الخلافة العثمانية .. جهاد وفتوحات
اتخذت أوروبا موقفًا عدائيًّا ضدَّ الإسلامِ عبر التاريخ، وذلك نتيجةَ الجهلِ به، وخوفِهم على مصالِحهم السياسية وسياستهم الاستعمارية، وقد بدأ هذا الموقفُ منذ عهدِ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - عندما حشد الرُّوم حشودَهم وعبَّؤوا حلفاءَهم للقضاءِ على الدولةِ الإسلامية الناشئة، ولكنَّ الله ردَّ كيدَهم إلى النحر، وكلَّل جندَه بالنصر، وامتدتْ رايةُ الفتح في عهد الخلفاء الراشدين لتنتزعَ أغلى ما في تيجانِهم من دُرر، ثم اجتازت جيوش الدولة الاموية مضيقَ جبلِ طارق من ناحيةِ الغرب، وعبرتْ جبالَ البرانس لتصلَ إلى مشارفِ باريس.
وظهرتِ الرُّوحُ الصليبية في أعتى صورِها في الحروب الصليبية في المشرقِ التي استمرَّتْ نحو قرنين من الزمان، ثم ارتدتْ على أعقابِها مدحورة، والحروب الصليبية في المغربِ التي سقطت فيها الأندلس في أيدي الإسبان.
ولم تكد أوروبا تظهر فرحتَها بسقوطِ السلاجقة الذين أذاقوها مرارةَ الهزيمة مرَّاتٍ، وأسروا أباطرتها، وانتزعوا من الرُّوم أعظمَ ممتلكاتِهم في آسيا الصغرى، حتَّى ظهر لهم الخطر الإسلامي من جديدٍ؛ ممثلاً في الدولةِ العثمانية الفَتِيَّة المجاهدة، فغلبتْهم على ما بقي لهم في آسيا، وبقي على العثمانيين أن يعبُروا البسفورَ إلى الشاطئ الأوروبي.
نظر الأوروبيون الى الدولة العثمانية على أنَّها ممثلةُ الإسلام وحاملةُ رايتِه، ومن ثَمَّ تكتَّلتْ جهودُهم لوقفِ مدِّها، ثم إضعافِها والإجهاز عليها، كما جنَّدوا أقلامَ مفكريهم ومؤرِّخيهم لتشويهِ تاريخِها وكيل الاتهامات لها.
معركة قوصوة
وبعد الانتصارِ تقدَّم السلطان مراد إلى سهلِ كوسوفو، وهناك قَدِم عليه أميرٌ صربي متظاهرًا بالطَّاعةِ والخضوع، والرَّغبةِ في تقديم فروضِ الولاء للسُّلطان، وتقدَّم إليه ليقبلَ يدَه ثُمَّ عاجلَه بخنجرٍ مسموم، فسقط مضرجًا في الدِّماء، وأصبح في عداد الشُّهداء، وأبى رجالُه أن يذهبَ دمُه هباءً، فجدُّوا في قتال الأعداء، وسقط ملكُ الصِّربِ "لازار" بين الأسرى، ومعه عددٌ كبيرٌ من النبلاء، وسِيقوا يرسفون في الأغلالِ، وقُتِلوا أمام جثمانِ السُّلطانِ في ميدان القتال.
وكان من نتائجِ معاركِ قوصوة أن أصبحتْ بلادُ الصرب والبلغار ولاياتٍ تابعةً للتاج العثماني، وامتدت حدودُ الدولة إلى نهرِ الدانوب.
معركة نيقوبولس
وفي نفسِ الوقت الذي غزا فيه العثمانيون شرقي أوربا، كانت جيوشُهم قد استولتْ على الجيوبِ الباقية والإمارات الصغيرةِ التي قامتْ في الأناضول على أنقاضِ دولة السلاجفة، واستكملتْ هذه المرحلة في عهدِ السُّلطان بايزيد الاول وقد أدَّى انشغالُ هذا السلطانِ في حروبِه بالأناضول إلى تجرؤ القوى الأوربية، وعلى رأسِها ملكُ المجر الذي تباركُه الكنيسةُ الكاثوليكية في روما على مناهضةِ العثمانيين، واسترداد كثيرٍ من المدن التي فتحوها في أوربا، وفي نفسِ الوقتِ كانت الدولة العثمانية تستعدُّ لمواجهةِ خطرٍ جديدٍ قادم من المشرقِ يمثِّلُه تيمور لنك التتري.
