ينطلق كتاب النزعة العسكرية الأمريكية الجديدة لأستاذ العلاقات الدولية فى جامعة بوستن الأمريكية أندرو باسفيتش -والذى قدم له الأستاذ علاء بيومى مدير الشئون العربية بكير قراءة قيمة استعنا بها فى عرضنا- من نقطة محددة وهى غزو العراق كما أعلن المؤلف نفسه، وينتقد المؤلف العديد من كتب العلاقات الدولية التى صدرت مؤخراً لإلقائها اللوم على جورج دبليو بوش وإدارته والمحافظين الجدد وتصويرهم على أنهم المسئولون الأساسيون عن الأزمة التى تتعرض لها سياسة أمريكا الخارجية.
ويرى باسفيتش أن غزو العراق كان نتاج أخطاء كثيرة ارتكبتها مؤسسات أمريكية مختلفة منذ فترة طويلة تعود إلى الفترة التالية لحرب فيتنام التى شهدت تراجعا فى شعبية الجيش الأمريكى وفى قدرته على تحقيق أهداف أمريكا على المستوى الخارجى.
كما يحاول الكتاب - والذي قام الاستاذ علاء بيومي بعمل عرض موجز له - الإجابة على العديد من الأسئلة من نوعية: كيف وافق المجتمع الأمريكى على الحرب على العراق؟ وكيف نسى المواطن الأمريكى أو تناسى ذكريات فيتنام؟ وما المؤسسات الأمريكية التى تتحمل مسئولية ذلك التحول فى الفكر الأمريكى؟
محاولة لرصد الظاهرة وأبعادها
يحاول الكاتب وصف الأسباب التى دفعت العقل الأمريكى للموافقة على التورط فى حرب العراق فى الفصل الأول من كتابه، ويصف باسفيتش هذا بأنه مرض بالعقل الأمريكى أطلق عليه "النزعة العسكرية الأمريكية الجديدة"، وراح يرصد تداعيات هذه النزعة الجديدة ويردها لأسبابها الحقيقية.
وخلص الكاتب فى هذا الفصل للوصول إلى عدة تداعيات لظاهرة تنامى النزعة العسكرية الأمريكية يمكن تلخيصهم فيما يلى:
أولاً: تزايد حجم الإنفاق العسكر الأمريكى لدرجة تخطيه مجموع الإنفاق العسكرى للعالم كله، ويفوق الإنفاق العسكرى لأمريكا نفسها خلال الحرب البادرة بنسبة تصل إلى 12%.
ثانياً: الميل المتزايد غير المبرر من الأمريكيين لاستخدام القوة العسكرية، لدرجة نظرهم للحرب بوصفها حل ديبلوماسى.
ثالثاً: يرى المؤلف أن صورة الحرب فى عيون الأمريكيين باتت قريبة الشبه من نظرة النظم الفاشية والديكتاتورية التى كانت تعلى من شأن الحرب، وتركز على نقاطة الإيجابية فقط.
رابعاً: يلفت الكاتب نظر القراء لنقطة غاية فى الأهمية وهى أن الجيش الأمريكى أصبح بعد فيتنام جيشا تطوعيا، وأنه لا يمثل الشعب الأمريكى بجميع فئاته بل تنتمى غالبية العظمى لطبقات وشرائح فقيرة لم تحصل على كامل فرصتها فى التعليم، وأخذ فى تدعيم هذه الحقيقة بأرقام ونسب توضح هذه المقولة فيكفى أن نذكر أنه عام 2000 شكل أبناء الأقليات 42% من الجيش الأمريكى، وبلغت نسبة الجنود الذين حصلوا على تعليم جامعى 6.5 % من الجيش الأمريكى.
وبهذه الأرقام القليلة يثبت المؤلف زيف المقولة التى تروج لأن الجيش الأمريكى هو حامى حمى القيم الأمريكية، أو حتى أنه يحمل أفضل القيم الأمريكية، بل على العكس لا تثبت سوى شىء وحد وهو الانفصال بين تصور الأمريكيين المثالى للجيش وبين واقع الجيش الأمريكى.
