اكاد اجزم ان الاغلبية ان لم يكن الجميع لايعلم ان للجيش المصري انتصارات في قارة امريكا الجنوبية وتحديدا في المكسيك ، نعم في المكسيك ، فدعونا نستمع الي القصة معا :
أراد نابليون الثالث ان يححق توازنا مع نفوذ الولايات المتحدة الامريكية - في خمسينيات القرن التاسع عشر - وذلك بتأسيس حكومة ملكية كاثوليكية في المكسيك تكون تابعة لفرنسا ، منتهزا فرصة اساءة حكومة المكسيك معاملة رعايا فرنسا وانجلترا واسبانيا ، فأتفق مع حكومتي انجلترا واسبانيا علي استخدام القوة المسلحة لاخضاع المكسيك عام 1861 .الامبراطور نابليون الثالث .ولكن مالبث الخلاف أن دب بين الدول الثلاث ، فسحبت انجلترا واسبانيا جنودهم من المكسيك في ابريل 1862 وبذلك انفردت فرنسا بالقتال في تلك البلاد .
ولما كان نابليون الثالث صديقا لخديوي مصر انذاك " سعيد باشا " فقد ارسل اليه يطلب معاونته بوحدة من الجنود المصريين ، فوافق سعيد وأرسل اليه أورطة ( كتيبة ) مؤلفة من 453 ضابطا وجنديا مكونا من أربع بلوكات ( سرايا ) تابعة للالاي ( لواء ) المشاة التاسع عشر ، وكان جنودها يتألفون من مصريين وسودانيين ، وغادرت الأورطة الأسكندرية في 8 يناير 1863 بقيادة البكباشي " مقدم جبر الله محمد " ، ووصلت الي ميناء " فيراكوز " اكبر مؤاني المكسيك في 23 فبراير .
االتقارير الفرنسية الاولي عن الأورطة المصرية :وجاءت التقارير الفرنسية الاولي تصف الأورطة المصرية بحسن الانضباط شكلا وسلوكا ، وأنها ذات استعداد عسكري يثير الاعجاب ، ولكن لأن أسلحتهم تخالف الأسلحة الفرنسية فقد تم استبدالها بأسلحة فرنسية علي أن تعاد اليهم اسلحتهم عند عودتهم لمصر ولما كان التفاهم مع الافراد صعبا بسبب اختلاف اللغة ، فقد تم الاستعانة ببعض الجنود الجزائريين للقيام بأعمال الترجمة بينهم وبين الفرنسيين ، ثم وصفت التقارير الرسمية قيام جنود هذه الأورطة بأعظم الخدمات نظرا لشجاعتهم وبراعتهم في اطلاق النار ، وبذلك أمكن الاعتماد عليهم في المناطق والمعارك التي لم يستطع الجنود الفرنسيين خوضها ، كما قامت الأورطة المصرية بصد الغارات التي كانت تشنها العصابات المكسيكية ضد قوافل الذخيرة والمخافر الامامية .
تأمين طرق المواصلات :وقبل مباشرة الأورطة لأعمال القتال قامت القيادة الفرنسية باعادة تنظيمها وتشكيلها وفقا للتنظيم الفرنسي وما كادت الأورطة تستقر في منطقتها حتي أصدرت لها القيادة الفرنسية الاوامر بتطهير الاراضي المكسيكية من عصابات الثوار التي كانت تعيث في البلاد فسادا وعندما حوصرت مدينة ( بوبيلا ) ثاني اهم المدن المكسيكية في الفترة من 23 يناير الي17 مايو 1863 بواسطة الثوار ثم سقطت وأستسلمت حاميتها المكونه من 26 جنرالا و 900 ضابط و 12000 جندي ، كان من الضروري الاحتفاظ بطرق المواصلات بينها وبين الساحل ، في حين كان الثوار المكسيكيون دائمي قطعها ، لذلك تم تكليف الاورطة المصرية بحراسة هذا الخط في منطقة الاراضي الحارة ، ويمكننا معرفة نتيجة اداء الجيش المصري لهذه المهمة في تعبير القائد الفرنسي العام في مدينة ( فيراكروز ) عن اعجابه بحسن اداء الأورطة المصرية في تقريره الذي قال فيه : " أنه يعجز عن مدي امتنانه وشكره لهولاء الجنود الذين يستحقون الاطراء والثناء من جميع الوجوه " .
