المبحث الخامس
من الحرب إلى السياسة والنتائج
أولاً: في مجلس الأمن
أصدر مجلس الأمن، يوم 22/10/1973،القرار ذا الرقم 338. وفيه دعا الأطراف المتحاربة إلى وقف إطلاق النار، وإنهاء جميع الأعمال العسكرية، في مدة لا تتجاوز 12 ساعة، من لحظة صدور القرار، وفي المواقع التي تحتلها قوات الأطراف المتحاربة. كما دعا تلك الأطراف إلى البدء بتنفيذ قرار مجلس الأمن ذي الرقم 242، والمؤرخ في 22/11/1967، بجميع أجزائه، وإلى البدء بمفاوضات فيما بينها، تحت الإشراف الملائم، بهدف إقامة سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط.
قبلت مصر وإسرائيل القرار. أمّا سورية، فقد قبلته مع التأكيد "أن فهمها للقرار يرتكز إلى:
1. الانسحاب الإسرائيلي الكامل من جميع الأراضي المحتلة في يونيه 1967، وما بعد.
2. ضمان الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، وفقاً لقرارات الأمم المتحدة، وعلى أن يلتزم الجانب الآخر بتنفيذ القرار المشار إليه" .
لم توقف إسرائيل القتال. وهو ما دعا مجلس الأمن إلى إصدار قرار ثانٍ (339 - 23/10/1973)، أتبعه بقرار ثالث (340 - 25/10/1973)، طلب فيه الالتزام بوقف كامل وفوري لإطلاق النار، وانسحاب القوات إلى المواقع التي كانت تحتلها في الساعة 16.50 (بتوقيت جرينتش) من يوم 22/10/1973. وقرر تشكيل قوة طوارئ، لمراقبة تنفيذ وقف إطلاق النار، وعودة القوات إلى مواقعها، والحيلولة من دون تجدد القتال[1].
ونظراً إلى مواصلة إسرائيل عملياتها الحربية، وفشل مساعي الضغط عليها لتنفيذ قرارات مجلس الأمن، في الفترة من 22 إلى 25/10/1973، طلبت مصر من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي التدخل عسكرياً، لإجبار إسرائيل على تنفيذ قرارات مجلس الأمن. فردّت الولايات المتحدة الأمريكية على الطلب المصري، في 24/10، بأنها "لا تعتزم إرسال قوات إلى الشرق الأوسط"، وتأمل "ألاّ ترسل دولة أخرى، من خارج المنطقة، قوات إلى الشرق الأوسط".
تحرك الاتحاد السوفيتي لمواجهة هذا الوضع الخطير. وتمثل حركه في ثلاثة تدابير:
1. ساند المطلب المصري بتدخل قوات سوفيتية وأمريكية لفرض وقف القتال.
2. رفع، في 23/10، درجة استعداد الفرق المحمولة جواً (7 فرق)، كما وضع بعض وحدات الإمداد في أوكرانيا في وضع الاستعداد، وأنشأ قيادة خاصة لهذه القوات المحمولة جواً.
3. وجّه الرئيس السوفيتي، ليونيد بريجينيف Leonid Brezhnev ، رسالة إلى الرئيس الأمريكي، نيكسون، في 24/10/1973، اقترح فيها إرسال قوات عسكرية أمريكية ـ سوفيتية مشتركة، لضمان تنفيذ وقف القتال، وتنفيذ التفاهم الأمريكي ـ السوفيتي، في شأن تنفيذ قرارات مجلس الأمن، الخاصة بتسوية الصراع في الشرق الأوسط، دون إبطاء. وقال بريجينيف في رسالته، إنه "إذا استحال على الولايات المتحدة الأمريكية التحرك مع الاتحاد السوفيتي بشأن هذه المسألة، فإن الاتحاد السوفيتي سيجد نفسه مواجهاً، وبإلحاح، بضرورة النظر في أمر اتخاذ خطوات ملائمة، من جانب واحد، إذ إن السوفيت لا يستطيعون السماح بغطرسة إسرائيل". ومن الجدير بالذكر، أن الاستنفار السوفيتي لم يشمل أي قوة نووية.
من أجل مواجهة هذه التدابير السوفيتية، اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية، في 25/10، تدابير مضادة ، منها:
أ. استنفار جميع القوات العسكرية الأمريكية، التقليدية والنووية، في جميع أنحاء العالم، وتحديد نوع الاستنفار بالدرجة الثالثة[2].
ب. إصدار الأوامر إلى الفرقة 82 المحمولة جواً، وحاملتَي الطائرات، روزفلت وكيندي، بالتحرك سريعاً نحو الشرق الأوسط.
ج. إبلاغ مصر رفض الولايات المتحدة الأمريكيـة تشكيل قوة أمريكية ـ سوفيتية مشتركة، وتحذيرها من ظهور أي قوة سوفيتية في مصر، إذ قد يؤدي ذلك إلى مقاومة تلك القوة على أرض مصر نفسها.
شمل الاستنفار الأمريكي جميع القواعد الجوية الرئيسية في العالم، التابعة للقيادة الجوية الإستراتيجية، والقواعد البحرية، التابعة للأسطوليْن السادس والسابع، والأسراب الجوية، التابعة لقيادة الحرس الوطني في الولايات المتحدة الأمريكية، وقيادة قاذفات القنابل الإستراتيجية، التي تملك 516 قاذفة ثقيلة، ووحدات الصواريخ العابرة للقارات، التي تملك 1054 صاروخاً، والقوات البحرية، بغواصاتها الواحدة والأربعين، المحملة بصواريخ موجَّهة إستراتيجية بعيدة المدى برؤوسها النووية. ونتيجة لذلك، وُضع مليونا جندي من القوات الأمريكية في العالم في حالة التأهب .
كثرت الاتصالات بين موسكو وواشنطن، وخفت حـدة التوتر بين الدولتين العظميين، في إثر توقف القتال نهائياً، في الجبهتين المصريـة والسوريـة. وبذلك، أمكن الدولتين أن تنقـذا سياسة الانفراج الدولي من أزمة، كادت تعصف بها، وهي ما زالت بعدُ في أولى مراحل عمرها.