واجتمعتِ القوى الأوربية ومن شرقي أوربا وغربيها على ضرورةِ طردِ العثمانيين المسلمين من قارَّتِهم، ووجَّه البابا "بونيفاس التاسع" نداءً إلى جميع ملوكِ أوربا وأمرائها يدعوهم إلى التحالُفِ والاستنفار في مواجهةِ عدوِّهم المشترك، فاستجاب له ملوكُ: (إنجلترا وفرنسا وألمانيا وبلجيكا وإسكتلندا وسويسرا ولوكسمبرج وبولندا وروسيا وترنسلفانيا وفرسان القديس يوحنا في رودس، والإمارات الإيطالية وبخاصة جنوة والبندقية)، وحشدوا حوالي مائة وعشرين ألفًا عند مدينة "نيقوبولس " الواقعةِ على نهر الدانوب في بلغاريا قربَ الحدودِ الرُّومانية.
ولكنَّ الكثرةَ العددية لم تكن أبدًا مدارَ النّصرِ والهزيمة، وإنَّما النصرُ من عند الله، ويُنال بالصَّبرِ والمصابرةِ والإيمان والتُّقى والأخذِ بالأسباب، واستطاع السُّلطانُ بايزيد الأول بن مراد أنْ يلحقَ بهم هزيمةً نكراء، وساق نبلاءَهم أسرى في موقعةِ نيقوبولس" (سنة 799هـ/ 1396م)، وبذلك رسختْ أقدامُ العثمانيين في البلقانِ، وامتدَّتْ دولتُهم من الفراتِ شرقًا إلى الدانوب غربًا، ونمتِ الأنباءُ بذلك في أرجاءِ العالَمِ الإسلامي، فعمَّت الفرحةُ قلوبَ المسلمين، واعتبروا انتصاراتِ العثمانيين تجديدًا لدماء الإسلام.
العثمانيون وتيمور لنك
وأراد العثمانيون مواصلةَ انتصاراتِهم في أوربا، وحاصروا القسطنطينة حتَّى ترنَّحتْ نحو السُّقوط، ولكنَّ الأوضاعَ انقلبت رأسًا على عقبٍ بقدومِ السَّيل الدَّاهم من الشرقِ ممثَّلاً في خطر المغولِ بقيادة تيمور لنك، فاضطر السُّلطانُ بايزيد الأول إلى عقدِ الصُّلحِ مع أهلِ المدينة، على التزامِهم بالجزية وبناءِ مسجدٍ جامع للمسلمين الموجودين بها، ورحل عنها بقواته.
الهجوم التتري ونتائجه
كان تيمور لنك يحكمُ دولةَ التتارِ في وسطِ آسيا وبلادِ الفرس، واستطاعَ أن يوسِّعَ دائرةَ ملكِه، فاستولى على بلاد الأفغانِ والهند في الشَّرق، ثم اتجه غربًا فاستولى على جورجيا وأرمينيا وكردستان، وأصبح وجهًا لوجهٍ أمام دولتي المماليك والعثمانيين، وقد اجتاح كثيرًا من مدنِ الشَّام، حتَّى دخل حلب ودمشق سنة (802هـ/ 1400م)، ثُمَّ اتجه نحو ممتلكاتِ العثمانيين في آسيا، ووصل إلى سهولِ أنقرة سنة (805هـ/ 1402م).
معركة أنقرة
وكان اللقاءُ الكبير بين القوَّتينِ المعروفتين بالشِّدةِ والبأس، وتلاحمتِ الصُّفوف وتقارعتِ السيوف، واستمرَّ القتال، وتساقطَ الأبطال، واستبسلَ السُّلطانُ بايزيد نهارًا بأكملِه أو يزيد، من مشرقِ الشَّمس إلى مغربِها، حتَّى وقع المحظور وانضمَّ من معه من أصولٍ تترية، وبعض الإماراتِ التركية التي أذعنتْ لطاعتِه حديثًا إلى صفوفِ عدوِّه تيمور، وإذا برحى الحربِ عليه تدور، واستشهد ابنُه مصطفى حلبي، ولاذ بعضُ رجالِه بالفرار، وبقي في المعركةِ فردًا، ولم يكن من وقوعه في الأسر بد، وسِيق إلى سمرقند مُكبَّلاً، وبقي فيها حتَّى مات كمدًا، ثم نقلت جثتُه إلى بروسة؛ حيث دُفِن بجوار قبر أبيه.
