ظل السؤال عن مستقبل أبناء النيل الأزرق وجبال النوبة بالجيش الشعبي يؤرق الحكومة في الخرطوم قبل وقت طويل من حلول موعد استفتاء جنوب السودان في التاسع من يناير الماضي، وهو ما دفعها للبحث عن معادلة مناسبة تضمن استيعاب هؤلاء الشماليين في القوات النظامية وتوفيق أوضاعهم في حال ذهاب الجنوبيين لحال سبيلهم. وقد تم تنبيه القيادة السياسية والعسكرية من أبناء المنطقتين بالحركة لضرورة الجلوس منذ وقت مبكر للاتفاق على الطريقة المثلي التي توجد أرضية تجعل هؤلاء الجنود لا يضارون من الانفصال، خاصة أن الحكومة قطعت خطوات مقدرة في تنفيذ بروتكولي جنوب كردفان والنيل الأزرق التي سار فيها التنفيذ بوتيرة أسرع مكنت الفراغ من عملية المشورة الشعبية رغم تماطل وعراقيل الحركة الشعبية بالولاية.
ودار نقاش مستفيض بين رئيس المجلس التشريعي بالولاية والكتلة البرلمانية لنواب الحركة الشعبية حول استيعاب قواتهم وتوفيق أوضاعها أفضى إلى تشكيل لجان مشتركة لهذا الغرض، تبدأ أولاً بالقوات المشتركة المدمجة ثم قواتهم في الجيش الشعبي التي لم يتم سحبها جنوب خط 1956م بالإضافة لقواتهم العاملة ضمن الجيش الشعبي بجنوب السودان. وتم التأمين خلال المناقشات على ضرورة حل المسائل السياسية في ظل وجود والي الولاية مالك عقار. لكن هذا الاتفاق رغم الجهد الذي بذل فيه وخروجه بحلول عملية للمسألة برمتها إلا أنه لم يجد التجاوب من قيادة الحركة الشعبية، وهو ما كان له أبلغ الأثر في استمرار حالة الضبابية التي تكتنف مصير أبناء المنطقة بالجيش الشعبي، مما يؤكد النية لاستمرار وضعهم عالقاً مع جنوب السودان حتى بعد أن أصبح دولة لا يحق لها أن تتحكم بمصائر أبناء دولة أخرى اختارت الانفصال عنها بمحض إرادتها، وبالتالي استمرار استخدامهم في حالة (النفير) لخدمة أهداف جنوب السودان دون أن ينالوا منه شيئاً بعد تراجع الحركة عن مشروع السودان الجديد.
وعندما لم يكتب للانقلاب النجاح في جنوب كردفان وازداد الخناق على مجموعة الحلو استعجلت جوبا مالك عقار لتنفيذ الحلقة الثانية من مخطط استمرار التوتر في السودان، ببدء الحرب في النيل الأزرق بسيناريو يكاد يكون مشابها لما جرى في جنوب كردفان التي حاول الحلو لإخضاعها لسلطته في ساعات.
وبعد عودة عقار الأخيرة من جوبا في 25 أغسطس الماضي وخلافا للمرات السابقة لم يدل بأي تصريحات لوسائل الإعلام، وبدأ الإعداد للحرب بعد خمسة أيام، حيث ظل متنقلاً بين الكرمك وباو مع قياداته السياسية والعسكرية في الولاية التي أعدت معه تفاصيل الانقلاب على الوضع في الولاية التي يحكمها. وبعد يومين وخلال زيارته لحي الوحدة بالدمازين لتقديم واجب عزاء أبلغ بعض الحضور المقربين أن الحرب واقعة لا محالة ويجب أن يكونوا في وضع الاستعداد ولإقناعهم بالانحياز إلى ما يريد تنفيذه راح يبلغهم أن كافة المبادرات لحل مشكلتهم لم تنجح مع المؤتمر الوطني.
بعدها واصلت الحركة وضع تفاصيل ما تضمره في النيل الأزرق، وفي يوم وقفة عيد الفطر فرضت استخبارات الجيش الشعبي حظر التجوال في قرية خور البودي ( جنوب الكرمك ) من السادسة مساء حتى يتسنى لها ادخال ( 25 ) عربة لاندكروزر مسلحة من جمهورية جنوب السودان.
