كان الهجوم اﻹسرائيلي التالي على المواقع اﻷردنية شمال القدس، على طول المرتفعات الحادة المطلة على ممر القدس. أمر الجنرال نركيس اللواء العاشر الميكانيكي بالتوجه شمالا لاحتلال تل الرادار و من ثم التوجه شرقا لتطويق خطوط الدفاعات اﻷردنية عن القدس من الجهة اليمنى. كان المرتفع القريب من تل الرادار تحت حماية كتيبة من لواء المشاة الثاني (الهاشمي) و الكتيبة التي وصلت من اللواء 27 مشاة. و قد بنى اﻷردنيون تحصينات ممتدة على طول هذه المرتفعات، بسبب إدراكهم أهمية هذا الموقع ﻷي هجوم تطويق على القدس أو اندفاع على رام الله من طرف إسرائيل. و لكنهم رأوا المرتفعات حادة جدا اﻷمر الذي يجعل صعود الإسرائيليين مستحيلا و بالتالي تركوا تلك المواضع بدفاعات طفيفة.
هاجم اﻹسرائيليون الموقع من 5 نقاط. في بعض القواطع هجموا من جهات حصينة للجيش اﻷردني و واجهوا مشاكل كبيرة في ارتقاء المرتفعات العالية اﻹنحدار. حيث فقد اللواء العاشر دباباته العشر من طراز سنتوريون و عدّة دبابات شيرمان بسبب طبيعة الجرف و الأعطال الميكانيكية. و لكنهم في النهاية نجحوا في الوصول لنهاية المرتفع في كل من النقاط الخمسة. في البداية أطلق اﻷردنيون النيران بكثافة على القوات المهاجمة.و رغم ذلك، كان التصويب ضعيفاً و لم يؤد لغير أضرار طفيفة. و قامت الكتيبتان المدافعتان بالدفاع بقوة ضد الهجوم الأولي اﻹسرائيلي. و لكن اﻹسرائيليون كانوا دقيقي التصويب و استخدموا المناورة لتطويق المواقع المدافعة. و في عدة حالات، عندما كان اﻹسرائيليون ينجحون في اختراق النقاط اﻷردنية (حتى لو عن طريق الخطأ) كان الضباط اﻷردنيون يبادرون بالفرار. و قد أورد اﻹسرائيليون في تقاريرهم أنهم لم يأسروا أو يجدوا جثة ضابط واحد من رتبة أعلى من ملازم في هذه المعركة. هروب القادة أدى لنتائج متفاوته: بعض الوحدات انهارت و هربت، و بعضها بقيت في مواقعها تقاتل. و في كل اﻷحوال، و مثلما كان الحال في جبل المكبر، لم يقم اﻷردنيون بتصحيح مواضعهم أو شن هجومات معاكسة لمواجهة اﻹختراقات اﻹسرائيلية لخطوطهم. و بالتالي سقطت المرتفعات بسهولة و بسرعة. و سقطت الدفاعات اﻷردنية في تل الرادار خلال 20 دقيقة.
بعد احتلال تل الرادار، بات واضحاً أن المعركة بين اللواء 10 مشاة ميكانيك اﻹسرائيلي و اللواء 60 المدرع اﻷردني (بقيادة المقدم اﻷمير زيد ابن شاكر) باتت حتمية. حيث ادرك الطرفان أن حتلال تل الفول شمال القدس سوف يمكن اﻷردنيين من إيقاف أي تقدم اسرائيلي شمال و شرق المدينة. و عليه، صدرت اﻷوامر لكتيبة دبابات باتون بالصعود للتل بأسرع ما يمكن و صدرت أوامر لكتيبة دبابات إسرائيلية باحتلال نفس البقعة. و بسبب طبيعة الممرات الوعرة و اﻷعطال الميكانيكية، وصل من الكتيبة الإسرائيلية صباح 6 يونيو 6 دبابات شيرمان و 10 عربات نصف مدرعة. و كان اﻹسرائيليون على علم بتحركات اللواء 60 نحو التل و قصفوا الدروع اﻷردنية مرتين أثناء الليل. مما أدى لتدمير دبابتين و عدة عربات نقل، ولكن اﻷثر اﻷهم كان تعطيل حركة الكتيبة التي لم تصل التل حتى فجر 6 يونيو.