ثانياً: الإستراتيجية العربية لما بعد الحرب
في إثر حرب 1973، وفيمـا كانت المباحثات العسكريـة المصريـة ـ الإسرائيليـة، تعقد في "خيمة الكيلومتر 101"، عقد الملوك والرؤساء العرب مؤتمراً في الجزائر (مؤتمر القمة السادس، 26-28/11/1973)، ووضعوا إستراتيجية جديدة للعمل العربي المشترك، تعالج مرحلة ما بعد حرب 1973، وتعتمد المبادئ التالية[3]:
1. التحرير الكامل لجميع الأراضي العربية المحتلة في عدوان 1967، وتحرير مدينة القدس العربية.
2. الالتزام باستعادة الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.
3. قضية فلسطين هي قضية العرب جميعاً، ولا يجوز لأي طرف عربي التنازل عن هذا الالتزام.
4. تضامن جميع البلدان العربية مع مصر وسورية والشعب الفلسطيني في النضال المشترك، تحقيقاً للأهداف العربية العادلة.
5. تقديم جميع وسائل الدعم العسكري والمالي إلى جبهتَي القتال المصرية والسورية، تعزيزاً لقدراتهما العسكرية على خوض معركة التحرير، ومواجهةً لما يتلقاه العدو من معونات ضخمة ومساعدات غير محدودة.
6. دعم المقاومة الفلسطينية بكل الوسائل الممكنة، لتأمين دورها الفعال في المعركة.
ثالثاً: فصل القوات في الجبهة المصرية
في إثر إصدار مجلس الأمن قراراته، شرع وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، هنري كيسنجر، يتنقل ما بين القاهرة والقدس المحتلة، من أجل الفصل ما بين القوات المصرية والإسرائيلية، وتوفير العوامل والظروف اللازمة لتسوية ما شاعت تسميته "أزمة الشرق الأوسط". وهكذا بدأت مباحثات عسكرية مصرية ـ إسرائيلية، تهدف إلى معالجة المشكلات المباشرة والعاجلة الناجمة عن الحرب، وذلك في الخيمة المقامة عند الكيلومتر 101، على طريق القاهـرة ـ السويس (أي في نقطـة تبعد عن القاهرة 101 كم)، في حضور قائد قوات الطوارئ الدوليـة. واستمرت الاجتماعات من 28/10 إلى 11/11/1973، اتفق في ختامها الطرفان على النقاط الست التالية:
1. توافق مصر وإسرائيل على الاحترام الدقيق لوقف إطلاق النار الذي أمر به مجلس الأمن.
2. يوافق الطرفان على مناقشة موضوع العودة إلى مواقع 22 أكتوبر، فوراً، في إطار الموافقة على الفصل بين القوات المتحاربة.
3. تتلقى مدينة السويس، يومياً، إمدادات من الغذاء والماء والدواء، ويتم ترحيل جميع الجرحى المدنيين في مدينة السويس.
4. يجب ألاّ تكون هناك أي عقبات أمام وصول الإمدادات غير العسكرية إلى الضفة الشرقية.
5. نقط المراقبة الإسرائيلية على طريق القاهرة ـ السويس، تستبدل بها نقط مراقبة من الأمم المتحدة. في نهاية طريق السويس، يمكن لضباط إسرائيليين الاشتراك مع الأمم المتحدة في الإشراف على أن الإمدادات، التي تصل إلى القناة، هي ذات طبيعة غير عسكرية.
6. بمجرد تولي الأمم المتحدة نقط المراقبة، على طريق القاهرة ـ السويس، يتم تبادل جميع الأسرى بمن فيهم الجرحى".
تواصلت المباحثات للاتفاق على إجراءات تنفيذ بنود الاتفاق، حتى يوم 29/11/1973. وفي أثناء ذلك، تم تبادل الأسرى بين الطرفين، ما بين يومَي 15 و 22/11/1973. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية تبذل المساعي لعقد مؤتمر جنيف للسلام، وفق ما نص عليه قرار مجلس الأمن ذو الرقم 338. وحدد يوم 21/12/1973 موعداً لالتئامه، برئاسة مشتركة من وزيري خارجية الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، واشتراك الأمين العام للأمم المتحدة. وحضرت المؤتمر وفود من مصر والأردن وإسرائيل. ولم تحضره سورية، لأنها رأت أن الظروف، التي ينعقد فيها المؤتمر، ستؤدي إلى بحث أمور جزئية، وتمييع القضية الأساسية.
استمر المؤتمر يومين، وفشل في الاتفاق على أسُس أو مبادئ أو أفكار تؤدي إلى فتح السبيل إلى الهدف الأساسي من انعقاده، وهو "إقامة سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط"، بحسب ما ورد في القرار 338. وكل ما وصل إليه المؤتمر هو الاتفاق على الشروع في مباحثات عسكرية بين مصر وإسرائيل، تهدف إلى فصل قوات الطرفين، ولا سيما أن إسرائيل كانت تراوغ في تنفيذ الانسحاب، الذي اتفق عليه في مباحثات خيمة الكيلومتر 101 (يوم 11/11/1973).
وهكذا شرع وفدان عسكريان، مصري وإسرائيلي، يتباحثان، في المدة بين 26/12/1973 و9/1/1974. واقتصرت المباحثات فيها على دراسة التدابير العملية لانسحاب القوات الإسرائيلية جزئياً، على جبهة قناة السويس. ثم توقفت المباحثات، بعد أن أصرّ الوفد الإسرائيلي على أن تنسحب مصر من الضفة الشرقية للقناة، على مراحل، مقابل انسحاب إسرائيل من الضفة الغربية، وأن تصدر القاهرة، قبل الانسحاب الإسرائيلي، إعلاناً رسمياً بإنهاء حالة الحرب، وأن يعود المهجّرون المصريون إلى منطقة القناة. في حين أصرّت مصر على أن تنسحب إسرائيل من الضفة الغربية، إضافة إلى الانسحاب 30 كم من الضفة الشرقية، إلى داخل سيناء.
