الأمة الروسية هي إمبراطورية مترامية الأطراف
متعددة الشعوب والأمم والقوميات ، ومتعددة الأقطار والمذاهب . وأدرك
الرئيس بوتين أن القوة العارية أي القوة العسكرية هي وحدها التي تحافظ على
تماسك بلدان هذه الدولة ووحدة شعوبها . ولذلك عمد إلى تنشيط الصناعة
العسكرية للدولة لكي تحافظ على حيوية وقوة الأمة إيماناً منه بأن كل ما له
معنى في تيار الحياة قد نشأ عن النصر والهزيمة ، أي المحافظة على الروح
الذاتية للأمة وعلى شرف واحترام النفس والانتصار على التعري والتصدي
للأخطار قبل وقوعها ، وأن السيادة تتمثل في مضي العزيمة وسيطرة الإرادة
الفولاذية من أجل تحقيق سيادة الوطن ورفعته انطلاقاً من رؤية الماضي بعيون
الحاضر .
ولا ريب أن الرئيس بوتين نجح في تمزيق الماضي
بمنع تسرب أضواء المستقبل إلى كهف الماضي ببيروقراطيته الثورية الماركسية
، ليجعل روسيا اليوم قوة سياسية وعسكرية تقوم ، قبل كل شيء ، على وحدة
المعرفة والإرادة عندما أعلن عودة القاذفات الروسية البعيدة المدى
والقادرة على حمل أسلحة نووية إلى السماء في دوريات حراسة في أنحاء العالم
بعد توقف دام خمسة عشر عاماً . وقد حرّك هذا الإعلان مياه الحرب الباردة
الراكدة ، لكن المسؤولين الأمريكيين حاولوا إعطاء هذا الإعلان شكل النكتة
، حيث علقت الخارجية الأمريكية بقولها إنه ليس أكثر من إخراج "الطائرات
القديمة من سباتها" في إشارة إلى أساس أسطول روسيا المكون من طائرات
توبوليف 95 التي حلقت لأول مرة عام 1952 ، مما يعني أن هذه الحركة من
روسيا هي مجرد حركة استعراضية ، وليست حقيقية ، أي أن روسيا لا يمكنها أن
تنافس الولايات المتحدة في حكم العالم .
.
.
وبعيداً عن رأي الأمريكيين المتحاملين
والمصابين بعقدة التفوق ، فإن الواقع العالمي يؤكد أن روسيا قوة عظمى لا
تقل عظمة ومكانة عن القوة الأمريكية . وعلى الرغم من الفرق الهائل في
الإنفاق على الدفاع بين الدولتين ، حيث يبلغ الإنفاق الأمريكي السنوي 350
مليار دولار ، في حين أن الإنفاق الروسي لا يتعدى 60 مليار دولار ، فإن
ذلك ليس مقياساً بسبب الاختلاف في الاستراتيجية بين الدولتين .
فاستراتيجية روسيا دفاعية ، في حين أن الاستراتيجية الأمريكية هجومية .
فروسيا تبني نفسها عسكرياً وتطور أسلحتها بما يكفل لها تحقيق النصر في أي
حرب ، وهي لا تسعى إلى بناء أسطول حربي ضخم ونشره في بحار العالم. كما لا
تسعى إلى بناء قواعد عسكرية في أماكن ودول مختلفة . أما الولايات المتحدة
، فلديها أسطول حربي كبير مكوّن من عدة حاملات طائرات ، والكثير من السفن
الحربية والمدمرات والغواصات ، ولديها قواعد عسكرية منتشرة في مناطق كثيرة
. كما تقدَّم مساعدات عسكرية للدول التابعة لها لشراء مواقفها . ومن أجل
تمويل هذه الاستراتيجية الهجومية ، ينبغي أن ترصد لها مبالغ ضخمة في
الموازنة الأمريكية . وعادة ما تكون الاستراتيجية الهجومية وبالاً على
الدولة التي تتبناها لأنها تبدد ثروتها وتشتت جهودها . والمثال على ذلك هو
أن بريطانيا وفرنسا كانتا قبل الحرب العالمية الثانية تنتهجان استراتيجيات
هجومية . فكانتا تستعمران معظم بلاد العالم ، وكانت لهما أساطيل عسكرية
وقواعد في كل مكان . أما ألمانيا ، فكانت لها استراتيجية دفاعية ، وأخذت
تبني نفسها بصمت بعيداً عن الانجرار وراء الاستعمار ونشر الأساطيل
والقواعد العسكرية . وعندما اندلعت الحرب عام 1939، فاجأت ألمانيا العالم
بقوتها ، إذْ احتلت فرنسا في شهر يونيو من عام 1940 بضربة خاطفة استمرت
عدّة أيام فقط . كما أنها حطمت عظمة بريطانيا وأفلستها بالكامل ، وكانت
تلك الحرب هي التي أدّت إلى ظهور الولايات المتحدة كقوة عظمى بعد انهيار
بريطانيا وفرنسا . والآن تنتهج روسيا النهج نفسه الذي سارت عليه ألمانيا ،
فهي تعالج نقاط الضعف التي خلّفها انهيار الاتحاد السوفيتي السابق فيها .
ومن خلال النفط والغاز المتوافر فيها بكثرة ، تبني اقتصاداً متيناً ،
وتعيد بناء قوتها العسكرية ، وتحاول بشكل مدروس الإعلان عن وجودها . لكنها
لا تنجرّ إلى الاستعمار ولا تريد نشر أساطيل في بحار العالم كما تفعل
الولايات المتحدة . وهي تقوم بتحصين وضعها الداخلي ، ومن ثم محيطها
الإقليمي في آسيا الوسطى والقوقاز وأوروبا الشرقية لكي تتحول إلى قلعة
محصنة بالأسرار والمفاجآت . وبهذه الاستراتيجية الدفاعية ستصمد روسيا
طويلاً رغم كل المحاولات الأمريكية والغربية لتفكيكها وتدميرها . وهي
ستكسب ، في النهاية ، معركة السيادة على العالم ، لأنها وعت درس التاريخ
جيداً ، وأدركت أن تشتيت الجهود وتبديد الأموال هو تبديد للقوة وذهاب
للجاه والنفوذ . لكن هل ستتنازل الولايات المتحدة عن تعاليها ، وتعترف
بالقوى المبدعة في الأمة الروسية وقدراتها العسكرية والتكنولوجية
والإستراتيجية والنووية وقدرتها التدميرية ، وتدرك أن مزايدة قوة على أخرى
يشكل إخلالاً خطيراً بالتوازن الدولي ، بل يهدد قواعد وأطر عديد من
الأحلاف العسكرية ومن شأنه أن يتسبب في نهاية التاريخ ونهاية الإنسان .
.