صفات عسكرية نادرة :وفي مايو 1863 سقط قائد القوات المصرية البكباشي " مقدم حاليا " جبر الله محمد " اثر اصابته بالحمي الصفؤاء وخلفه في القيادة نائبه الصاغ " محمد الماس " ، وفي تأبين القيادة الفرنسية للضابط المصري المتوفي ذكر تقريرها الاتي : " لقد كان علي جانب كبير من دماثة الخلق والتحلي بصفات عسكرية نادرة ، كما كان محترما من من الجميع لسلوكه الحسن وقيامه بالواجب علي الوجه الأكمل وتقديره الكامل للمسئوليات الملقاه علي عاتقه " .
وفي 21 يونية 1863 أقيم في مدينة " فيراكروز " احتفال حضره القائد الفرنسي العام ومثلت فيه جميع السلطات العسكرية والمدنية وقد عهد الي الأورطة المصرية القيام بالتشريفات ، وبعد انتهاء الاحتفال قامت بالاستعراض في أكبر ميادين المدينة ، كما أقيمت لها احتفالات باهرة اخري في كافة المدن ، وتقديرا من القائد العام الفرنسي ( المارشال فوريه ) علي حسن الاداء القتالي لهذه الاورطة المصرية فيما خاضته من معارك كافأها علي ذلك في 28 سبتمبر 1863 بأن تؤلف منها ( كتيبة الجنود الممتازة ) ، كما منح افرادها علاوة نقدية ، وميزوا بشارات صفراء توضع علي أذرعهم ، الأمر الذي احدث اثرا عظيما في نفوس جنودها وضباطها ، ودل علي عظيم تقدير القيادة الفرنسية لهذه الأورطة وجدارة جنودها واستحقاقهم .
معركة 1863 ودور المصريين فيها :تدور هذه المعركة حول قطار للركاب والبضاعة كان يعمل به 50 فردا من كبار المسئولين المدنيين والعسكريين الفرنسيين ، قام من محطة ( فيراكروز ) متجها الي ( سوليداد ) وفي منتصف الطريق اكتشف سائق القطار أن عصابات الثوار خلعوا قضبان السكة الحديدية في منطقة تحيطها الجبال ، مما اضطر السائق الي التوقف بعد سقوط عدد من عربات القطار ، واستغل الثوار التوقف فهاجموه بالنيران من المرتفاعت التي كانوا يحتلونها من الجانبين مما هدد بوقوع كارثة " الموقف كان اعداد كبيرة من المكسيكيين فوق الجبال والقطار معطل وبه قوة صغيرة من المصريين والفرنسيين " كان يحرس القطار سبعة افراد فقط من الأورطة المصرية ، وبسرعة لافتة للنظر اتخذوا مواقع اطلاق نيرانهم داخل وخارج عربات القطار ، وكانوا متأهبين للاشتباك فور ظهور المهاجمين ودخولهم في مرمي اسلحة المصريين.
وقد أدت كثافة نيران الثوار المكسيكيين الي اصابة القائد الفرنسي " ليجيه " فحمله أحد الجنود المصريين الي داخل القطار واصيب المصري ايضا ، فحمله جندي مصري اخر ونقله هو والجندي المصاب الي داخل القطار واستمر الجنود المصريين المتبقيين وهم خمسة جنود في المقاومة واصطياد الثوار المكسيكيين المتفوقين عددا وتسليحا ، مما أوقع خسائر جسيمة في صفوفهم اضطرتهم الي ايقاف اطلاق النار والعودة الي مواقعهم في الجبال ، ولم يستطيعوا الاقتراب من القطار الا لمسافة لاتزيد عن بضعة امتار ومن وصل منهم قري القطار سقط قتيلا ، بفعل نيران المصرين ، وساد الهدوء الموقف حتي وصلت نجدة مصرية ايضا من مدينة " تيجريا " وقد سقط في هذه المعركة اثنان من الجنود المصريين واصيب اخران .
ووصف القائد العام الفرنسي دور المصريين في هذه المعركة في تقريره الي الحكومة المصرية قائلا : " لقد أبلي المصريين بلاء حسنا في هذه الموقعة رغم عددهم البسيط واظهروا من رباطة الجأش مايندر وقوعه ، وكانوا جميعا موضع اعجاب الضباط والجنود الفرنسيين الذين قاتلوا الي جانبهم ، وليس هناك أدني شك في أن النجاح الذي أحرزناه انما يرجع في معظمه الي تلك المقاومة الجديرة بالمدح والثناء لهولاء المصريين خصوصا بعد أن اتضح بعد ذلك أن عدد المكسيكيين الذين هاجموا القطار كانوا حوالي 300 فرد بين مترجل وفارس ، وقد تم ترقيتهم جميعا " .