أدّى توقف المباحثات العسكرية إلى قيام وزير الخارجية الأمريكية بجولة جديدة بين مصر وإسرائيل، انتهت إلى اتفاق الطرفين على فك الاشتباك، والفصل بين قواتهما المسلحة. ووقّع رئيسا الأركان، المصري والإسرائيلي، الاتفاقية، التي تنظم ذلك، وشهـد التوقيـع قائد قوات الطوارئ الدولية، وذلك في 18/1/1974، في خيمة الكيلومتر 101. ونصت على انسحاب القوات الإسرائيلية من غربي القناة إلى مسافة تراوح بين 20 و30 كم شرقيها، في خلال 40 يوماً، في حين تحتفظ مصر بقوات محدودة في المنطقة، التي استعادتها في بدء الحرب، في خلال المدة من 6 إلى 15/10/1973، شرقي قناة السويس، والتي يراوح عمقها بين 8 و 12 كم، على أن تفصل بين قوات الطرفين منطقة بعرض 5 - 8 كم، تتمركز فيها قوات الطوارئ الدولية. وبذلك، بقى ممرّا متلا والجـدي داخل الخطوط الإسرائيليـة. قالت الاتفاقيـة أيضاً، في ختام موادها، إنها ليست اتفاقية سلام نهائي، بل هي "خطوة أولى صوب سلام نهائي، عادل، ودائم، طبقاً لبنود قرار مجلس الأمن رقم 338، وفي إطار مؤتمر جنيف".
في إثر توقيع الاتفاقيـة، توقفـت الاشتباكات على جانبي قناة السويس، وكانت، قبل ذلك، متقطعـة خفيفـة حيناً، وطويلة عنيفة حيناً آخر. وبدأت القوات الإسرائيلية، في 23/1/1974، بالانسحاب من غربي القناة. وانتهى هذا الانسحاب في 21/2، ليبدأ بعده الانسحاب الجزئي من شرقي القناة. وحينما حلّ يوم 4/3/1974، كانت القوات الإسرائيلية متمركزة على الخطوط، التي حددتها الاتفاقية.
لم يمضِ على اتفاقية فصل القوات سوى عام وثمانية أشهر، حتى عقدت مصر وإسرائيل اتفاقية ثانية، في 1/9/1975، اصطُلح على تسميتها "اتفاقية فك الاشتباك الثانية" أو "اتفاقية سيناء الثانية". وقد جاء في مادتها الأولى، "أن النزاع بينهما، مصر وإسرائيل، وفي الشرق الأوسط، لا يتم حلّه بالقوة المسلحة، وإنما بالوسائل السلمية". وعلى هذا، يتعهد الطرفان، في المادة الثانية، "بعدم استخدام القوة، أو التهديد بها، أو الحصار العسكري، في مواجهة الطرف الآخر".
رابعاً: فصل القوات في الجبهة السورية
ما أن تم توقيع اتفاقية فصل القوات بين مصر وإسرائيل في 18/1/1974، حتى وصل وزير الخارجية الأمريكية إلى دمشق، في 20/1، ليبحث إمكان تحقيق فصل مماثل على الجبهة السورية. وقد أبلغت سورية الوزير الأمريكي أنها "تقبل مثل هذا الترتيب، إذا كان مرحلة أولى للانسحاب الكامل من الأراضي العربية، ولضمان حقوق شعب فلسطين".
بدأت سورية اتصالات عربية ودولية، من أجل شرح غرضها هذا، خاصة من أجل استمرار استخدام النفط العربي كسلاح، ما دام الوضع العسكري على جبهة القتال يستدعي ذلك.
ومن بين مظاهر العمل العربي المشترك، في ذلك الحين، مؤتمر القمة المصغر، الذي ضم ملك المملكة العربية السعودية ورؤساء مصر وسورية والجزائر، والذي عقد في الجزائر، يومَي 13 و 14/2/1974. وقد ركّز الرئيس الجزائري، في خطاب الافتتاح، على موضوعَي حظر النفط، وفصل القوات في الجولان، إضافة إلى ما كان قد اتُّفق عليه، وهو أن المؤتمر سيُعنى بوضع صيغة موحدة لخطة العمل العربي، في المرحلة المقبلة. ومن بين ما قرره المؤتمر إيفاد وزيرَي خارجية مصر والمملكة العربية السعودية إلى باريس وواشنطن، للتأكيد أن الحظر النفطي لن يرفع، إلاّ إذا تم التوصل إلى فك الاشتباك على الجبهة السورية.
وصل وزير الخارجية السوفيتية إلى دمشق. وصدر، في 5/3/1974، بيان مشترك في إثر زيارته، أكد النقاط التالية:
1. المطالبـة بالانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي المحتلة.
2. ضمان حقـوق شعـب فلسطين.
3. ضرورة ربـط مسألة فـك الاشتباك في الجـولان بجـدول زمني للانسحاب الإسرائيلي من كل الأراضي المحتلة.
4. ضرورة مشاركة الاتحاد السوفيتي في الجهود المبذولة من أجل التوصل إلى حل في المنطقة.
رافق هـذا الموقف السوري المعلن تصاعد في الاشتباكات على الجبهة السورية، ضد إسرائيل، بين 13/3 و28/4/1974، هي ذروة حرب الاستنزاف بين الطرفين.
لم يصمد النفط العربي، كسلاح، في مواجهة الضغوط والوعود الأمريكية، فظهر الاختلاف في المواقف في شأن إلغاء حظر تصدير النفط إلى الولايات المتحدة الأمريكية في المؤتمر الذي عقده وزراء الدول العربية المصدرة للنفط، في فيينا (18/3/1974)، حيث قرروا، بالأكثرية، إلغاء الحظر، بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وامتد الخلاف إلى مجلس جامعة الدول العربية، الذي انعقد في تونس (25/3/1974)، وظهر اختلاف المواقف بين مصر وسورية. وإثر مؤتمر فيينا، واجتماع تونس، أعلنت سورية موقفها في شأن فصل القوات، ورفع حظر تصدير النفط، وهو موقف تلخصه النقاط الثلاث الآتية:
1. ضرورة تنفيذ قرارات مؤتمر الجزائر.