وكان مِن نتائج هزيمةِ أنقرة هذه أن فقَد العثمانيون معظمَ قوتِهم العسكرية، وانكمشوا حينًا، وفرَّتْ كثيرٌ من العائلاتِ التركية من المناطقِ الآسيوية إلى المناطقِ الأوربية خوفًا من التتار، حتَّى أصبحَ عددُ الأتراك بأوربا أكثر من الأناضول، وساعدَ ذلك على انتشارِ الإسلام في هذه المناطق، وتوقَّفتْ خططُ العثمانيين للتوسُّعِ في أوربا، وأصبحتِ القسطنطينية في مأمنٍ من هجماتِهم، وتأخَّرَ سقوطُها حوالي نصف قرن.
وابتهج العالَمُ الأوربي المسيحي بما نال العثمانيين، وهلَّلوا لانتصارِ التتار، حتَّى إنَّ بعضَ ملوك أوربا - مثل هنري الرابع ملك إنجلترا - أرسلوا إلى تيمور لنك يدعونَهُ إلى التحوُّلِ عن الإسلامِ واعتناقِ النصرانية، على أن يعترفوا به زعيمًا للعالم المسيحي.
وفقد العثمانيون معظمَ ممتلكاتهم في آسيا، واستقلَّتِ البلغارُ والصِّرب في أوربا، وأمر الإمبراطورُ البيزنطي بهدمِ المساجد التي بُنِيتْ في القسطنطينية، وطردِ أئمَّتِها وعلمائها ورعايا العثمانيين الموجودين هناك.
وتتابعتْ موجاتُ الهجرة من أنحاء آسيا أمام هجماتِ تيمور لنك الشَّرسة وأكثرُهم من الأتراكِ المسلمين، ووصلتْ إلى الأناضولِ فصبغتْه بالصبغةِ الإسلاميةِ الخالصة، وكان في الوافدين بعضُ الفرسِ الذين يدَّعون أنَّهم أصحابُ التفوقِ والمدنية، ويسعون لعودةِ مجدِهم القديم، وبعضُ الفِرَقِ الإسلاميةِ المغالية والمنحرفة عن الجادَّةِ، ولكنَّهم كانوا أقلية.
الصحوة العثمانية والنهوض من الكبوة
برغم ما لقيه العثمانيون من آثارِ الغزو التتري فإنَّهم حافظوا على وجودِهم وبقائهم، ويعلِّل المؤرِّخون ذلك بأنَّهم تلقوا هذه الضربةَ وهم في طورِ البناء والتكوين والفتوة، وليسوا في مرحلةِ الشَّيخوخةِ والهرم، فكان من السَّهلِ عليهم امتصاصُ هذه الضربات، وتضميدُ الجراح، والنهوضُ من جديدٍ، وقد قدَّم لهم تيمور خدماتٍ من حيث لا يدري؛ لأنَّه دفع بجموعٍ تركية مسلمة إلى المنطقةِ، فضاعفتْ من قوةِ الدولة، كما أنَّه استولى على ميناءِ أزمير البيزنطي، الذي استعصى على العثمانيين من قبل.
وقد توفي تيمور عقب ذلك في "أورناوة" ببلادِ التركستان في السابعِ عشر من شعبان سنة (807هـ/ 19 من فبراير سنة 1405م)، ووقع الخلافُ بين أبنائِه، ومن ثَمَّ نجح السُّلطانُ العثماني محمد الأول بن بايزيد (805 - 824هـ/ 1402 - 1421م) أن يتغلَّبَ على المشكلاتِ الداخلية، ويستردَّ كلَّ ما فقدتْه دولتُه أمام غزوِ المغول، واتَّخذَ من مدينةِ أدرنة عاصمةً له، وتمكَّنَ من إخضاعِ بلغاريا وصربيا من جديد، وبذلك محا كلَّ أثرٍ لهزيمةِ أنقرة، وتمكَّنَ من توحيدِ دولتِه من جديد.