كان للأردنيين كل ميزة ممكنه في معركة تل الفول: في المعدات و اﻷعداد و الموقع. و رغم ذلك خسروا تلك المعركة. و صلت دبابات الباتون بعيد الفجر على التل و فتحت النيران على اﻹسرائيليين من موقع أعلى من موقعهم و أصابت عدة عربات نقل و أجبرت الباقي على اﻹنسحاب. الدبابات اﻹسرائيلية من طراز شيرمان ردت على إطلاق النار. و لكن على مسافة بعيدة نسبية أدّت إلى ارتداد طلقات مدافع ال 75 مم عن درع دبابة الباتون. استمر اﻷردنيون بالهجوم الذي كان يتقدم ببطء و تم تدمير دبابة شيرمان. و لاحظ قائد دبابة إسرائيلي أن اﻷردنيين قد أضافوا خزانات وقود على مؤخرة دباباتهم، و بدأ يطلق النار عليها من مدفع دبابته الرشاش مدمرا إحدى الدبابات. و بعد عدة محاولات نجح في تدمير أخرى مما أدى لانسحاب باقي الدبابات. وصلت باقي وحدات الكتيبة و تمركزت في قرية أسفل التل. و في نفس الوقت وصلت تعزيزات للجانب اﻹسرائيلي. و بسرية دبابات شيرمان و و سرية مشاة ميكانيكية تم الهجوم على الدروع اﻷردنية في تل الفول. معظم دبابات المتيبة اﻷردنية كانت في مواقع سليمة مع إسناد من المشاة المتموضعين في داخل مباني القرية أسفل التل، لكن اﻹسرائيلييون استخدموا جزءا من قواتهم لعمل قاعدة نيران للمشاغلة، بينما انطلق الباقي لضرب الجناح اﻷردني. و في معركة قصيرة خسر اﻷردنيون بين 4-6 دبابات و من ثم انسحبوا. بقيت القوات اﻷردنية (مشاة و دروع) في نفس مواقعها الدفاعية بدل محاولة المناورة لمواجهة اﻹسرائيليين أو حتى تعديل خطوط دفاعهم لمواجهة الهجوم من اﻷطراف. و كانت دقة تصويبهم قليلة، اﻷمر الذي أدى لوقوع خسائر طفيفة فقط في الجانب اﻹسرائيلي.
معركة اللطرون
قام اﻹسرائيليون بتجميع لواء معزز للهجوم على موقع اللطرون الذي كان مشكلة كبيرة لهم عام 1948. كان للأردنيين كتيبة في الموقع و كتيبة أخرى لحماية اﻷجناب. أراد اﻹسرائيليون عمل هجوم تمويه مكون من سرية استطلاع للواء على الجناح الجنوبي للموقع. اما باقي اللواء فكان دوره الهجوم على الجناح الشمال. بدات كتيبة مدفعية ضرب المواقع اﻷردنية في الساعة الثالثة صباح السادس من يونيو. و بعدها بساعة انطلق الهجوم اﻹسرائيلي التمويهي. و رغم أن وحدة اﻹستطلاع كانت خفيفة التسليح و لم تقم بالدفع في هجومها بقوة، انهارت الوحدات اﻷردنية حول اللطرون. استسلم العديد من الجنود و هرب الباقي. قامت أعداد قليلة فقط من اﻷردنيين بالدفاع عن الموقع و سقط الموقع خلال ساعتين. و هنا نقول سبحان الله، حاول اﻹسرائيليون طيلة شهرين في حرب عام 1948 اخذ هذا الموقع الحصين دون فائدة.
معركة القدس
في ليلة 5-6 يونيو، هاجم اﻹسرائيليون تل الذخيرة في منطقة الشيخ جراح للاتصال مع جبل سكوبس. خلال ال19 عام من حكمهم الضفة، حّول اﻷردنيون التل إلى قلعة، مع خنادق محصنة محيطة بالتل، دزينة مرابض مموهة، و حقول ألغام. استخدموا اﻷسلوب البريطاني في الدفاع من كل الجهات، و كل المرابض كان لها مواقع رمي تتداخل مع المواضع المجاورة. كان للأردنيين كتيبة معززة من اللواء الثالث للدفاع عن الشيخ جراح و تل الذخيرة، معززة بالمدافع. بدأ الهجوم اﻹسرائيلي الساعة 2:00 صباحاً. و قام بالهجوم اللواء المظلي 55 و سرية دبابات شيرمان مدعوم بالمدفعية. كان الهجوم تنقصه الروية في التخطيط و عابة ضعف التحضير و تردد الضباط في اتخاذ القرارات اﻷمر الذي أبقى المظليين تحت مرمى النيران اﻷردنية (الدقيقة هذه المرة) بينما كان الضباط مترددين بين شن الهجوم في الليل أو في الصباح.