2. الاستعداد لفك الاشتباك على جبهة الجولان، في حال ضمان انسحاب إسرائيل من القنيطرة.
3. معارضة رفع حظر تصدير النفط إلى الولايات المتحدة الأمريكية قبل تعديل إسرائيل موقفها، وإعلان استعدادها للانسحاب من الأراضي المحتلة، واعترافها بحقوق شعب فلسطين.
عاد وزير الخارجية الأمريكية إلى دمشق، في 3/5/1974، وهي جولته الخامسة في المنطقة، ولبث 23 يوماً ينتقل ما بين سورية وإسرائيل وبعض الأقطار العربية، إلى أن تم الاتفاق على فصل للقوات في هضبة الجولان المحتلة. ووقعت اتفاقية فصل القوات في 31/5/1974، في جنيف، في إطار "مجموعة العمل العسكرية المصرية ـ الإسرائيلية لمؤتمر جنيف للسلام"، وذلك بانضمام ممثل عسكري سوري إلى الوفد المصري، وفي حضور ممثلي الرئيسين المشاركين في المؤتمر، الاتحاد السوفيتي والولايات المتحـدة الأمريكيـة، وممثل الأمين العام للأمم المتحـدة.
نصت الاتفاقية على الآتي:
1. أن تنسحب إسرائيل من جيب سعسع، المحتل في حرب 1973.
2. وأن تنسحب من مدينة القنيطرة، المحتلة في حرب 1967، إلى خط جديد، يقع على مسافة 300 م من المدينة.
3. وأن تنشأ منطقة فصل بين القوات، يراوح عرضها بين 500 و 4000 م، وتكون منزوعة السلاح، عدا أسلحة القوة الدولية، وتكون منطقة الفصل تحت السيادة السورية.
4. وأن تنشأ منطقتان أخريان على طرفَي منطقة الفصل، يكون عدد الأسلحة والقوات فيهما محدوداً.
5. وأن تنشأ قوة دولية تُدعى " قوة مراقبي الفصل، التابعة للأمم المتحدة "، مؤلفة من 1250 رجلاً، تتمركز في منطقة الفصل.
6. وأن يتم الانسحاب الإسرائيلي في خلال 20 يوماً، وتبادل الأسرى في خـلال 24 ساعة، بدءاً من تاريخ توقيع الاتفاقية.
7. إن هذه الاتفاقية ليست اتفاق سلام، بل هي خطوة نحو سلام عادل، ودائم، استناداً إلى قرار مجلس الأمن الرقم 338، الصادر في 22/11/1973.
توقف إطلاق النار على الجبهة، فور توقيع الاتفاقية، وأُنجز تنفيذها في أربع مراحل، كان آخرها في 26/6/1974. وانسحبت إسرائيل من جيب سعسع (551 كم2)، ومن مدينة القنيطرة، وقرية الرفيد، ومن 21 موقعاً محصناً (112 كم2)، وجميعها وراء الخط البنفسجي (أي خط وقف إطلاق النار قبل حرب 1973).
خامساً: قضية فلسطين على الصعيد الدولي
فتحت حرب 1973 الباب واسعاً أمام قضية فلسطين، لتعود ثانية إلى المحافل الدولية، بعد أن غيّبتها القوى المظاهرة لإسرائيل، واختصرتها في بنود جدول أعمال الجمعـية العامة للأمم المتحـدة، تحـت عناوين شؤون اللاجئين، وغيرها من البنود ذات الطابع الإنساني. ولقد عادت القضية إلى منظمة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى، في العام 1974، على أساس أنها قضية شعب، اغتُصب وطنه، وسُلبت حقوقه. ودخلت منظمة التحرير الفلسطينية الأمم المتحدة، في مركز المراقب، لتكون الناطق باسم الشعب الفلسطيني، والمدافع عن وطنه وحقوقه.
ولم تبلغ قضية فلسطين هذا المنعطف المهم في تاريخها الطويل، إلا بعد أن اعتدل ميزان القوى الدولي، وانتقلت دول كثيرة من موقف الحياد، أو اللامبالاة، إلى موقف تأييـد حقوق الشعب الفلسطيني. كما انتقلت دول عدة، ذات وزن دولي، من موقف التأييد المطلق لإسرائيل، إلى موقف الحياد، أو موقف خفض تأييدها لإسرائيل، وإدراكها عدالة قضية فلسطين.
ولقد أدّى ذلك كله إلى زيادة محاصرة إسرائيل، على الصعيد الدولي، وعزلها بقطع العلاقات الدبلوماسية، وغيرها من العلاقات بها. وكمَثَل نضربـه على ذلك، ما جرى في أفريقيا، في إثر حـرب 1973. ففي المدة بين 9/10 و 29/11/1973، قطعت عشرون دولة أفريقيـة علاقاتها الدبلوماسية بإسرائيل، إضافة إلى تسع دول أخرى، كانت قد قطعت علاقاتها بها، قبل ذلك. ولقد انتقلت جميع هذه الدول من موقع التأييد لإسرائيل، أو موقع الحياد، بالنسبة إلى الصراع العربي ـ الإسرائيلي، إلى موقع تأييد حقوق الشعب الفلسطيني، ومناصرة قضية فلسطين في المحافل الدولية.
ويمكن القول إن حرب 1973 أعادت فرز دول العالم، وأعادت تصنيفها، بالنسبة إلى قضية فلسطين، فتغيرت خريطة المواقف الدولية، بعد تلك الحرب، لمصلحة القضية عما كانت عليه قبلها.