السلطان مراد الثاني
وواصل سياسيتَه ابنُه مراد الثاني (824 - 855هـ/ 1421 - 1451م) فركَّز اهتمامَه على بناءِ جيشٍ قوي واقتصادٍ سليم، وتأمينِ المناطق الحدودية.
وشرع السُّلطانُ مراد الثاني في استحداثِ فرقٍ عسكرية من نوعٍ خاص، معدة إعدادًا جيدًا للقتالِ؛ عُرِفت بفرق الانكشارية لتكونَ معتمدةً في تحقيقِ أهدافِه التوسعية الطموحة في البلقان، وفي مواجهةِ مخطَّطاتِ إمبراطور القسطنطينية ومكايدِه؛ إذ كان يساعِدُ المتمرِّدين والثَّائرين ضدَّ السُّلطان.
وضرب السلطانُ حصارًا قويًّا حول القسطنطنيةِ لشلِّ حركتِها وإضعافها، ثم اتَّجه إلى ألبانيا والمجر، وتمكَّن من الاستيلاءِ على الشطرِ الجنوبي من ألبانيا، أمَّا الشطرُ الشمالي منها فقد واجه فيه مقاومةً عنيدة، وتكبَّدتْ جيوشُه خسائرَ كبيرة؛ نظرًا لطبيعةِ المنطقة الجبلية الوعِرة، وتعرَّضَ جنودُه لحربِ العصابات، ومؤازرةِ البندقيةِ للألبان بالإمدادات عن طريق البحر.
وفي المجر واجه السُّلطانُ تحالفًا صليبيًّا من البابا "يوجين" الرابع، وعديدٍ من الدول من بينهم الإمبراطورية البيزنطية، فتمكَّنوا من إلحاقِ الهزيمةِ به في موقعة نيش سنة (847هـ/ 1443م)، ولكنَّ عينَ السلطان لم تقر حتَّى ثأرَ لهزيمتِه في العام التالي في موقعة "وارنة"؛ وهي ميناء بلغاري يقعُ على البحر الأسود، وفقدت المجرُ زهرةَ شبابِها وخيرةَ فرسانِها، وعجزتْ بعدها عن القيامِ بأيِّ عملٍ حربي، ويئستِ القوى الصَّليبيةُ من التحالفِ ضدَّ العثمانيين، ولم يجتمعْ بعد ذلك في حربٍ مشتركة ضدهم.
فتح القسطنطينية
كان فتح القسطنطينة حلمًا يراودُ المسلمين منذ فجر تاريخِهم، وبشَّر به الرَّسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قبل أن يحدثَ بثمانيةِ قرون ونصف قرن، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش))[1]، وحاول كثيرٌ من الخلفاءِ والأمراء أن يحقِّقَ هذه البشرى، ويظفرَ بهذا الثَّناءِ النبوي، حتَّى استأثرَ به السُّلطانُ محمد الثاني بن مراد الثاني، الذي لُقِّب بالفاتح، وذلك في سنة (857هـ/ 1453م)، وتغيَّرَ بذلك وجهُ التَّاريخ، وخريطةُ العالم السِّياسية.
بُنيت القسطنطينية على أنقاضِ قريةٍ قديمة كانت تُسمَّى بيزنطة، يُقالُ: إنَّ بعضَ اليونانيين أنشؤوها حوالي سنة (657ق. م)، فاتخذها الإمبراطورُ "قسطنطين" عاصمةً لدولتِه بعد سقوط روما والشطرِ الغربي من الإمبراطورية في أيدي الوندال، في القرنِ الرابع الميلادي وسمَّاها باسمِه، وأصبحتْ منذُ ذلك الحينِ عاصمةً للإمبراطورية الشَّرقيةِ، التي عُرِفتْ باسم دولة الروم.