أخيراً استلم المظليون التعليمات بالهجوم و كان الهجوم على شكل تعرض أمامي على تل الذخيرة و الشيخ جراح. كان اﻷردنيون مستعدون بشكل جيد و حاربوا بعنف. كانت نيرانهم دقيقة و أدت ﻹصابات كثيرة في الإسرائيليين أثناء عبورهم المنطقة الحرام بين اﻷلغام اﻷردنية و اﻷسلاك الشائكة. في النهاية دفع اﻹسرائيليون ووصلوا القاعدة الجنوبية لتل الذخيرة و من هناك بدأ التقدم شمالا نحو الدفاعات اﻷردنية على سفح التل. حارب اﻷردنيون بمنتهى الشجاعة دون أدنى تراجع. و بسبب التصميم اﻷردني، و حسن التصويب، و التصميم الممتاز للخنادق، أوقعوا خسائر كبيرة في اللواء المظلي. و لكن، مرة أخرى، لم يتم تغيير مواقع القوات او اتجاه التصويب لتعزيز المواقع التي قام اﻹسرائيلية باختراقها، و لم يقوموا بأي هجوم مضاد. بل على العكس، تمسكوا بمواقعهم بعناد - حتى عندما كانت في اﻹتجاه الخاطئ للهجوم اﻹسرائيلي. إضافة لذلك، كانت المدفعية اﻷردنية فعالة فقط في الرماية على اهداف محددة مسبقا، وبالتالي كان لها تأثير عند مرور الوحدات اﻹسرائيلية في المنطقة الحرام فقط. فرق المدفيعة الصغيرة (المورتر) كانت مرنة بشكل كاف و اثبتت فعالية طوال المعركة، لكن تأثيرها محدود بسبب عدم تحرك المشاة من أماكنهم مع تطور اﻷحداث. فقط عندما بدت النهاية قريبة و حتمية قام قائد السرية اﻷردني بهجوم معاكس باﻹحتياطي الباقي. و هذا الجهد الضعيف ادى فقط لتأخير اﻹسرائيليين لفترة وجيزة سمحت للقائد باﻹنسحاب قبل أن تطوق القوات اﻹسرائيلية الهجوم. في نهاية الصباح، خسر اﻷردن تل الذخيرة و كانت خسائر اﻷردن 106 قتيل و 100 جريح، أما خسائر إسرائيل فكانت 50 قتيل و 150 جريح.
أدى سقوط تل الذخيرة إلى تساقط المواقع اﻷردنية حول البلدة القديمة. تفككت الوحدات المدافعة عن الشيخ جراح و هربت عند مهاجمتها من المظليين اﻹسرائيليين. حيث قاموا ببعض المقاومة عندما كان اﻹسرائيليون في بداية الهجوم، أي عند حقول اﻷلغام و اﻷسلاك الشائكة ثم ما لبثوا ان تركوا مواقعهم قبل أن يقترب اﻹسرائيليون منها. اندفع اﻹسرائيليون في الثغرة و اتجهوا نحو القدس الشرقية محاولين التقدم شرقا لحصار المدينة القديمة من كل بواباتها. قام بعض الجنود اﻷردنيون بجهود فردية للصمود في هذه المنطقة بينما هرب الباقي. اضطر اﻹسرائيليون للتقدم ببطء و حذر ﻹخلاء المنطقة من القناصة، و الحواجز، و الخنادق. لكن المقاومة اﻷردنية كانت فردية و غير منظمة اﻷمر الذي ادى فقط لإبطاء اﻹسرائيليين دون إيقافهم.