سادساً: المفهوم الإستراتيجي وهدف الحرب
يمكن الاستنتاج من مختلف المصادر، التي أرَّخت لحرب 1973، أن المفهوم الإستراتيجي، الذي بنَت القيادة المصرية عليه خطة، الحرب هو: "أن نقوم بعملية هجومية محدودة، تهدف إلى عبور قناة السويس، وتدمير خط بارليف، ثم التحول، بعد ذلك، إلى الدفاع. وبعد إتمام هذه المرحلة، يمكننا التحضير للمرحلة التالية، التي تهدف إلى احتلال المضايق، إذ إن المرحلة الثانيـة، سـوف تحتاج إلى أنواع أخـرى من السـلاح، وإلى أسلوب آخـر في تدريب قواتنا". ويتم اتخاذ الأوضاع الدفاعية على "مسافة تراوح بين 10 و 12 كم شرق القناة، وأن نبقى في هذه الأوضاع الجديدة، إلى أن يتم تجهيز القوات وتدريبها للقيام بالمرحلة التالية من تحرير الأرض".
لقد خضع تشكيل هذا المفهوم الإستراتيجي لعدة عوامل، بُني المفهوم على أساسها، منها هذان العاملان:
1. ضعف القوات الجوية، بالنسبة إلى القوات الجوية المعادية.
2. ربط العملية الهجومية ومداها الجغرافي بقدرة الدفاع الجوي على تعطيل فاعلية الطائرات المعادية، وتأثيرها في القوات البرية وسير العملية الهجومية، وذلك بتقييد المدى الجغرافي للتقدم البري في سيناء، بالحد الأمامي لمظلة الصواريخ المضادة للطائرات (سام)، على أساس إبقاء منصات وقواعد إطلاق الصواريخ متمركزة في الضفة الغربية للقناة. وقد كان الحد الأمامي للمظلة يبعد عن الضفة في سيناء، ما بين 10 و 12 كم. "وإن أي هجوم بري، يتجاوز هذه المسافة، قد يقود إلى عواقب وخيمة".
ولقد كان هذا المفهوم الإستراتيجي ذو العملية الهجومية المحدودة، حتى 10-12 كم شرقي القناة، موضع خلاف بين رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية، الفريق سعد الدين الشاذلي، ووزير الحربية القائد العام للقوات المسلحة، الفريق الأول محمد أحمد صادق. فقد كان القائد العام يرى، أن تكون العملية في مرحلة وحيدة، غير متقطعة، فلا تنتهي إلا بعد تحرير سيناء وقطاع غزة. في حين كان رئيس الأركان يؤيد تنفيذ العملية على مراحل.
ونظراً إلى الاختلاف الجذري بين المفهومين، وبعد مناقشات طويلة، اتفق على تجهيز خطتين هجوميتين، تستند كل منهما إلى مفهوم مختلف عن الآخر. فالخطة الأولى (واسمها الرمزي: العملية 41، التي أصبحت، في العام 1972، تحمل اسم: جرانيت 2)، تهدف إلى تحرير الأرض حتى منطقة المضايق، على أساس أن تتوافر لها قوات وأسلحة إضافية. أمّا الخطة الثانية (واسمها الرمزي: المآذن العالية)، فقد كانت تهدف إلى تحرير شريط، يراوح عمقـه بين 10 و 12 كم، على قـدر ما تسمح به مظلة الصواريخ المتمركزة في الضفة الغربية للقناة.
وحينما سُمي الفريق أحمد إسماعيل علي، في أكتوبر 1972، وزيراً للحربية وقائداً عامّاً للقوات المسلحة، طويت خطة "جرانيت 2" وأصبحت خطة "المآذن العالية" التي غدا اسمها خطة "بدر" هي الخطة الرسمية المعتمدة.
وما تجدر الإشارة إليه، حسب قول رئيس الأركان المصري، أن جانباً من المفهوم الإستراتيجي لخطة "بدر"، لم يعرف به الطرف السوري، الشريك في حرب 1973، وأن ما تناولته الاتصالات والمباحثات والوثائق المشتركة بين الجانبين، تضمّن " تطوير الهجوم، بعد العبور إلى المضايق". إن شهادة رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية في هذا الأمر تجذب الانتباه[4].
وهكذا أصبحت خطة "بدر" مؤلفة من مرحلتين: الأولى، هي العبور حتى 10-12 كم شرقي القناة. والمرحلة الثانية، هي تحرير الأرض حتى منطقة الممرات (المضايق). "ولكي نعمق الفاصل بين المرحلتين، فقد كنا عندما ننتقل من شرح المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية، نقول: وبعد وقفة تعبوية، نقوم بالتطوير كذا وكذا ... . إن التعبير العسكري " وقفة تعبوية "، يعني التوقف إلى أن تتغير الظروف، التي أدّت إلى هذا التوقف. وقد تكون الوقفة عدة أسابيع، وقد تكون عدة شهور أو أكثر. كنا نشرح ونناقش خطة العبور بالتفصيل الدقيق، ثم نمر مروراً سريعاً على المرحلة الثانية. لم أتوقع قط، أن يُطلب إلينا تنفيذ هذه المرحلة. وكان يثير هذا الشعور قادة الجيش، ويتظاهر بذلك، على الأقل، وزير الحربية".
وحينما بدأ التخطيط المشترك بين مصر وسورية للحرب، كان تحديد الهدف، وهو تحرير سيناء والجولان، أول ما اتُّفق عليه، وأساس خطة العمليات المشتركة. ونظراً إلى أن الأردن لن يشترك في الحرب على جبهته، وإنما قد يشترك على الجبهة السورية، فإن تحرير الضفة الغربية وقطاع غزة واستعادة حقوق الشعب الفلسطيني، يؤجلان إلى مرحلة ما بعد القتال، وهي مرحلة استثمار النصر العسكري وتطويره إلى نصر إستراتيجي، ذي أبعاد سياسية وجغرافية وقانونية ودولية.
وعلى هذا انطلقت الحرب. وفي حين رسمت العمليات الحربية في الجولان الملامح الرئيسية للهدف الإستراتيجي المقصود هناك، وهو تحرير الجولان، أعطت العمليات في سيناء ملامح هدف ذي مواصفات خاصة، تجسـد فـي العبـور العظيـم، وتهويـر خـط بارليف، واحتلال شريط من الأرض على الضفة الشرقية للقناة (10 - 15 كم)، يكون كافياً لصدّ الهجمات المضادة، بانتظار الاستعداد لتطوير الهجوم ومواصلته.