وهي مدينةٌ حصينة تقعُ على القرنِ الذَّهبي؛ وهو أحدُ خلجان البسفور، ويشبه في انحنائه القرنَ أو المنجل، ويبلغ طولُه سبعةَ أميال، وعند اتصالِه ببحرِ مرمرة توجدُ شبهُ جزيرةٍ صغيرة من التِّلالِ تشبهُ مثلثًا متساوي الساقين؛ رأسه تقابِلُ الشاطئ الآسيوي، وقاعدتُه على بحرِ مرمرة، وضلعُه الأيمن على خليج القرنِ الذَّهبي، وضلعُه الأيسر يتصلُ بالقارَّةِ الأوربية، وبذلك تحيطُ بها المياهُ من جهاتِها الشَّمالية والشَّرقية والجنوبية، ويسهلُ وصولُ الإمدادِ إليها عن طريقِ البحر، ويصعبُ على الجيوشِ الغازيةِ محاصرتُها أو اقتحامها، وقد اتخذ أهلُها فوقَ ذلك أسوارًا عالية، وأبراجًا شاهقة، وزوَّدوها بكلِّ وسائلِ الدِّفاع، إلى جانب ارتفاعها فوقَ التِّلال، وكانوا يستخدمون نوعًا من القذائفِ عُرِفت بالنَّارِ الإغريقية لا تنطفئ بالماء، يلقونها على السُّفنِ والقواتِ المهاجمة.
وقد اتَّخذت بيزنطةُ أو القسطنطينية موقفًا معاديًا للإسلام منذ مبدأ دعوتِه؛ بتحرُّشها بالمسلمين وتأليبِ القبائل الشمالية ضدَّهم، فتصدَّى لهم المسلمون في غزوتي مؤتة سنة (7 هـ)، وتبوك سنة (9 هـ)، ثم تجدَّد الخطرُ، وتمكَّن المسلمون في خلافةِ أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - من إنزالِ الهزائم بالرُّوم، وانتزاعِ أغلى ممتلكاتِهم في مصر والشام الأفريقي، واستحكم العداءُ بينهم وبين الإسلامِ وأهلِه.
وغزاهم الأمويون ثلاثَ مرات، وضربوا الحصارَ حول القسطنطينية برًّا وبحرًا؛ اثنتان منهما في خلافةِ معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما -: أولاهما سنة (49 هـ)، وكان يزيد بن معاوية يقودُ المسلمين، وإلى جوارِه الصَّحابيُّ الجليل أبو أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - الذي استُشهِدَ تحتَ أسوار القسطنطينية، وأصبح قبرُه رمزًا للجهادِ ضد الرُّوم في الأجيال التالية، ينادي المسلمين أن يحرِّروه من أسرِ الأعداء، ورجعتِ الحملةُ في صيفِ سنة (50هـ)، والمرة الثَّانية في خلافة معاوية أيضًا سنة (54هـ) بقيادةِ عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، واستمرَّتْ حتَّى سنة (60هـ) وعُرِفت بحرب السنين السَّبع، تعاقبَ فيها عددٌ من المسلمين على قيادةِ الجيش، ولكنَّهم عجزوا عن اقتحامِ الأسوار الحصينة.
وكان الوليد بن عبد الملك الأموي (86 - 96هـ) يرمي إلى غزوِ القسطنطينية شرقًا من ناحيةِ الشَّام وغربًا من ناحيةِ أوربا بعد أن نجحتْ جيوشُه في فتح الأندلس، وتُوفي الوليد وهو يستعدُّ للحملةِ، فاستكمل أخوه وخلفهُ سليمان بن عبد الملك المسيرة، وتحرَّكتِ الحملةُ الكبيرة بقيادةِ أخيه مسلمة بن عبد الملك سنة (98هـ) وتحت لوائه ثمانون ألفًا من الجندِ، وثمانمائة سفينة تمخرُ عبابَ البحر، وتحمَّلَ المسلمون بردَ الشتاء القارس، والنَّارَ الإغريقية وسوءَ الأحوالِ الجوية، ولكنَّهم لم يتمكَّنوا من اقتحامِ المدينة، وتُوفي سليمان واضطرَّ الخليفةُ الجديد عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - إلى سحبِ قواته.