خامساً: من أهم الأسباب لتنامى النزعة العسكرية الأمريكية حالياً ذلك النفوذ السياسى والإعلامى الطاغى لرجال الجيش وظهورهم فى شكل أقرب للصورة السينمائية للجندى الأمريكى، بالإضافة إلى حرص القادة السياسيين بمختلف اتجاهاتهم على مساندتهم للجيش والجنود مثل جون كيرى الذى اتخذ من تاريخه العسكرى وسيلة أولى لدعايته الانتخابية للرئاسة الأمريكية التى فقدها لصالح جورج بوش الابن.
فى الجزء الاول:
- الأسباب وراء تنامى النزعة العسكرية الأمريكية الجديدة؟
- الطريق للخلاص من الأوهام العسكرية.
******************
النزعة العسكرية الأمريكية الجديدة 2-2
تناولنا فى الجزء الأول من هذا الموضوع عرض الفصل الأول من كتاب النزعة العسكرية الأمريكية الجديدة لأستاذ العلاقات الدولية فى جامعة بوسطن الأمريكية أندرو باسفيتش الذى قدم فيه المؤلف تعريفاً للنزعة العسكرية الأمريكية وحاول فيه رصد الأسباب التى دفعت العقل الأمريكى للموافقة على التورط فى حرب العراق.
فى هذا الجزء نكمل معاً قراءة الكتاب لنرى كيف رأى الكاتب السياسة الأمريكية الداخلية وكيف ربط بينها وبين تنامى النزعة العسكرية فى الفكر الأمريكى الحديث بشكل ملحوظ.
سر التحول فى موقف الجيش الأمريكى
تناول باسفيتش فى الفصل الثانى من الكتاب دور قادة الجيش، وخلص إلى أن قادة الجيش الأمريكى بعد حرب فيتنام سعوا لإعادة بناء جيشهم والابتعاد به عن أية مغامرات، عن طريق الحد من سلطة القيادة المدنية على الجيش، وتخويف الرأى العام والسياسيين من إقحام الجيش فى حروب جديدة، والاعتماد المتزايد على التسليح والتكنولوجيا المتقدمة التى قد تمكن الجيش من الفوز بالحرب بأقل خسائر بشرية.
وبالفعل نجح الجيش فى الثبات على موقفه حتى حرب عاصفة الصحراء التى قلبت المعايير ليس بسبب فشل الجيش فيها وكن بسبب نجاحه، فضعف خصم أمريكا فى الحرب ومحدودية أهداف أمريكا العسكرية ساعدا الجيش على تحقيق نصر كاسح وسريع وقليل الخسائر البشرية مما فتح صفحة جديدة من التاريخ العسكرى الأمريكى زاد فيها الطلب على خدمات الجيش من قبل الساسة والمفكرين باختلاف توجهاتهم، كما رأينا فى حروب كلينتون الصغيرة التى مثلت مقدمات لنسيان الدروس التى تعلمها الجيش الأمريكى فى فيتنام.
ستة أسباب لتنامى النزعة العسكرية الأمريكية
السبب الأول: ويحمل المؤلف الجيش الأمريكى مسئولية أحداث سبتمبر التى أظهرت فشل الجيش الأمريكى فى مهمته الأولى المتمثلة فى الدفاع عن الأراضى الأمريكية، وكانت هذه الحادثة الحجة التى منحت القادة المدنيين الفرصة للتدخل وفرض إرادتهم على العسكريين.
السبب الثانى: يرى المؤلف أن المحافظين الجدد تميزوا منذ بدايتهم بإيمانهم القوى بوجود قوى الشر فى العالم، وبدور أمريكا فى محاربة هذا الشر، لكن الفرق بين الجيل الأول والجيل الثانى من المحافظين الجدد أن الجيل الثانى منهم وعلى رأسهم ويليام كريستول، وروبرت كاجين، وريتشار كروتهمر كانوا أكثر جراءة على استخدام القوة مقارنة بالجيل الأول.