وهكذا، لم يكن الهـدف الإستراتيجي للقوات المسلحة المصرية، تحرير سيناء كلها، بعملية حربية ذات مرحلة واحدة، أو ذات مراحل متواصلة دون توقف، "وإنما خلق وضع جديد، يسمح بتحقيق هذا الهدف بالوسائل الدبلوماسية، اعتماداً على عوامل القوة العربية والدولية، التي يمكن لقرار الحرب أن ينقلها من وضع السكون إلى وضع الحركة الفاعل والمؤثر. بمعنى آخر، لم يكن الرئيس أنور السادات يتصور، ربما نتيجة لتقدير واقعي لموازين القوى العسكرية، أن يحقق العمل العسكري وحده الحد الأدنى للمطالب العربية، متمثلة في تحرير كافة الأراضي المحتلة عام 1967، وإنما كان العمل العسكري، كما هو الحال دائماً في الصراع الدولي، وسيلة من وسائل الصراع السياسي الشامل، أو فصلاً من فصوله، لتحقيق الأهداف المعلنة عن طريق إضافة القوى السياسية والكفاءة الدبلوماسية لعنصر القوة المسلحة"[5].
وفي جميع الأحوال، فإن المرجع الواضح في هذا الأمر، هو "التوجيه الإستراتيجي"، الذي أصدره الرئيس أنور السادات، بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، إلى القائد العام في 5/10/1973. فقد حدد هذا التوجيه الهدف بالنص التالي: "العمل على تحرير الأرض المحتلة على مراحل متتابعة، حسب نمو وتطور إمكانيات وقدرات القوات المسلحة". وكان هذا الهدف الإستراتيجي يوجب، بالضرورة: "إزالة الجمود العسكري الحالي، بكسر وقف إطلاق النار" و "تكبيد العدو أكبر خسائر ممكنة في الأفراد والأسلحة والمعدات". ويجري "تنفيذ هذه المهام بواسطة القوات المسلحة المصرية، منفردة، أو بالتعاون مع القوات المسلحة السورية" .
ولقد فهم القائد العام، أن هذا التوجيه ينص "صراحة على العمل على تحرير الأرض على مراحل متتالية، حسب نمو وتطور إمكانيات وقدرات القوات المسلحـة، حتى لا يفهم، مستقبلاً، أنه كان مطلوباً تحرير سيناء بالكامل".
سابعاً: التضامن العربي
أشاعت مرحلة ما بعد حرب 1967، وهي مرحلة الاستعداد لحرب 1973، جواً ذا صفات خاصة، أهمها إزالة التوترات من العلاقات العربية، وعودة الصفاء إلى تلك العلاقات، وانتهى ذلك التردد بين وحدة الصف ووحدة الهدف، وذلك بالتناوب بين العمل مع الأنظمة المماثلة، أو العمل بصيغة التضامن العربي الشامل.
وهكذا نُودي على وحـدة الصـف، ورُفعت راية التضامن، على أساس أن تقدِّم كل دولة عربية، باختيارها الحُر، ما تقدر عليه، من دون حرج أو إحراج، ولا نقد ولا تشهير.
ولقد سمحت هذه السياسة لمصر وسورية بالاضطلاع، في بيئة عربية مواتية، بمهام إعادة تنظيم القوات المسلحة وتدريبها وتسليحها، وتوفير الموارد اللازمة للمجابهة المقبلة.
وليس بعيداً عن الحقيقة، أن نقول إن حرب 1973، كشفت الغمة التي احتلت نفس الإنسان العربي، في إثر تراكم الهزائم، وانسداد أفق الأمل، وبخاصة بعد العام 1967. فقد كان الإنسان العربي مردوعاً، يمسك نفسه عن الأمل والتفاؤل، حتى إذا أطلت حرب 1973، وجد قواته المسلحة، تنتقل من ردة الفعل إلى الفعل، ومن الهزيمة إلى النصر.
وعلى الرغم من أن الحرب جاءت، في توقيتها على الأقل، مفاجأة للدول العربيـة الأخرى، سارعت هذه الدول، شعوباً وحكومات، كل بحسب إمكاناتها، إلى الإسهام في المعركة ضد الغزوة الصهيونية الاستعمارية. فقد برز التضامن العربي، في خلال المعركة وبعدها، بأجلى معانيه. فمن الدول العربية من دفعت ببعض قواتها المسلحة إلى المعركة، ومنها من أشهرت ثروتها النفطية كسلاح، حتى قيل، بحق، إن النفط دخل ميدان القتال، أول مرة، كسلاح مؤثر في السياسة الدولية. وأدركت إسرائيل، ومن ورائها الولايات المتحدة الأمريكية، أنها، أول مرة، منذ اندلاع الصراع العربي ـ الإسرائيلي، تواجه العرب أمة واحدة، ذات قضية مشتركة. وهكذا، كان من أهم عوامل الحرب، بعث فكرة التضامن العربي، بعدما أثبت أنه عنصر من أهم عناصر النصر في هذه الحرب.
ثامناً: التعبئة والحشد
سجلت حرب 1973 صفحـة متميزة في التاريخ العسكري العـربي المعاصر، حين اشتركت قـوات من عشر دول[6]، إلى جانب مصر وسورية، في القتال ضد إسرائيل، على اختلاف حجم المشاركة ومدتها.