ومع اقتراب ساعة الصفر تنبه مالك عقار إلى ضرورة أن تنتقل المواجهات بين الجيشين (الحركة الشعبية والقوات المسلحة) لتكون بين المدنيين والقوات المسلحة لتأخذ الحرب منحى يضمن استمرارها، لذلك خاطب الشباب خلال احتفال رياضي حضره بمدينة الرصيرص ووجههم بالاستعداد لما أسماه الحالة الطارئة القادمة. وظن أنه يملك لهم ضمانات المساندة عندما قال إن قواته جاهزة لأي طارئ. لكن المواطنون وشريحة الشباب التي عوّل عليها عقار لم تخرج معه لمحاربة القوات المسلحة لإدراكها عدم جدوى عودة الحرب من جديد في الولاية.
وقبل يوم من الأحداث شرعت الحركة الشعبية في ترحيل قادتها السياسيون والعسكريون لأسرهم بمناطق الأنقسنا حتى تكون بمنجى عن الموت والخراب رغم أن ضحيته سيكونوا غيرهم من المواطنين.
وفي الساعة الثالثة ظهراً من نفس يوم إشعال شرارة الحرب بالنيل الأزرق غادر مالك عقار برفقة وزراء الحركة الشعبية وكبار قياداته العسكريين العاصمة الدمازين إلى الكرمك، وقام بعدها بإصدار توجيهاته بتحرك بقية القيادات العسكرية للحاق به وكذلك القوة الموجودة في يابوس التي تقدر بثلاثة كتائب.
عندها فقط تأكدت مخاوف وشكوك الجهات الرسمية التي كانت تراقب وترصد ما حدث بدقة، بل وكانت تتحسب له خاصة وأن عدداً من سيارات الرينو دخلت الدمازين وهي تحمل كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر. كما كانت هناك تحركات واضحة بواسطة سيارات تتبع لاستخبارات الحركة الشعبية لاستدعاء أفرادها خاصة المتواجدين بحي الملك، تبعتها سيارة لاندكروزر محملة بالأسلحة والذخائر بقيادة المقدم بدرالدين و(8) أفراد حراسة لتقوم بإخراج أسرة العميد من المدينة.
عند التاسعة مساء بدأ الفصل الأول للأحداث بالدمازين بالتزامن مع احتفالات أقامها عقار للجيش الشعبي بالكرمك تم خلالها تسليم أسلحة ومهمات جديدة وذلك بهدف رفع الروح المعنوية للجنود. وإصدر العميد الجندي سليمان قائد القوات المشتركة تعليماته بانسحاب أفراد الحركة في الشرطة المشتركة بعدد من البوابات، من بينها المدخل الجنوبي لمدينة الدمازين الذي تحرك إليه برفقة ثلاث عربات لاندكروزر رفضت التوقف أمام البوابة الرئيسية كما تقتضي الإجراءات المتبعة، وعندما حاول أفراد المدخل إيقافها فوجئوا بإطلاق النار عليهم بكثافة وجرح اثنين منهم. وتحركت سرية مشاة سيراً على الأقدام إلى دندرو والارتكاز على مسافة خمسة كيلومترات من الشارع الرئيسي.
واستمر التصعيد بقيام قوة الجيش الشعبي بحي النهضة في العاشرة وعشر دقائق بقصف قيادة الفرقة مما أدي لإصابة (7) أفراد ومن ثم محاولة الهجوم عليها بالتزامن مع هجمات على محطات أولو وأم درفا، وأخرى على مواقع القوات المسلحة في دندرو ومحطة ود الماحي ومينزا والتعلية. وفي الثامنة من صباح اليوم الثاني حاولت قوات الجيش الشعبي الهجوم على موقع القوات المشتركة في مدينة قيسان لكنها فشلت بعد أن تم صدها.
ورغم أن الحركة الشعبية حاولت استخدام عنصر المفاجأة إلا أنها لم تكن تدرك أن القوات المسلحة قامت بقراءة كل الخطوات التي سبقت محاولة الانقلاب وهو ما مكنها من السيطرة على الأوضاع في نفس اليوم واتخاذ الإجراءات التي تمكنها من حماية المواقع المختلفة. فقد تبدل الحال وصار المهاجمون في وضع المطاردين وتم الكشف عن العشرات ممن شاركوا في السيناريو الذي كتب له الفشل. أما منزل عقار الذي كان جزءاً من الخطة بمشاركة حراسه في الأحداث فأنه أصبح مزاراً للمواطنين وشاهداً على قيادة نزعت عن نفسها تاج المسؤولية لتستبدله بقبعة انقلاب مات في مهده.
http://smc.sd/news-details.html?rsnpid=23421
https://army.alafdal.net/t31956-topic