وفي العصرِ العباسي الزَّاهر قام وليُّ العهدِ هارون الرشيد في خلافةِ أبيه المهدي سنة (165هـ/ 781م) بمحاصرةِ القسطنطينية حتَّى أذعنوا للصُّلحِ والجزية.
وتوقفتْ بعد ذلك محاولاتُ المسلمين لغزو العاصمةِ الرومية، وانشغلوا بصراعاتِهم فيما بينهم، وبمواجهةِ القوى التتارية والصَّليبية الغازية، وبرغمِ أنه لم يكن يبدو في الأفُقِ ما يبشِّرُ بفتحِ هذه المدينة قبل ظهورِ العثمانيين، فإنَّ الثِّقةَ في تحقيقِ البُشرى النبوية لم تغبْ عن المسلمين، وقال ابن كثير المتوفَّى سنةَ (774هـ)؛ أي: قبل أنْ تُفتحَ المدينةُ بثلاثٍ وثمانين سنة: "ولكن سيملكُها المسلمون في آخرِ الزَّمانِ على ما صحَّتْ به الأحاديثُ عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في صحيحِ مسلمٍ وغيرِه"[2].
وسيطرَ هذا الأملُ على مشاعرِ السُّلطان محمد الفاتح منذ نعومةِ أظافره، وهو يقرأُ هذا التاريخَ، ويدرسُ محاولاتِ المسلمين لفتحِ المدينة العنيدة، ويسمعُ حديثَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - مبشِّرًا بفتحِها، من أستاذِه ومربِّيه الشيخ آق شمس الدين، ويقولُ المؤرِّخ التركي حلمي دانشمند في "موسوعة التاريخ العثماني": "إنَّ محمَّدًا الثاني منذ اعتلائه العرشَ سنة (855هـ/ 1415م) كان يمضي كلَّ ليلةٍ ساعاتٍ طويلة في دراسةِ خريطة القسطنطينية ودفاعاتِها وتحصيناتها، ويحفظُ عن ظهرِ قلبٍ المحاولاتِ الإسلاميةِ السَّابقة لفتحها، ويناقشُ تفاصيلَها مع رجالِه ليستقي منها العبرةَ والخبرة".
وقرَّر السُّلطانُ أنْ يكرِّس كلَّ جهدِه لغزو القسطنطينية، فهادنَ أعداءَه وسالَمَ جيرانَه، حتَّى لا يشغله الصراعُ معهم عن هدفِه الأسمى، وعقد معاهداتِ الصلح مع ملوكِ المجر والبوسنة والبندقية وألبانيا.
وأنشأ السُّلطانُ في مقابل القسطنطينيةِ على الشاطئ الأوربي من البسفور قلعةً ضخمةً أسماها "روملي حصار"؛ أي: قلعة الروم، وشرع في بنائِها سنة (856هـ/ 1452م)، وشارك بنفسِه في أعمالِ البناء، وجعلها على شكلِ مثلَّثٍ في كلِّ زاويةٍ منه برجٌ ضخم مغطَّى بالرصاصِ، سمكُ جدرانِه اثنان وثلاثون قدمًا، وجعل فيها مقرَّ قيادتِه، ورابط فيها بنفسِه.
وكانتِ القلعةُ الجديدة تبعدُ عن القسطنطينية بسبعة كيلو مترات فقط، وهيَّأتْ للعثمانيين السيطرةَ على مدخلي البسفور الآسيوي والأوربي، ومنعتْ وصولَ الإمداداتِ للقسطنطينية من حلفائِها، وانتشرتْ حولَ القلعةِ مئاتُ المجانيقِ والمدافع الكبيرة المصوَّبة نحو الروم.
وارتعدت فرائصُ الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر وهو يرى كلَّ يومٍ هذه الاستعداداتِ المتزايدة، فعرض الصَّلحَ والجزية، ولكن هيهات، واستنجدَ بالكنيسةِ الكاثوليكية في روما وبملوك أوربا، وأخذ يقدِّمُ لهم التنازلاتِ، ويحذِّرُهم عواقبَ سقوط القسطنطينية، ولكنَّهم تخوَّفوا وأحجموا، ولم يستجب له سوى إمارة جنوة.