جندي لاتسمح نفسه بالهزيمة :وفي تقرير اخر كتبه القائد الفرنسي الي وزارة الحرب عن معركة دارت في 12 يوليو 1864 وسادها قتال عنيف كتب يقول : " ان هولاء الجنود المصريين والسودانيين الذين لاتسمح نفوسهم بالهزيمة يستحقون كل ثناء .. واني لم أر في حياتي مطلقا قتالا نشب في سكون عميق وحماسة نادرة مثل ذلك الذي خاضه هولاء الجنود ، فقد كانت أعينهم وحدها هي التي تتكلم وكانت جرأتهم تذهل العقول وتحير الالباب حتي لكأنهم ما كانوا جنودا بل اسودا " .
اما في معركة 14 يوليو 1864 " بعدها بيومين اي لم يكن هناك فرصة للراحة " واثناء مطاردة فلول الثوار ذكر القائد الفرنسي في تقريره : " لقد قاتل المصريين والسودانيين قتالا باهرا دام ساعة واحدة ، وليس بين الضباط والجنود القدماء من لايذكر هذا القتال بالاكبار والاعجاب " .
وقام القائد الفرنسي بمنح ضابط الصف " عبد الله حسين باشة " وساما عسكريا للبسالة التي أبداها في تلك المعركة ، والجرح الذي أصيب به وعدد القتلي من الاعداء الذين أجهز عليهم وحده ، وكان عددهم ستة أمثال عدد الجنود المصريين الذين شاركوا في هذه المعركة .
وقد كتب قائد الأورطة الي الخديوي اسماعيل تقريرا بالمعارك التي خاضتها الأورطة ، فأرسل اليه كتابا في 24 اكتوبر 1864 أظهر فيه رضاءه التام عن شجاعة واداء ضباط وجنود الأورطة المصرية ، وأمر بترقيتهم جميعا والاستجابة لجميع مطالبهم فضلا عن مكافأتهم عند عودتهم الي مصر .
معارك عام 1865 :وقد وقعت خلال الفترة من 21 الي 24 يناير 1865 ثلاث معارك دفعة واحدة وكانت معارك كبيرة شاركت فيها الأورطة المصرية ببسالتها المعهودة ، عبر عنها القائد العام الفرنسي في تقريره الذي قال فيه : " من الصعب العثور علي كلمات يمكن التعبير بها عن بأس هذه الأورطة البارعة وصبرها علي الحرمان وتحمل المشاق وحميتها في اطلاق النيران وجلدها في السير فقد قام كل ضابط وجنوده بواجبه في هذه المعارك الثلاث خير قيام " وقد اصيب الملازم اول محمد سليمان بست طلقات برهنت علي اقدامه واستحق منحه رتبة " يوزباشي : نقيب حاليا " قبل أن يتوفي متأثرا باصابته .
وفي 2 مارس 1865 دارت رحي معركة اخري طاحنة أبلي فيها الجنود المصريين والسودانيين بلاء حسنا مما حدا بالقيادة الفرنسية الي الانعام بأوسمة علي ثلاثة جنود سودانيين ، واثنيين من المصريين ، وكان جنود الأورطة يحتلون منطقة متسعة من الاراضي 160 كم متر مربع في سبعة مواقع منفصلة عن بعضها بكل مالايزيد عن 30 جنديا ، ومع ذلك استطاعت أن تدافع عن هذه المنطقة ، ومنعت الثوار من اختراقها بل وبعثت الخوف والذعر في قلوبهم وفي ذلك يصف قائد المناطق الحارة أعمال الجنود المصريين في تقريره قائلا : (( يالها من يقظة ويالهم من رجال ابطال ، تملك حب القيام بالواجب افئدتهم ، فهم لاينفكون عن القيام به ، حتي أنه لم يحدث مطلقا أن بوغت يوما جندي منهم نائما او غائبا عن نوبة حراسته ، وهم من تلقاء انفسهم يضاعفون الحرس الي ثلاثة امثاله ليلا بدون اوامر ليأمنوا أي مباغتة من قبل المكسيكيين )) .
وفي أغسطس 1865 أرسل الملازم صالح حجازي علي رأس 20 جنديا من فيراكروز لتعزيز احد المواقع ، وبينما هو وجنوده سائرون أنقض عليهم 200 مكسيكي ، فلم تجزع هذه القوة الصغيرة وفتحت نيرانها بسرعة وكثافة علي المكسيكيين وأوقعتهم في حيرة وارتباك ، ثم انتهز المصريون فرصة ارتباك العدو والتجأوا الي احدي المغارات وعندما طوقها العدو صمدت في الدفاع عن موقعها وصدت هجمات المكسيكيين وحالت دون اقترابهم منهم حتي وصلت النجدة التي فكت الحصار عنهم .
