العالم، فإن وفرت لهم العمالة الزهيدة بعض المال، فإن جائحة كتلك التي لا تُرجى نهايتها قريبًا كفيلة بإضاعة فوائض المال، ومعها عشرات الآلاف من الأرواح. النموذج الصيني في التحديث وإن كان بحق مثيرًا للإعجاب وسرعة النهوض، فإنه مع ذلك لا يتحمل المسؤولية العالمية، والجائحة الحالية أوضح دليل.
مصدر