مع حلول صباح 6 يونيو كانت المبادرة مع اﻹسرائيليين كليا حول القدس، و لم يكن امام الوحدات اﻷردنية فيها أكثر من تعطيل و إبطاء التقدم اﻹسرائيلي. معظم المدفعية اﻷردنية على التلال الشرقية للمدينة تم إسكاتها من الطيران اﻹسرائيلي. و بدأت القوات المظلية اﻹسرائيلية التقدم شرقا عبر الحائط الشمالي للبلدة القديمة. تمتع القناص اﻷردنيون بدقة الرمي و أحدثوا خسائر إضافة ﻹبطاء سرعة التقدم اﻹسرائيلي. جنوب المدينة القديمة هاجم اللواء 16 المواقع اﻷردنية في أبو طور، شمال جبل المكبر. الهجوم كان تعرضا أماميا سيء التنفيذ أدى لوصول القوات مجزأة امام الدفاعات اﻷردنية مما مكن اﻷردنيين من إحداث خسائر كبيرة باستخدام المدفعية و اﻷسلحة الخفيفة. و مرة أخرى فشل اﻷردنيون في إعادة تنظيم قواتهم متى ما تمكن اﻹسرائيليون من اختراق مواقعهم. حيث كان هجومهم الوحيد المضاد من أربع مقاتلين الذين لم ينجحوا رغم شجاعتهم من إيقاف اﻹسرائيليين من السيطرة على التلة. بعدها استدار المهاجمون شمالا و اخترقوا المواقع اﻷردنية المدافعة عن جبل صهيون من الخلف، حيث انهارت الدفاعات اﻷردنية و انسحبت القوات امام مناورة التطويق اﻹسرائيلية.
لاحقاً ذلك اليوم، انضمت قوات المظليين شمال المدينة إلى كتيبة دبيبات الشيرمان من اللواء العاشر ميكانيكي، و التي كانت قد احتلت تل الفول، ثم أرسلت كتيبة مشاة لاحتلال رام الله و كتيبة الدبابات للشرق للمشاركة تطويق القدس. لم تستطع الوحدات اﻷردنية شرق القدس منع الدروع اﻹسرائيلية، و في منتصف الصباح كان اللواء على بعد كيلومتر واحد من تل الذخيرة. و كانت هناك كتيبة من اللواء الثالث للمشاة متموضعة شمال تل الذخيرة تمكنت من عمل كمين للقوة اﻹسرائيلية، و بمساعدة خطأ من غارة جوية إسرائيلية دمّر دباباتين شيرمان و آلتين نصف مدرعة و أصاب دبابة بعطل. و مثل تل الذخيرة كان نظام دفاع الكتيبة دائري (مثل القنفذ) على جنوب التل. أرسل اﻹسرائيليون قوة لتثبيت اﻷردنيين في خنادقهم، و أرسلت بقية القوات مع الدبابات للشمال . و رغم تصميم الدفاع الجيد، و وفرة اﻷسلحة المضادة للدبابات، لم يكن اﻷردنيون ندا للصهاينة. حارب بعض اﻷردنيون بشراسة، و اضطر اﻹسرائيليون لإخراجهم من الخنادق بقتال قريب. و لكن كما حدثت اﻷمور سابقا، لم ينجح اﻷردنيون في شن هجوم مضاد أو إعادة توزيع قواتهم لإيقاف عمليات اﻹختراق و التطهير اﻹسرائيلية.
في نهاية يوم 6 يونيو كانت المدينة القديمة بحكم المحاصرة من القوات اﻹسرائيلية. و كان طريق اوغستا-فكتوريا هو الطريق الوحيد تحت سيطرة اﻷردنيين. كان للعميد هزاع كتيبة واحدة باقية في المدينة القديمة، و مجموع نصف كتيبة من وحدات أصغر وضعها لحماية هذا الطريق. و رغم اعتقاد هزاع ان المدينة بحكم الساقطة، فإن الملك طلب منه محاولة التمسك بالمدينة القديمة و الممر حتى وصول تعزيزات. و عند المساء أرسل اﻹسرائيليون قوة مظليين مع بعض الدبابات الشيرمان لأخذ هذا الممر و إتمام الحصار على المدينة القديمة. ضل الإسرائيليون طريقهم في الظلام، و بدل أن يصعدوا المرتفع المؤدي للممر، نزلوا إلى وادي القدرون بين المدينة القديمة و الممر حيث وقعوا في مرمى النيران اﻷردنية من جهتين. دمّر اﻷردنيون دبابتين و عدة عربات نقل (جيب) قبل أن ينسحب اﻹسرائيليون و يعيدوا تجميع قواتهم. و في نفس المساء طلبت عمان من اللواء 27 مشاة تعزيز القوات المدافعة عن القدس كما وعد الملك. و في نفس الوقت اقتربت الكتيبة الثانية من اللواء 60 من المنطقة بعد ان تم إبعادها لمستوطنة رامات راحيل قبلها بيوم. و لكن كلا القوتين ضربتا من الطيران اﻹسرائيلي، اﻷمر الذي ادى لخسارة عدة دبابات و تشتت كلا القوتين و إمضاء الليل في إعادة التجميع.
الحلقة الخامسة