لا ريب في أن المفاجأة والسرعة في تجهيز القوات العربية وإرسالها، من مسافات بعيدة، إلى الجبهتين، المصرية والسورية، أثّرتا في شكل المشاركة ونوعها وحجمها وقدرتها وكفاءتها تأثيراً كبيراً. فقد كان الأمر يحتاج إلى اتخاذ ترتيبات التعبئة والنفير، وتدبير وسائل النقل وإعداد الأسلحة والذخائر والأعتدة والتجهيزات الميدانية. أدت هـذه العوامل إلى إتمام الحشـد بوتيرة ضاغطة، وإلى وصول القـوات إلى الجبهتين بسرعة، وفي مراحل متتابعة، وإلى اشتراك القوات في القتال على أرض، لم يسبق لها أن قاتلت عليها، أو عرفت جغرافيتها العسكرية، أو صفاتها القتالية. وهكذا، وصل بعض القوات في أثناء القتال، في حين وصل بعضها الآخر بعد انتهاء القتال أو قبَيله. وكان لسرعة زجّ تلك القوات في العمليات، نتائج مضرة في بعض الأحيان، بسبب عوامل السرعة، وضغط الأحداث، وتطور القتال، وضعف التنسيق. ومن أمثلة ذلك، ما لقيته القوات العراقية، وهي في طريقها إلى الجبهة السورية، من صعوبات جمة، منها بُعد المسافة (ما يزيد على ألف كم)، وطبيعة الطريق الصحراوي، وعدم تيسّر العدد الكافي من ناقلات الدبابات، وهو ما دفع القيادة العراقية إلى سَوق عدد كبير من الدبابات سيراً على السلاسل. ولقد تحملت القوات العراقية هذه الصعوبات وتجاوزتها، مثل غيرها من القوات العربية، بشجاعة وحسن أداء. ويمكن القول، إن هذه القوات، ذات الحجم الكبير، والتدريب الجيد، والتسليح القوي، كان يمكنها أن تساهم في أداء دور حاسم في سير العمليات الحربية، لو أتيح لها أن تكون محشـودة قرب مسرح العمليات، قبل بدء القتال.
ويمكن القول، إن عدم تحقيق الحشد العربي، بكامل طاقاته وإمكاناته، في حرب 1973، كان السبب الرئيسي، الذي جعل استعادة إسرائيل عامل التفوق العسكري، أمراً ممكناً. أي أن التفوق الإسرائيلي جاء نتيجة مباشرة لعدم تحقيق التعبئة والحشد العربيين، في الزمان والمكان المناسبين. ويكاد يكون هذا القول شبه قانون، حكم مسار الصراع العربي ـ الإسرائيلي في ميدان القتال. وكانت حروب 1948 و 1956 و 1967، أمثلة على ذلك.
هذا عن التعبئة والحشد في الإطار العربي. أمّا في مصر وسورية، فقد استطاعت القيادتان تطبيق مبدأ "حشد القوة" بشكل جيد ووافٍ بالغرض. ففي إطار الكتمان والحذر، اتخذت الدولتان مجموعة من التدابير الهادفة إلى حشد ما يمكن حشده من طاقات ووسائل، وتوظيفها لمصلحة الحرب. كما استطاعتا، في إطار خداع العدو وأجهزة الاستخبارات الأجنبية وتضليلها، سَوق القوات والأسلحة والأعتدة إلى خطوط القتال الأولى في الجبهتين، استعداداً لبدء المعركة. وهـكذا تمكن البلدان، في مطلع الحرب، من التفوّق على العـدو في القوة البشريـة، والقـوة السلاحية. وهو ما سهّل على قواتهما دحر العدو في الأيام الثلاثة الأولى من القتال، والتقدم في تحرير الأراضي المحتلة. وفي خلال هذه المدة القصيرة، أنجزت القوات المصرية عبور قناة السويس، بعملية تُعَدّ من أنجح وأرقى العمليات في علم وفن الحرب، في التاريخ العسكري المعاصر، في حين اقتحمت القوات السورية دفاعات العدو الحصينة، واجتازت الموانع الصعبة، من خنادق عميقة وسواتر ترابية عالية وحقول ألغام، وعبَرت الجولان، كالسهم المارق، لتطل على الأرض المحتلة في فلسطين.
تاسعاً: التنسيق العسكري العربي
دخلت القوات العربيـة المعركة، ولكل منها مذهب قتالي، يختلف عن المذهب القتالي الخاص بالقـوات المصرية، أو السورية، أو القوات العربية الأخرى. ولم يكن هناك تنسيق مسبق، أو استطلاع مسبق لأرض المعركة، أو تمرينات أو تدريبات مشتركة، هيكلية أو قيادية (أي من دون وحدات)، على الأرض والخريطة وصندوق الرمل، وفي غرف العمليات. ومن مظاهر فقـدان التنسيق والتدريب المشـترك بين الجيوش العربيـة، التي برزت في حرب 1973، تلك الصعوبة في لغة التخاطب بين قادة القوات وضباط هيئات الأركان. فقد كان ضباط كل قوة، يتحدثون بمصطلحات عسكرية، مختلفة عن تلك التي يتحدث بها ضباط القوات الأخرى. وقد أثّر ذلك في وسائل الاتصال والقيادة والسيطرة على القوات، كما أثر في تنسيق التعاون التكتيكي بين الوحدات والقيادات.
عاشراً: قيادة مسرح الحرب
ثمة ظاهرة مهمة، أوضَحَتْها مسيرة المعارك في حرب 1973، وهي تخص القيادة العامة للقوات المسلحة الاتحادية (القوات المصرية والسورية والقوات العربية الأخرى، التي عملت في الجبهتين، بإمرة القيادتين المصرية والسورية). فقد كانت هذه القيادة الاتحادية قيادة تنظيم وتنسيق بين الجبهتين، ولم تكن واجباتها ومسؤولياتها في السيطـرة على الجبهـتين معاً، وفي قيـادة العمليات فيهـما معاً، واضحـة ومحـددة. ولهـذا، رأينا القيادة الاتحاديـة لا تعالج، في اليوم الثالث للقتال، شؤون قيادة العمليات الحربية في الجبهتين معاً، وفي آن واحد، على أساس أنهما مسرح حرب واحد، مثلما كان عليه التخطيط الإستراتيجي المشترك لخطة "بدر"، وانطلاق الحرب على الجبهتين في آن واحد، وفق أحكام تلك الخطة المشتركة. وتأسيساً على ذلك، يمكن تفسير "الوقفة التعبوية"، التي وقفتها القوات المصرية في سيناء، بعد العبور، في اليوم الثالث للقتال، تفسيراً عسكرياً، دون الأخذ في الحسبان العوامل السياسية، التي كانت وراء قرار "الوقفة التعبوية" هذه. فقد بدت القيادة العامة الاتحادية، يومذاك، وكأن مهمتها قيادة الجبهة المصرية، من دون أن تنظر إلى الجبهتيْن كمسرح حرب واحد. وحينما عادت القيادة العامة الاتحادية إلى معالجة تطور العمليات في الجبهتين، والتنسيق بينهما، على أساس أنهما مسرح حرب واحد، وانتهت الوقفة التعبوية (8-13/10/1973)، وأمرت القوات المصرية باستئناف الهجوم في 14/10، كانت القوات الإسرائيلية، قد طوّرت هجومها الإستراتيجي المضادّ على الجبهة السورية، وحشدت قواتها الضاربة في سيناء، واستردت المبادأة الإستراتيجية. وكانت النتيجة أن صدّت القوات الإسرائيلية الهجوم المصري، ثم اندفعت، في هجوم مارق، إلى الضفة الغربية للقناة، حيث نشأت مشكلة " ثغرة الدفرسوار"، وما تلاها من تطورات.