واستغرقتْ استعداداتُ السُّلطان عامين كاملين، واستعان بمهندسٍ مجرى صمَّمَ له نوعًا من المدافعِ الضَّخمةِ عُرِفت "بالمدافع السلطانية" تستطيعُ دكَّ هذه الأسوارِ المنيعة.
وحانت ساعةُ الصِّفر، ووصلت حشودُ السلطان وقواتُه الرئيسة من أدرنة، وكانت حوالي مائتي ألف جندي، وحمَّس السُّلطان جنودَه، ووعدَهم بأنْ تكونَ الغنائمُ كلُّها من نصيبِهم وقال: "تكفيني المدينة".
وكان أضعفُ تحصيناتِ الرُّوم من ناحيةِ القرن الذهبي، الذي كان من المستحيلِ على السُّفنِ اقتحامُه؛ لأنَّ الرُّوم أغلقوا مدخلَه بسلاسلَ حديديةٍ ضخمة وموانعَ قويةٍ، ففكَّر السُّلطانُ في طريقةٍ فذَّةٍ لم يسبق لها مثيل في التَّاريخ؛ وهي نقل السُّفنِ على اليابسة! من البسفورِ إلى الخليج الذهبي، وهي مسافةٌ من الأرضِ تبلغُ أحد عشر كيلو مترًا، فعبَّدَ الطَّريقَ وفرشَه بألواحٍ من الأخشابِ الضَّخمةِ بانحدارٍ مدروس، ودحرج عليها السُّفنَ الضَّخمةَ بواسطةِ بكرٍ من خشبٍ تجرُّها الثيران، حتَّى تَمَّ نقلُ أربعمائة سفينة تحتَ جنحِ الظَّلام في ليلة واحدةٍ من البسفور إلى القرنِ الذهبي، وفوجئ الرُّوم بهذا الحصارِ البحري مفاجأة مذهلة.
واستمرَّ الحصارُ برًّا وبحرًا خمسين يومًا، وقاتل الفريقان بشجاعةٍ نادرة، وعملتِ المدافعُ السلطانية الضَّخمة عملَها، فدكتِ الأسوارَ وقصفتِ الأبراجَ وحطَّمت الأبواب، ومع توالي القصفِ أصبح واضحًا أنَّ المدينةَ لن تحتملَ الحصارَ، وأنَّها قاب قوسين أو أدنى من السُّقوط، فعرض السُّلطانُ العثماني على الإمبراطورِ قسطنطين الحادي عشر تسليمَ المدينة مقابلَ تأمينِ سكانِها على أنفسِهم وأموالهم، ومنحه ولايةً أخرى يحكُمها باسمِ العثمانيين فأبى إلا المقاومة، وظلَّ يناضلُ حتَّى سقط قتيلاً، واقتحم الجندُ العثماني - وكان منهم عددٌ كبير من العلماء والفقهاء - المدينةَ العذراء لأولِ مرة، بعد أن استعصتْ على جميعِ الفاتحين عبر التَّاريخ، وما لبث العثمانيون الفاتحون أن تعرَّفوا على قبرِ أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - وأولوه عنايةً واهتمامًا بعد أن حرَّروه من أسرِ الرُّوم، وصار رمزًا لهذا الجهادِ الطويل.
وظهرتِ الرُّوحُ الإسلامية السمحة في يومِ الفتح، فقد دخلَ السلطان محمد الثاني القسطنطينية في سنة (857هـ/ 1453م) وهو صائم، فسجد لله شكرًا في تواضعٍ جم، ومعه العلماءُ ورجالاتُ الإسلام، ونهى الجندَ عن الاعتداءِ والنَّهب، ومنع القتلَ وسفكَ الدِّماء، وأمَّنَ الآهلين وقرَّر حريةَ العباداتِ للنَّصارى الأرثوذكس، ومنح اليونانَ والأرمن من أهلِ القسطنطينية امتيازاتٍ خاصة.