ويرى أن السبب يكمن فى أن الجيل الأول ظهر فى الفترة التالية لحرب فيتنام وهى فترة عارض فيها المجتمع الأمريكى استخدام القوة العسكرية والحرب، أما الجيل الثانى فقد ظهر بعد نهاية الحرب الباردة حيث تمتعت أمريكا بموقع دولى لا نظير له مما شجع المحافظون الجدد الصغار على استخدام القوة الأمريكية بدون رادع.
السبب الثالث: فشل الرئيس جيمى كارتر فى إقناع الأمريكيين بخطابه المنادى بالسلام، واستغلال ريجان لفشل كارتر فى ترويج نظرة مليئة بالأساطير عن الجيش الأمريكى، إذ حاول ريجان فى خطابه إرضاء غرور الأمريكيين، لذا هاجم ريجان من هاجموا الجيش الأمريكى بعد فيتنام، وبدأ فى ترويج خطاب جديد يحتفل بالجنود الأمريكيين.
السبب الرابع: تزايد نفوذ الجماعات المسيحية المتدينة وتحالفها مع الجيش، حيث رأت هذه الجماعات أن الجيش هو المنقذ للمجتمع الأمريكى من القيم الثقافية السلبية التى انتشرت به، لذا أيدته بقوة وانتشرت بداخله وبررت حروبه، وهنا يعبر باسفيتش عن اعتقاده بأنه لولا تأييد المسيحيين المتدينين للنزعة العسكرية الأمريكية لما وجدت تلك النزعة، كما يعبر عن خشيته من أن تعطى الجماعات المسيحية المتدينة –مدفوعة بمعتقداتها الدينية- لحروب أمريكا الضوء الأخضر الذى أعطته لحروب إسرائيل منذ عقود.
السبب الخامس: فيرده المؤلف إلى دور خبراء الحرب والاستراتيجية الأمريكيين حيث يرى أن سلسلة من الأخطاء الفكرية والأحداث الدراماتيكية دفعت الاستراتيجيون الأمريكيون لتطوير أفكار عن الحرب مثل فكرة الحرب المحدودة.
السبب السادس: فيرتبط بفكرة الربط بين المصلحة الوطنية الأمريكية والحفاظ على تدفق صادرات النفط من الخليج وتوزيع القوات العسكرية الأمريكية بالعالم.
هذا طبعاً بالإضافة إلى دور السنما الأمريكية فى إثارة هذه النزعة وكيف أنها روجت لأساطير ليس لها أساس من الصحة عن الجيش الأمريكى، من خلال أفلام مثل: "جندى وجينتلمان"، وسلسلة أفلام "رامبو" والتى صورت الجندى الأمريكى على أنه شخص خير بطبعه يهرب من حياة اللهو داخل المجتمع ليجد حياة التضحية والالتزام ومحاربة الأشرار فى الجيش.
كما يشير باسفيتش إلى أن الرؤساء الأمريكيين من بعد ريجان اضطروا لاعتماد خطاب ريجان الرافع من شأن الجندى الأمريكى حتى لا يظهروا أمام الناخبين وكأنهم سلبيين أو متشائمين.
نصائح لكبح جماح النزعة العسكرية الأمريكية
فى خاتمة الكتاب يرى باسفيتش أنه من الصعب العثور على حل واحد وسريع للحد من تصاعد النزعة العسكرية الأمريكية، ويكتفى بتقديم عدد من النصائح مثل:
1- تقوية سلطات الكونجرس الأمريكى مقارنة بالبيت الأبيض فيما يتعلق بسلطة إعلان الحرب.
2- دعوة الأمريكيين لرفض مبدأ الحرب الوقائية والنظر للحرب على أنها ملاذ أخير.
3- تقليل الاعتماد الأمريكى على نفط الخليج.
4- إعادة نشر القوات الأمريكية فى العالم للتعبير عن مواقف دفاعية بدلا من استعراض القوة.
5- حث حلفاء أمريكا الرئيسيين على تحمل مسئوليتهم فى حماية الأمن الشخصى.
6- الحد من الإنفاق العسكرى الأمريكى وتدعيم مؤسسات الدبلوماسية الأمريكية بمزيد من الموارد والنفوذ.