وفي أكتوبر 1865 أرسلت سرية من الأورطة المصرية لمعاقبة قوة من الفرار يربو عددها علي ثلاثة اضعافها ، كانت قد هاجمت قطارا وذبحت المسافرين فيه من النساء والاطفال فمزقتها السرية المصرية واجبرت المتبقي من الثوار المكسيك علي الفرار بعد أن منيت بخسائر فادحة وقد قررت القيادة الفرنسية علي أثر ذلك الحادث انشاء مجموعة خاصة من الأورطة المصرية تكونت من 50 فارسا للقيام باستكشاف وحراسة خطوط السكة الحديدية وقد أظهرت شجاعة نادرة في مواجهة الثوار ومنعهم من مهاجمة القطارات .
وفي ديسمبر 1865 كلف القائد الفرنسي الأورطة المصرية بحماية امبراطورة المكسيك عند مرورها بمدينة " فيراكروز "في طريقها الي ولاية اليقطان ، فأتخذ قائد الاورطة اجراءات الحماية لموكب الامبراطورة بواسطة قوة حراسة مكونه من 300 جندي رافقوا القطار وعند وصولها أطلقت مدفعية الأورطة المصرية 101 طلقة مدفع اكراما لها ، وأقيم حرس شرف من جنود الأورطة لاستقبالها داخل القصر وقد أعربت الامبراطورة عند عودتها عن اعجابها ورضاها التام بشجاعة وحسن أداء الجنود المصريين لواجباتهم ، وقد دفع ذلك الامبراطور مكسيليان الي منح كل ضابط وجندي مصري علاوة اضافية ، فضلا عن منح الضباط أوسمة مكسيكية .
الجلاء عن المكسيك :في ليلة 25 يوليو 1866 هاجمت فرقة من الثوار المكسيكيين قوتها 200 فرد نقطة حراسة يحتلها 26 جنديا فقط من الأورطة المصرية ، ورغم أن الهجوم كان مفاجئا ورغم قلة عددهم مقارنة بضخامة اعداد المهاجمين فقد دارت معركة ضارية استمرت حتي الساعة الخامسة والنصف صباحا بعد أن أنسحب العدو تاركا في الميدان تسعة من القتلي وعددا كبيرا من الجرحي وقد علق قائد الاراضي الحارة علي هذه المعركة قائلا : " لقد استحقت هذه الأورطة المصرية جزيل المدح والثناء لسلوكها العجيب " .
وفي 15 اغسطس 1866 أقيم استعراض بمناسبة عيد الامبراطور نابليون الثالث فأنتهزت هذه الفرصة للاحتفال بتسليم جنود الأورطة المصرية الأوسمة الفرنسية التي أكتسبتها في عمليات مطاردة الاعداء ، وبحلول عام 1867 تقرر جلاء الجيوش الفرنسية بالمكسيك ، فأخذت الأورطة في الأنسحاب اعتبارا من 13 يناير 1867 وتم جلاؤها في 12 مارس من نفس العام .
محصلة المعارك في المكسيك :خاضت الأورطة المصرية-السودانية خلال الفترة التي قضتها في المكسيك من 23 فبراير 1863 الي 12 مارس 1867 أي اربع سنوات و 17 يوما ، 48 معركة حربية كبري ، ولم تهزم في أي معركة علي الاطلاق ، رغم أنها في جميع المعارك قابلت اعدادا مضاعفة لعدد افرادها ، أما المديح والثناء الذي وجه اليها من قبل القيادة والحكومة الفرنسية عقب كل معركة فهي كثيرة جدا ويصعب حصرها ، فعندما أبحرت الأورطة من فيراكروز في 12 مارس 1867 حرص الامبراطور نابليون الثالث علي استعراضها بنفسه ، حيث وصلت الي باريس في نهاية ابريل 1867 ، وكان يرافقه جاهين باشا وزير الحربية المصري وقتها ن وقام الامبراطور بنفسه بتوزيع الاوسمة والنياشين علي ضباط وجنود الأورطة.
الخديوي اسماعيل .ثم غادرت الأورطة فرنسا الي مصر ووصلتها في اواخر مايو 1867 وقد خسرت 140 شهيدا ، وقد استعرضها الخديوي اسماعيل في 28 مايو 1867 في فناء قصر رأس التين بالاسكندرية واصدر قرارا بترقية جميع ضباطها وجنودها .
المصدر :مجلة النصر العسكرية " العدد 872 : فبراير 2012 " .