وردًّا على ما فعله الإسبانُ بالمسلمين في الأندلسِ، وتحويل مساجدهم إلى كنائس، ومنها المسجد الجامع في قرطبة، أمر السلطانُ بتحويلِ كنيسة أيا صوفيا أكبر كنائسِ القسطنطينية إلى مسجد، وأضيفت إليه أربعُ مآذن، وعندما ظهرَ أتاتورك حوَّل هذا المسجدَ إلى متحفٍ ومنع الصَّلاةَ فيه، وظلَّ كذلك حتى الآن، ولم تستطع الحكومةُ التركية أن تفتحَه للصَّلاةِ فيه لاعتراضِ اليونان والدول الأوربية على ذلك!
واكتسب العثمانيون بهذا الفتحِ تقديرَ العالم الإسلامي، وأقيمت الزِّيناتُ في سائرِ بلاد المسلمين ابتهاجًا بهذا النصر المبين، وتحقَّق وعدُ الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم.
وسقطتْ منذ ذلك التاريخِ الدولةُ البيزنطية إلى الأبد، واعتبره المؤرِّخون خاتمةً لما عُرِف بالعصورِ الوسطى وبدايةً للتاريخ الحديث، وتحوَّلتْ القسطنطينيةُ إلى عاصمةٍ إسلامية تحملُ اسمًا جديدًا؛ هو "إسلام بول، أو إستانبول"؛ أي: مدينة الإسلام.
وتخلَّصَ العثمانيون والمسلمون جميعًا من عدوٍّ لدود هو الرُّوم، الذين كان لهم دورٌ كبير في شنِّ الحروبِ الصليبية على العالم الإسلامي لمدة قرنين، وكانوا باستمرارٍ يؤلِّبون القوى النَّصرانية، ويشحذون عزائمَ الملوكِ في أوربا لغزوِ المسلمين، ويصدرون قراراتِ الحرمان ضدَّ كلِّ من يتقاعسُ عن ذلك، واكتسبتِ الدولةُ العثمانية قوةً سياسية واقتصادية ضخمة، فأصبحتْ أعظمَ دولةٍ في حوضِ البحر المتوسط، ودانت لها دولُ أوربا بالجزية.
وأصبحت إسلامبول أو الأستانة بعد ذلك مقرًّا للسلطان العثماني المسلم الذي تلقَّبَ بأمير المؤمنين، ومقرًّا لشيخِ الإسلام، وظلَّت حاضرة للدولة العثمانية الإسلامية حتَّى قام أتاتورك بنقلِ العاصمةِ إلى أنقرة، رمزًا لنبذِه الحضارةِ الإسلامية والاتجاه الإسلامي.
وترتَّبَ على سقوطِ القسطنطينية رحيلُ كثيرٍ من علمائها وأدبائها إلى دولِ غربي أوربا؛ مثل فرنسا وألمانيا، فشاركوا في حركةِ النهضة الأوربية الحديثة،ِ ونقلوا إليها فنونَ اليونان والرُّوم.
فتوحات العثمانيين في شرقي أوربا
كان من السَّهلِ على العثمانيين بعد ذلك مواصلة الفتوحاتِ في شرقي أوربا، ومنطقةِ البحرِ الأسود وغيرها من ممتلكات الدولة البيزنطية المنهارة، وأصبحوا هم الوريث لها، وضمُّوا إليهم بلادَ الصِّربِ والبوسنةِ والهرسك وشبه جزيرة المورة من بلادِ اليونان، وبلادِ القرم الواقعةِ على البحر الأسود، واستولوا على محطاتِ الجنوبيين التَّجارية في بحرِ إيجة، كما قاموا بمحاولاتٍ لفتح بلجراد وإيطاليا، وأثينا، وذلك في عهد السلطان محمد الفاتح أيضًا.
وتواصلتِ الفتوحاتُ في أوربا في عهدِ بايزيد الثاني بن محمد الفاتح (886 - 918هـ/ 1481 - 1512م)، فغزا بولندا والبنادقة، ودحر تحالفًا صليبيًّا في معركةِ ليبانتو سنة (905هـ/ 1499م)، وأرسل أساطيلَه إلى البحرِ المتوسط لنجدةِ المسلمين المطرودين من الأندلس، وساهم في نقلِهم إلى الشَّاطئ المغربي، وهزمَ أساطيلَ البابا وإسبانيا والبندقية.