وهكذا، تكرر في حرب 1973 ما عرفته حربا 1948 و 1967، وهو فقدان "القياد العربية الواحدة"، التي تتصف بالقدرة على:
1. التخطيط الإستراتيجي.
2. وتطبيق مبادئ الحرب، خاصة مبدأ الحشد والتكامل في العمل الميداني.
3. وقيادة مسرح الحرب كاملاً، وتوجيه قيادات مسارح العمليات.
[1] هذه المهام أوكلها مجلس الأمن إلى قوة الطوارئ، بقراره الرقم 341 (27/10/1973)، بناء على تقرير الأمين العام.
[2] ثمة درجات خمس لاستعداد القوات الأمريكية، أقصاها هي حالة الدفاع رقم 1، وهي تعني نشوب الحرب، وأدناها حالة الدفاع رقم 5. وتقع حالة الدفاع رقم 3 في منتصف السلَّم. وهي، من الناحية العملية، أعلى مراحل الاستعداد العسكري، في وقت السلم.
[3] مؤتمر القمة العربي السادس بالجزائر، القراران 46 و 47، بتاريخ 28/11/1973.
[4] جاء في مذكرات الفريق سعد الدين الشاذلي: `في خلال شهر أبريل 73، أخبرني وزير الحربية بأنه يرغب في تطوير هجومنا في الخطة، لكي يشمل الاستيلاء على المضايق. فأعدت له ذكر المشكلات المتعلقة بهذا الموضوع، وأنه لم يطرأ أي تغيير على الموقف، منذ أن ناقشنا هذه المشكلات معاً، في نوفمبر 72. وبعد نقاش طويل، أخبرني بأنه إذا علم السوريون بأن خطتنا هي احتلال 10-15 كم شرق القناة، فإنهم لن يوافقوا على دخول الحرب معنا، وأخبرته بأن في إمكاننا أن نقوم بهذه المرحلة وحدنا، وأن نجاحنا سوف يشجع السوريين على الانضمام إلينا في المراحل التالية. ولكنه قال إن هذا الرأي مرفوض سياسياً. وبعد نقاش طويل، طلب إليّ تجهيز خطة أخرى، تشمل تطوير الهجوم، بعد العبور إلى المضايق. وأخبرني بأن هذه الخطة، سوف تعرض على السوريين، لإقناعهم بدخول الحرب، ولكنها لن تنفذ، إلا في ظل ظروف مناسبة. ثم أضاف قائلاً: فلنتصور مثلاً أن العدو تحمل خسائر جسيمة في قواته الجوية، وهو عنصر التهديد الأساسي، وأنه قرر سحب قواته من سيناء، فهل سنتوقف نحن على مسافة 10-15 كم شرق القناة، لأنه ليس لدينا خطة لمواجهة مثل هذا الموقف ؟ لقد كنت أشعر بالاشمئزاز من هذا الأسلوب، الذي يتعامل به السياسيون المصريون مع إخواننا السوريين . ولكني لم أكن لأستطيع أن أبوح بذلك للسوريين. وقد ترددت كثيراً، وأنا أكتب مذكراتي هذه: هل أحكي هذه القصة أو لا. وبعد صراع عنيف بيني وبين نفسي، قررت بأن أقولها كلمة حق لوجه الله والوطن. إن الشعوب تتعلم من أخطائها. ومن حق الأجيال العربية القادمة، أن تعرف الحقائق، مهما كانت هذه الحقائق مخجلة`.
[5] ورد النص التالي: `وحدد الهدف العسكري، ليكون هزيمة تجميع قوات العدو الإسرائيلي في سيناء والهضبة السورية، والاستيلاء على مناطق ذات أهمية إستراتيجية تهيئ الظروف المناسبة لاستكمال تحرير الأراضي المحتلة بالقوة المسلحة، لفرض الحل السياسي العادل للمشكلة. وبناء على هذا الهدف الواضح، كان على القيادة العامة المصرية، أن تخطط للقيام بعملية هجومية إستراتيجية مشتركة، تُنفذ بالتعاون مع القوات المسلحة السورية، وتقوم فيها مصر بالاقتحام المدبر لقناة السويس، وتدمير خط بارليف، والاستيلاء على رؤوس كباري بعمق 10-15 كيلومتراً على الضفة الشرقية للقناة، وتكبيد العدو أكبر خسائر ممكنة، وصد وتدمير هجمات وضربات العدو المضادة، والاستعداد لتنفيذ أي مهام قتالية أخرى، تُكلف بها فيما بعد. أمّا سورية، فتشن الهجوم وتخترق دفاعات العدو بالجولان، وتجزئ تجميعه، وتدمر قواته، وتصل إلى خط: نهر الأردن ـ الشاطئ الشرقي لبحيرة طبرية`.
[6] هي: المملكة العربية السعودية، العراق، الكويت، الأردن، فلسطين، السودان، ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب.